عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

حماية للثوابت.. وليس رداً على كاتب..!

حماية للثوابت.. وليس رداً على كاتب..!

صحيفة الشرق القطرية

أحدهم كتب منتقداً إفتاء علماء فلسطين بحرمة التنازل عن المقدسات وحرمة التنسيق الأمني مع العدو المحتل، واعتبار حق العودة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني من الثوابت الدينية وليس فقط الوطنية.. وبنى على اختلاف الفتوى من حال إلى حال ومن عالِم لآخر رفضه لتدخلهم في الشأن السياسي.. ولم يفرق بين الفتاوى (المعلبة) التي ينخرط مفتوها في أجندات سياسية حزبية أو حكومية لتسويغ الباطل وتسويق السياسات المشبوهة، وبين فتاوى الأنقياء والمجاهدين من العلماء التي دافعها تحصين المواقف الوطنية وإسباغ الشرعية الدينية على عناوين الجهاد والمقاومة وحقوق الأمة والحفاظ على هويتها، كما لم يفرق بين حالة وحالة تجعل نفس العالم يفتي في ذات القضية بحكمين مختلفين تبعاً لذلك.. وضرب لذلك مثالاً: فتوى تحريم المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 1996م وامتناع حماس بناء على ذلك من خوضها، في حين وافقت عليها بعد عشر سنوات وحرصت عليها.. جاهلاً أو متجاهلاً فروق ما بين المرتين وأن الانتخابات الأولى كانت لإدخال الشعب الفلسطيني تحت سقف أوسلو وهي مفسدة أي مفسدة! – وقد أثبتت الأيام ذلك ولا تزال – وأن الثانية عام 2006م كانت لإخراج الشعب الفلسطيني من تحت أوسلو وللحد من التدهور السياسي والأمني والأخلاقي الذي مارسه ويمارسه أيتام أوسلو الذين استقووا بمؤسسات السلطة ضد المقاومة وجعلوا التشريعي أحد أهم أسلحتهم لتطويع رقاب الناس في خدمة الاحتلال ولحماية مفاسدهم، الكاتب ذكر بعض المقدمات الصحيحة إجمالاً وتجاوزاً واستعمل أحياناً شواهد مناسبة وملاحظات جديرة، ولكن ما استخرجه منها من دلالات وخلاصات كان في غاية الفجاجة واللاموضوعية وعكست تهافت فهمه الديني والسياسي في آن معاً ومن ذلك قوله (غالب – إن لم يكن كل الفتاوى الدينية المعاصرة التي تدخلت في السياسة – عكست قصر نظر من أصدرها وجهله) وهذه مقدمة صحيحة في العموم.. ولكنه قال مستخلصاً ومخاطباً علماء الشريعة: (كفوا فتاواكم عن السياسة احتراماً للدين والناس..) ولم يقل: إذن فعلى العلماء أن يتثقفوا سياسياً وأن تكون لهم مصادرهم المستقلة والبعيدة عن التلقين وتبعية المواقف الرسمية، كما لم يطلب السماح لهم بالمشاركة في صنع الأحداث حتى إذا تكلموا كان فيما يعلمون.

أقول: فإذا كانت هذه القضية – الفتوى السياسية ومبرراتها وضوابطها – قد أشكلت على كاتب كصاحبنا، فكيف بغيره ممن لم يبلغ – افتراضاً – مبلغه من الوعي الديني والسياسي؟ لذا رأيت أن أكتب اليوم في هذا الموضوع الذي يستثقل كثير من الناس القراءة والكتابة فيه.. لما لهذا الموضوع من مساس بالرأي العام ومكوناته الفكرية والدينية.. وبهدف تجريد الدين مما يعلقه عليه من يهرفون بما لا يعرفون، والثرثارون، والمشتبهون، ممن إذا أعوزهم الموضوع تعرضوا للدين (شايفينه حيطة الواطية).

وأقول ابتداء: لا يجوز ولا يصح إبعاد علماء الشريعة عن العمل السياسي والتعاطي مع الأحداث، لأن العالِم الذي استوفى شروط الفتوى وأدوات الاجتهاد – وليس كل مدع – يفتي بما تحصل لديه من القناعات المنسجمة مع الفهم الموضوعي للنص ومع ما يراه مصلحة عليا للأمة مستأنساً بفهم غيره ولكنه لا يطالب به ولا يتبع بما يملى عليه، وثانياً: أن العلماء جزء من الأمة من ناحية أثر الأحداث عليهم، وأثرهم عليها وانتمائهم للوطن وحقهم – بل واجبهم – في الدفاع عن الوطن، ولا يصح أن يصير علمهم حاجراً على ممارستهم لهذا الحق، ثم هل من الديمقراطية – المدعاة لدى الكاتب – أن يحجر عن العلماء التعاطي مع الشأن السياسي في حين يفتحه للعامل والموظف والتاجر والمزارع والمثقف والجاهل والمغفل والمسلم وغير المسلم! وأن يسمح لكل أحد – سوى علماء الدين بالطبع – أن يشرِّع وأن يندس لتوصيف الواقع وتقرير الأحكام – وهل ذلك يحل أزمة الأمة أم يضاعفها في الدكتاتوريات المستعصية والمستبدة.. وثالثاً: أن الدين له كل الحق في التداخل والتوجيه لحياة الناس – والسياسة جانب منها – (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) ومن حق الدين وعلمائه بالتالي تحديد ما يقبل وما لا يقبل منها على قاعدة (المصالح العامة المعتبرة) والحكم عليها في ضوء ذلك، والقضية هنا – بالنسبة لعلماء الشريعة – حق، وواجب، والتزام بمعنى الدين، وليس مجرد إثبات موجودية، فيحق لعالم الدين أن يحكم على عمل السياسي وأن يقرر حلِّية أو حرمة موقف أو سياسة بعينها كما يحكم على أي نشاط إنساني أو برنامج أو فكر بعد التأكد من مدى إصلاحه أو إضراره بحياة الناس.. ذلك ينطبق على قضايا مثل المفاوضات والمقاومة وترجيح أحد الخطين على الآخر أو الجمع بينهما وعلى الدخول في انتخابات (تشريعية وبلدية ونقابية..) وعلى ضمان عدم تزويرها وتمريرها.. وليس في تغير الفتوى مشكلة إذا تغير الواقع وموضع المصلحة منه – ومن يستهجن ذلك أو يجهله فهذه مشكلة خاصة به هو فقط! ورابعاً: من حق علماء الدين أن يختلفوا في الفتوى لارتباطها بالفهم البشري المتفاوت من عالم لعالم لذات النص ومن حالة لحالة في تحديد موضع ورجحان المصلحة – كما قلنا – وقد قال تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) وفي هذا السياق نستحضر كل أدلة الاختلاف ومسوغاته وشواهده في واقع الناس عموماً والمسلمين خصوصاً وفي أمور الدنيا وقضايا الدين.. وهو اعتبار منطقي وواقعي قبلته الأمة وسوغته من لدن الصحابة الكرام حتى يومنا هذا، وفي إطاره قبلت المذاهب الفقهية بل واختلاف فتوى العالم الواحد في القضية ذاتها (عندما يتبين له جانب كان خافياً عنه في مقام آخر..) بقي سؤال عن كيفية جمع الناس على الدين في ظل آراء مختلفة وهل ذلك يبلبل الدين وينزل المقدس المطلق الصوابية إلى البشري الذي يحتمل الخطأ والتردد؟ ثم هل على العالِم أن يقول هذا رأيي وذاك حكم الشرع؟ والجواب لا، ومن هنا تأتي أهمية التفريق بين منطوق النص ودلالته، وتأتي أهمية الاختصاص في العلم الشرعي ووجوب الانضباط باشتراطات في المفتى وفي الربط بين النص والواقعة موضع الاجتهاد وتأخذ الفتوى الجماعية وما يطلق عليه الإجماع (قيمتها الموضوعية) وتأخذ مؤسسات البحث وهيئات الاختصاص ووسائل الإعلام قيمتها الموضوعية ودورها الرائد.. لذا فالكاتب المشار إليه لم يكن موفقا بالمرة عندما خلط بين الفتاوى الفردية والشاذة وبين فتاوى الهيئات المعتبرة والمحترمة، وعندما اتخذ نموذجاً لاضطراب الفتوى من رابطة علماء فلسطين – المشهود لها بالاختصاص والطهورية -.

وأقول انتهاء: ومما تورط الكاتب في رفض إعطائه القيمة الشرعية (حق العودة وحق تقرير المصير وتحريم التنازل عن فلسطين وتحريم التنسيق الأمني مع العدو..) ثم قال: (هل هناك نص قرآني على تقديس حق العودة..؟) وأقول: سوى ما يوحيه هذا الطرح من البؤس الثقافي والمشبوهية الوطنية ولربما الاختراق الأمني لصاحبه (باعتبار الأخلاق والسلوكات ثمار القناعات والتوجهات) فإن هذه الثوابت الأوابد هي مقدسات شرعية دون الحاجة لدليل واحد على هذه القداسة.. وعلى من يشك أو يتردد في ذلك أن يسأل نفسه: هل نحن في حالة حرب مع الاحتلال الصهيوني أم لا؟ وإذا كنا في حالة حرب فأين تقع هذه العناوين من هذه الحرب؟ هذا فيما يتعلق بحقوق تقرير المصير والعودة وعدم التنازل.. أما في موضوع التنسيق الأمني فالسؤال هو: أين يصنف التنسيق الأمني مع العدو في حالة الحرب؟ ويبدو أن المشكلة لدى الكاتب مضاعفة، فهي من ناحية مشكلة تحديد المقدس والنسبة إليه، ومن ناحية أخرى ما يترتب على تقديسه من كيفيات وواجبات قد يعجز المسلم عن القيام بها.. وهو إشكال ثقافي معرفي بالنسبة له شخصياً وليس إشكالاً في ذات الموضوع.. وهنا أقول له (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وفي صلح الحديبية سنة 6 هجرية تنازل صلى الله عليه وسلم عن الحق المقدس في حماية واستقبال الداخلين الجدد في الإسلام القادمين من مكة، وتنازل عن وصف (رسول الله) في صك الاتفاق.. ومن بعده الصحابة الكرام – وبعضهم من المبشرين بالجنة – خاضوا في الدماء المعصومة (المقدسة) على خلاف في القناعات السياسية (لا الدينية)، وكل ذلك لم يلغ أصل التقديس وتثبيت الثوابت بشأنها حتى مع العجز عن القيام بحقها.

آخر القول: مع كامل الاحترام لحق كل أحد في التعبير عن آرائه وحقه في الاختلاف مع حماس أو غيرها، إلا أن تناول القضايا الكبيرة وبالأخص ما يتعلق منها بالدين والوطن ومناهج الإصلاح وأمور السلم والحرب.. يجب أن يكون تناولها بمسؤولية واحترامية عالية، ولا يصح أن يتكلم فيها من هب ودب ولا أن ترجم بسفاهات الرأي وسقيمات الفهم.. وذلك ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع الثقيل وغير الممتع.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات