وعد بلفور… الخيانة الكبرى

صحيفة الحياة اللندنية
ما أن تشعر الدول الاستعمارية بقرب خروجها من بلد ما كانت تستعمره، إلا وتعمل كل وسعها، بل كل خبثها، على زرع أسفين في ذلك البلد يمزق وحدته، ويضعف قوته، ويستنفد قدراته وطاقاته. ولكن لا أظن أن هناك أسفيناً أسوأ ولا أخطر أو أخبث، ولا أعمق أثراً من وعد بلفور اللعين، هذا الوعد الذي كانت نتيجته احتلال مجموعة من شذاذ الآفاق لبلد آمن مطمئن، وتمزيق أوصاله وتشتيت شعبه، ووضع المنطقة كلها على صفيح ساخن. ولم يأت وعد بلفور من فراغ، فقد كان نتاج تخطيط وعمل دؤوب قام به اليهود. فالأفكار الصهيونية كانت تتفاعل في عمق المجتمع الأوروبي لأكثر من قرنين من الزمن قبل أن تصبح صهيونية – يهودية على أيدي مؤسسي الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم موسى هيس مؤلف «روما والقدس» الصادر عام 1862 وليوبنسكر مؤلف «التحرر الذاتي» الذي صدر عام 1882، أما موشيه ليلينبلوم فقد نشر بحثاً صدر عام 1884 عنوانه «حول بعث اليهود على أرض آبائهم».
أما تيودور هيرتزل المؤسس الحقيقي للصهيونية السياسية فقد نشر كتاب «الدولة اليهودية» الذي دعا فيه إلى تهجير اليهود إلى فلسطين ضمن مخطط استيطاني تتبناه إحدى الدول الأوروبية الكبرى. وفي عام 1897 نظم مع عدد من أنصاره ومؤيديه المؤتمر الصهيوني في مدينة بازل السويسرية وحضره مندوبون يمثلون مختلف الهيئات والمنظمات الصهيونية في العالم، وانتخب هيرتزل رئيساً للمؤتمر، الذي أقر البرنامج الصهيوني الذي أكد على أن: «تكافح الصهيونية من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين».
وبعد وفاة تيودور هيرتزل عرّاب الصهيونية قرر وايزمان الرحيل من جنيف إلى لندن، ولكن الإقامة هناك لم تطيب للرجل الماكر، ذلك أن الجالية اليهودية في بريطانيا قابلته بفتور، لأنها لم تكن تؤمن بفكرته التي كان يتحمس لها وهي مشروع وطن قومي لليهود في فلسطين، بينما كانت الجالية تتبنى مشروع أوغندا كوطن قومي لليهود.
ونتيجة لتلك المقابلة التي سيطر عليها الفتور والعزلة اللتان وجد نفسه يعيش فيهما في لندن، انتقل وايزمان إلى مدينة مانشستر للدراسة مركّزاً اهتماماته الخبيثة على دعم الحركة الصهيونية، وجعل هدفه أن تكون فلسطين وطناً لتجمع اليهود الموجودين في الشتات. وفي مانشستر التقى بآرثر بلفور وهو من المتحمسين لمشروع اتخاذ أوغندا وطناً لليهود، لكن وايزمان الخبيث الذي ربطته صداقة قوية مع بلفور الماكر قبل أن يصبح وزيراً استطاع أن يكسب تأييده إلى جانب فكرة قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين.
وبتاريخ 22 آذار (مارس) 1917 أصبح بلفور الذي ارتبط الوعد باسمه وزيراً للخارجية البريطانية ولم يصدق الرجل خبراً إذ طلب على الفور من صديقه وايزمان الإسراع بإعداد مسودة لقرار يحقق الرغبات اليهودية لعرضه على وزارة الحرب البريطانية، وبتاريخ 18 أيلول (سبتمبر) 1917 تقدم وايزمان بصيغة التصريح الشنيع الذي تضمن منح الإمبراطورية البريطانية فلسطين لليهود كوطن قومي بل منحهم الحكم الذاتي تحت الحماية البريطانية.
وفي 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، صدر وعد بلفور، ليكون ذلك اليوم يوماً أسود في تاريخ فلسطين، بل في تاريخ البشرية كلها، وضربة قاصمة للعدالة والشرعية الدولية والقانون الدولي والأعراف الدولية، ونص الوعد المشؤوم على أن «حكومة ملك بريطانيا تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتحقيق ذلك، على ألا يؤثر ذلك على الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين».
إن وعد بلفور يمثل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في أبشع صوره، فبأي حق واعتماداً على أي منطق يعطي البريطانيون شذاذ الآفاق من اليهود وطناً في بلد عامر بأهله منذ آلاف السنين، وبأي حق تؤخذ أراضي الفلسطينيين جوراً وعدواناً، ويقتلون ويشردون في بقاع الأرض لاجئين لا قرار لهم ولا ديار؟
والعجيب المضحك – وشر البلية ما يضحك – أن اليهود لم يكونوا راضين عن الوعد لأنه يعطيهم وطناً في جزء من فلسطين وهم كانوا يريدون التهام فلسطين كلها، والعجيب أيضاً أن بريطانيا لم تشعر بعقدة الذنب بعدما رأت الآثار المأسوية لذلك الوعد وما ألحقه بشعب آمن لم يعتد على أحد، بل ظلت – أي بريطانيا – سادرة في غيها تساند الكيان الصهيوني وتقويه وتمد له يد العون لمزيد من الظلم.
وما بين 1917 تاريخ صدور الوعد وعام 1947 عام التقسيم استطاع اليهود تحويل ورقة صغيرة خطط لها وايزمان وتلقفها بلفور بنخوة بريطانية استعمارية لتتبناها دولته التي كانت لا تغيب عنها الشمس، لتفرضها على شعب وأرض لا تملك فيها حقاً قانونياً. المهم أن اليهود استطاعوا استغلال تلك القصاصة من الورق الصادرة عن الدولة الظالمة ليحققوا حلمهم بإقامة “إسرائيل” عام 1948 لتصبح أول دولة في التاريخ الإنساني تنشأ على أرض الغير. وبعد مولد الجنين غير الشرعي من رحم بريطانيا تولت الولايات المتحدة العناية بذلك الجنين ووضعت يدها بيد بريطانيا التي غابت شمس إمبراطوريتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، واستطاعت الدولتان الظالمتان ضمان استمرار وجود دولة باسم “إسرائيل”. وحتى يثمن اليهود لفرنسا أنها لم تتخل عن الركب سارعت بعد ترعرع المولود الخبيث في قلب الوطن العربي إلى دعمه، فقدمت ضمانها لمشروع “إسرائيل” النووي بل شاركت في شن الحرب على مصر عام 1956 إلى جانب بريطانيا و”إسرائيل”.
بهذا اكتملت خيانة الدول الكبرى للعرب من أجل عيون “إسرائيل” وهذه المساندة الباطلة جعلت “إسرائيل” تتكبر وتتجبر وتزيد من بطشها وتبتلع المزيد من الأراضي وتبطش بالشعب الفلسطيني بلا رحمة.
ولم يستطع العرب نتيجة ضعفهم أن يتمكنوا من إقناع المجتمع الدولي بإكراه “إسرائيل” على الإذعان لقرار واحد من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بدءاً من قرار التقسيم مروراً بقرارات اللاجئين وحق العودة وفي مقدمها القرار رقم 194 والقرار 242 والقرار 337 والقرارات المتعلقة بالقدس ومنها القرار 252 ورقم 2253 و2254 وغيرها من القرارات التي امتلأت بها خزائن الأمم المتحدة ومجلسها الأمن.
واستطاع اليهود الذين جاؤوا من بعيد من كل حدب وصوب أن يحولوا المستحيل إلى ممكن في عالم لا يعرف إلا القوة، وتمكنوا تحت ضغوط الدول الكبرى أن يؤمّنوا ل”إسرائيل” عضوية الأمم المتحدة، ورغم ذلك كله فإن “إسرائيل” هي الدولة الوحيدة التي خرقت قرارات المنظمة الدولية أكثر من أي دولة أخرى، ولم تعترف يوما بمبادئ القانون الدولي المتعارف عليها، فهي تمثل تجسيداً للفكرة العنصرية المعادية للشعوب المستمدة من تعاليم التلمود ثم تليها في المرتبة مبادئ الحركة الصهيونية كما قننها هرتزل وجابوبتنسكي وطبقها حاييم وايزمان وبن غوريون ومناحيم بيغن وبيريز وشامير ونتنياهو وأولمرت وكل الجزارين اليهود.
لقد نهجت “إسرائيل” منذ قيامها حتى اليوم أساليب الفتك والقمع وأصبحت أسيرة منطق القوة الصهيونية الغاشمة بكل ما تحمله من عدوان وغطرسة، أما العرب فإنهم ينادون بالسلام وينشدون العدل منذ وعد بلفور مروراً بقيام “إسرائيل” حتى اليوم، لكنهم وبعد مرور 90 عاماً على وعد بلفور وحوالي 68 عاماً على تأسيس هذا الكيان الخبيث في قلب أرضهم الذي ابتلع معظم الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية وشن عليهم ست حروب مدمرة، ولن تكون الأخيرة، فإنهم لن ينالوا سلاماً ولا عدلاً، وهم لن ينالوه إلا إذا ركبوا صهوة القوة، فالعالم و”إسرائيل” لا يصغيان إلا إلى الأقوياء. وسيدفع العرب ثمن كل القوانين والقرارات غير الأخلاقية وغير القانونية كوعد بلفور الذي تحول إلى قانون، رغم أنه نتاج جريمة دولية مرتكبتها الأكبر بريطانيا وبمساندة من أميركا وفرنسا وغيرهما في ظل قرن الاستعمار الماضي. إذا لم ينهض العرب وينفضوا غبار الماضي فان الدوائر ستدور عليهم، لكن وقعها سيكون أكبر وتأثيراتها ستكون أفدح كما حدث في العراق وعندها لا يفيد الصراخ ولا طلب النجدة.
مفكر سعودي – رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...