الثلاثاء 13/مايو/2025

تطهير عرقي مسكوت عليه

تطهير عرقي مسكوت عليه

صحيفة الأهرام

بينما الجميع مشغولون بمناكفات فتح وحماس‏‏ وفي حين توزع “إسرائيل” حبوب السلام المخدرة على عواصم العرب‏‏ التي ابتلعها البعض وأدمنها آخرون‏‏ فإن قواتها أتمت إبادة قرية عربية في النقب‏‏ ضمن برنامج وحشي لمحو‏ 45‏ قرية من الوجود‏.‏

‏(1)‏

يوم الخميس ‏27‏ يوليو‏‏ هاجمت البلدوزرات الإسرائيلية قرية طويل أبوجروال‏‏ وأكملت هدم بيوتها‏‏ بعدما صادرت وحدات الجيش كل ما يملكه سكانها من الفلسطينيين العرب‏:‏ المنقولات والمواشي والخيام‏‏ حتى صهاريج المياه دمرتها‏‏ وترك أهل القرية في العراء دون مأوى‏‏ تحت شمس يوليو الحارقة‏.‏

الجريمة تمت في هدوء‏‏ في عملية أقرب إلى القتل باستخدام مسدس كاتم للصوت‏‏ الذي يجهز على الضحية بغير جلبة أو ضجيج‏‏ حتى الإعلام العربي لم يكترث بالحدث‏‏ فلا هو أبرزه ولا هو نبه إلى خطورته ودلالته‏‏ ولا أعرف أية جهة عربية أولته اهتمامها‏‏ برغم أنه يصنف حقوقياً ودولياً بحسبانه تطهيراً عرقيا‏ً‏ لو أنه حدث في بلد آخر غير “إسرائيل”‏‏ وكان ضحاياه شعبا آخر غير الفلسطينيين‏‏ لقامت الدنيا ولم تقعد‏‏ وعند الحد الأدنى فإن الأصوات كانت ستصر على تقديم المسئولين عن الجريمة إلى المحكمة الجنائية الدولية‏‏ هذا إذا لم تدع أصوات أخرى إلى ضرورة التدخل الدولي لوقف الكارثة والدفاع عن القيم الإنسانية‏.‏

من جانبي‏‏ لا أخفي شعوراً بالخجل لأنني لم أنتبه إلى الخبر في حينه‏‏ ولكنني وقعت عليه في ثنايا مقالة كتبها باحث متميز هو الدكتور محمود المبارك الأستاذ بجامعة الملك فيصل‏‏ وهو حقوقي دولي‏‏ عاتب فيها الإعلام العربي على تجاهله لجريمة محو القرية‏‏ قائلاً إن الخبر لم يثر كوامن الإعلاميين العرب‏‏ الذين يقحمون إعلامنا في كل صغير وكبير‏‏ وهو من توقع أنه سوف يتصدر العناوين الأولى للإعلام العربي المقروء والمرئي والمسموع ‏(‏الحياة اللندنية‏ 3/9/2007).

وجدت الرجل محقاً في عتابه‏‏ واعتبرت مقالته وثيقة اتهام للإعلام العربي الذي مالت أغلب قنواته ومنابره مع الريح السياسية التي تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أولويات اهتمامها‏‏ وصدقت ـ لا أعرف كيف ـ أن “إسرائيل” جزء من معسكر الاعتدال في المنطقة‏‏ وإذ انتابني شعور بالذنب من جراء ذلك بحكم انتسابي إلى المهنة‏‏ فقد سارعت إلى الاتصال بالدكتور سلمان أبوستة رئيس هيئة أرض فلسطين‏‏ صاحب الباع الطويل في هذا المجال‏‏ ومؤلف كتاب طريق العودة الذي أعاد فيه إحياء خريطة فلسطين قبل تدميرها‏‏ وهو من أوصلني إلى مركز عدالة المختص بالدفاع عن حقوق الأقلية العربية في “إسرائيل”‏‏ كما دلني على مصادر أخرى‏‏ عالجت موضوع عرب النقب وكشفت خلفيات ومرامي المخططات الإسرائيلية التي تنفذ هناك‏.‏

‏(2)‏

في سجل “إسرائيل” لا يبدو محو قرية عربية من الوجود خبراً مثيراً‏‏ لأن الذي يقدم على محو بلد بأكمله لا يعجزه ولا يؤرق ضميره أن يفعلها مع قرية أو مجموعة قرى‏‏ وفي المنطق الإسرائيلي فإنه ما كان للدولة أن تقوم إلا بعد احتلال المدن ومحو القرى وطرد أهلها‏‏ وارتكاب مختلف جرائم الإبادة البشرية والتطهير العرقي‏‏ لذلك فمهما تقادم الزمن ووقعت الاتفاقات وقدمت التنازلات ورفعت رايات السلام وترددت أناشيده‏‏ فلن ينسى أن “إسرائيل” قامت بتهجير سكان‏ 675‏ قرية فلسطينية في عام ‏1948‏ بينها نحو ‏400‏ قرية دمرت تدميراً كاملاً ومحيت من الوجود‏.‏

وبرغم بشاعة هذه الخلفية‏‏ فقد نفهم أسباب لجوء “إسرائيل” إلى احتلال المدن وإبادة القرى في مرحلة اغتصاب الأرض وإقامة الدولة‏‏ أما حين يستمر الأسلوب ذاته بعد خمسين عاماً من قيام الدولة وفي أجواء الحديث عن السلام والتعايش مع العرب‏‏ ومحاولة تطبيع العلاقات مع بعضهم‏‏ فإن نظرتنا إلى الأمر لابد أن تختلف‏‏ باعتبار أن الجريمة تصبح أضعافاً مضاعفة‏‏ إذ أنها في هذه الحالة لا تصبح مجرد إصرار على الإبادة والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين فحسب‏‏ وإنما تعد أيضاً نوعاً من خداع العرب والتلاعب بهم‏.‏

أدري أن ملف عرب “إسرائيل” مسكون بالبؤس والمذلة‏‏ من حيث إنهم في أحسن أحوالهم يظلون مواطنين من الدرجة الثانية‏‏ لكن عرب النقب بؤسهم أكبر‏‏ لأن وجودهم ذاته في خطر‏‏ والفرق بينهم وبين إخوانهم في “إسرائيل” أن الأخيرين يعانون من الذل‏‏ في حين أن عرب النقب يتعرضون للاستئصال‏.‏

أتحدث عن أكثر من ‏140‏ ألف عربي يعيشون في منطقة النقب‏‏ التي تقع في الجزء الجنوبي من فلسطين‏‏ ويطلق عليهم في الأدبيات اسم عرب بئر السبع أو بدو النقب‏‏ وهؤلاء هم أبناء البدو الذين استوطنوا النقب‏ (‏قضاء بئر السبع‏)‏ منذ آلاف السنين‏‏ وامتلكوا أرضها التي قدرت في عام ‏1948‏ بخمسة ملايين دونم ‏(‏الدونم يعادل ألف متر أو ربع فدان‏)‏ كانوا يزرعون منها مليونين حسب موسم الأمطار‏‏ وبعد الاجتياح الإسرائيلي الكبير في عام ‏1948‏ فرغت النقب من معظم سكانها ‏(‏ما بين ‏80‏ و‏85%)‏ حيث تم تهجير بعضهم وفر البعض الآخر‏‏ وبقي ‏11‏ ألفا‏‏ تشبثوا بالأرض ورفضوا مغادرتها‏‏ وهؤلاء أصبح عددهم الآن ‏140‏ ألفاً ‏(‏نصفهم يعيشون في القرى غير المعترف بها‏)‏ وقد ظلت “إسرائيل” تطاردهم منذ عام ‏1948‏ وحتى هذه اللحظة‏‏ فحجزتهم في سياج مساحتهى‏900‏ ألف دونم‏‏ وتقلصت زراعاتهم‏‏ فانخفضت من مليوني دونم إلى ‏240‏ ألفاً على أحسن تقدير‏‏ وما برحت تلك المساحة تتآكل حيناً بعد حين‏‏ بعدما سنت حكومة “إسرائيل” تشريعاً اعتبرت فيه أراضي النقب ضمن أملاك الدولة‏‏ ونقضت بذلك قانوناً بريطانياً أكده تشرشل في عام ‏1921 (‏حين كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني‏)‏ اعترف بملكية البدو لتلك الأراضي‏‏ بمقتضي قانون العرف والعادة المعمول به منذ قرون‏.‏

صحيح أن بدو النقب لم يسجلوا ملكيتهم للأراضي في أوراق رسمية‏‏ إلا أنهم لم يكونوا بحاجة إلى ذلك بحكم وجودهم التاريخي عليها‏‏ وهو ما أقرت به سلطة الانتداب البريطاني‏‏ وهو أيضاً ما تعاملت معه المؤسسات الصهيونية يوماً ما‏‏ حيث تشير دراسة للباحث الفلسطيني الدكتور إسماعيل أبوسعد إلى أن الصندوق القومي اليهودي اشترى بعض الأراضي في النقب لإقامة مستعمرات عليها‏‏ بين عامي ‏1920‏ و‏1930‏ من ملاكها البدو‏‏ وهؤلاء أنفسهم من تدعي “إسرائيل” الآن أنهم ليسوا ملاكاً‏!‏

‏(3)‏

منذ الغارة الصهيونية الكبرى في الأربعينيات وحتى هذه اللحظة‏‏ ظلت أراضي النقب التي احتفظ بها أصحابها العرب شوكة في حلق السلطة الإسرائيلية‏‏ ولعلمك فإن “إسرائيل” هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم التي تملك الحكومة فيها ‏93%‏ من الأراضي‏ (أصحاب العقارات اليهود يمنحون رخصاً للبناء فوق أراض يستأجرونها لمدة ‏49‏ عاماً)‏ لذلك فليس مستغرباً أن تضيق الحكومة الإسرائيلية أشد الضيق لأن العرب الذين يمثلون ‏19%‏ من سكانها يضعون أيديهم على ‏3.5%‏ من الأراضي‏.‏

ولأن الأرض هي عصب الصراع وجوهره‏‏ فإن الحكومة الإسرائيلية ظلت تلاحق عرب النقب بمختلف السبل لكي تقتلعهم من أرضهم‏‏ لتتولى تسكينهم في مناطق أخرى‏‏ من التي وضعت يدها عليها‏‏ من ذلك أنها اعتبرت أن الأربعين قرية التي يعيش فيها ‏70‏ ألف عربي غير قانونية‏‏ بدعوى أنها أقيمت فوق أراضي الدولة‏‏ وبدون تصريح‏‏ وعمدت إلى إنذار سكان القرى بضرورة المغادرة‏‏ وشرعت في هدم بيوتهم‏‏ وفي الوقت ذاته‏‏ فإنها لجأت إلى تسميم زراعاتهم عن طريق رشها بالمبيدات التي تهلك الزرع وتعوق نموه‏‏ كما لجأت إلى تسميم مواشيهم حتى تضيق عليهم أسباب العيش‏‏ وتدفعهم إلى هجرة المكان وبرغم ذلك فإنهم ظلوا صامدين طول الوقت‏‏ وقد تسلحوا في ذلك بإصرار مدهش على التشبث بالأرض والتمسك بحقهم فيها‏.‏

في عام‏ 2000‏ كتب آرئيل شارون‏‏ مباشرة قبل توليه رئاسة الحكومة‏‏ مقالة نشرتها مجلة الأرض‏‏ ذكر فيها أنه باعتباره من سكان النقب‏‏ فإنه يرى بأم عينيه كل يوم أن نحو ‏900‏ ألف دونم من أرض الدولة ليست في أيدي الحكومة‏‏ ولكنها في قبضة البدو الذين يقضمون حدود الدولة ويتمددون على أرضها‏‏ دون أن ينتبه أحد إلى خطورة ما يفعلون‏‏ وهي المقالة التي رد عليها في عام‏ 2003‏ أحد مثقفي البدو‏‏ البروفيسور إسماعيل أبوسعد‏‏ قائلاً:‏ كيف نعتبر دخلاء على النقب‏‏ في حين أن أسلافنا عاشوا هنا منذ آلاف السنين؟‏.‏

في العام ذاته ‏(2003)‏ ـ وشارون على رأس الحكومة ـ أقرت إحدى اللجان الوزارية خطة معالجة الوسط البدوي في النقب‏‏ التي أصبح يطلق عليها خطة شارون‏‏ وفي حين أعلن رسميا أن هدفها هو تغيير وتحسين وضع البدو‏‏ إلا أن الهدف الحقيقي لها هو السيطرة على أراضي العرب في النقب‏‏ وتهجير السكان وتجميعهم في سبع بلدات خططت الحكومة الإسرائيلية لإقامتها‏‏ لتصفية القرى التي يقيمون فيها على أرضهم‏‏ وخلال السنوات التالية بدأت خطوات تنفيذ المخطط الذي كانت قرية طويل أبوجروال أحدث ضحاياه‏.‏

(4)‏

وحدهم عرب القرى غير المعترف بها في النقب‏‏ المقرر إزالتها‏‏ يواجهون الجبروت الإسرائيلي الذي يمارس في غفلة من الجميع‏‏ فقد شكلوا من بينهم مجلساً إقليمياً برئاسة حسين الرفايعة‏‏ الذي يقود مع زملائه حملة الصمود في مواجهة حملة التدمير الإسرائيلية‏‏ وفي التقارير التي وقعت عليها وجدته يقول دائما إن البلدوزرات إذا هدمت بيوتهم‏‏ فسوف يقيمون خياماً ينصبونها ليظلوا فوق أرضهم يعيشون عليها ويواصلون زراعتها كما فعل أجدادهم‏‏ قرأت في التقارير أيضاً كلاماً لعقيل الطلالقة رئيس اللجنة المحلية للقرية التي تم هدمها‏‏ قال فيه‏:‏ الإسرائيليون إذا كانوا قد هدموا‏ (‏طويل أبوجروال‏)‏ وحاولوا محوها من الجغرافيا ‏11‏ مرة‏‏ فإنهم لن يستطيعوا محوها لا من التاريخ ولا من قلوب أبنائها‏‏ المستعدين للموت دفاعاً عن ترابها‏.‏

إلى جانب هؤلاء فإن بعض الجمعيات الأهلية التي تضم أجانب وعرباً ‏(‏من بينها جمعية بديل في بيت لحم وعدالة في الناصرة‏)‏ لا تكف عن تسجيل جرائم “إسرائيل” وتزويد الأمم المتحدة بالوثائق التي تدينها بها‏‏ بل إن جمعية بديل شكلت مجموعة ضمت ‏30‏ من خبراء القانون الدولي المتطوعين‏‏ الذين يعدون التقارير والشهادات الخاصة بالممارسات الإسرائيلية إلى لجان الأمم المتحدة‏.‏

إن ما قامت به “إسرائيل” في قرية طويل‏‏ ومخططها لإبادة بقية قرى النقب التي تدعي عدم قانونيتها‏‏ هو جريمة تطهير عرقي‏‏ تنطبق عليها أحكام القانون الجنائي الدولي‏‏ وكما ذكر الدكتور محمود المبارك‏‏ فإن المفهوم المبسط للتطهير العرقي أنه‏:‏ الطرد القسري لمجموعة من السكان غير المرغوب في وجودهم من منطقة معينة‏‏ كنتيجة للتمييز العرقي أو الديني‏‏ أو لاعتبارات سياسية واستراتيجية‏‏ أو لكل هذه الأسباب مجتمعة‏‏ وهو التعريف الذي ينطبق بالكامل على الحالة التي نحن بصددها‏‏ لكن الحق لا يمضي وحده‏‏ وإنما يظل بحاجة إلى رجال يحملونه ويذودون عنه‏‏ وقد بذل أهل النقب غاية جهدهم في ذلك‏‏ بصمودهم واستغاثتهم بالأمم المتحدة‏‏ التي أغمضت

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات