الأحد 11/مايو/2025

صنع القرار في إسرائيل وإخفاق أوسلو

صنع القرار في إسرائيل وإخفاق أوسلو

صحيفة البيان الإماراتية

لدى توقيعها اتفاق أوسلو (سبتمبر 1993)، قبل أربعة عشر عاماً، لم تأخذ القيادة الفلسطينية، في اعتبارها آليات وديناميات صنع القرار السياسي في “إسرائيل”، كما لم تول اهتماماً مناسباً لطبيعة النظام السياسي الإسرائيلي، بتكويناته وتبايناته وتعقيداته، وهي تالياً لم تأخذ في حسبانها انعكاسات كل ذلك، على إمكان تنفيذ “إسرائيل” للاستحقاقات التي أخذتها على عاتقها في هذا الاتفاق، من عدمه.

معروف أن القيادة الفلسطينية كانت وقعت هذا الاتفاق تحت ضغط التداعيات الإقليمية والدولية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق) وحرب الخليج الثانية (1991)، وبعد وطأة ستة أعوام من الانتفاضة (1987 ـ 1993)، وفي ظل المحاولات الأميركية والإسرائيلية لعزلها، ما تجلى في عدم إشراك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بشكل مباشر، في مؤتمر مدريد للسلام (1991).

الحاصل فإن لجوء هذه القيادة لخيار أوسلو، في ظل هذه الظروف والمعطيات والضغوطات، جعلها معنية، أكثر من أي شيء آخر، بإضفاء الشرعية على هذا الخيار والترويج لمحاسنه، إلى درجة دفعتها إلى نسج الكثير من الأوهام حوله.

هكذا تم التعاطي مع اتفاق أوسلو باعتباره أمراً منتهياً ومرحلة انتقالية في مسيرة التسوية، سينجم عنها (بعد خمسة أعوام) انسحاب “إسرائيل” من معظم الأراضي الفلسطينية، تمهيداً للمرحلة الأخيرة من المفاوضات التي يتم بمقتضاها، إيجاد حل نهائي وعادل لقضايا: القدس واللاجئون والمستوطنات والحدود وغيرها من الترتيبات الثنائية.

وفق هذا التصور كان المفروض باتفاق أوسلو أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، وإلى إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين، مع إمكان إنشاء نوع من علاقات التعاون الاقتصادي التي تساهم في تحقيق الاستقرار والازدهار الاقتصادي بين “إسرائيل” ودول المنطقة، عموماً، إلى الدرجة التي تمكّن، وبمساعدة الدول المانحة، من تحويل الأراضي المحتلة إلى «سنغافورة» أو «هونغ كونغ» في الشرق الأوسط.

طبعاً، لم يحدث أي من هذه الأمور، وكانت هذه الطروحات تكشّفت منذ اللحظات الأولى، لما بعد التوقيع، عن أضغاث أحلام وعن تهويمات أو رغبات ذاتية، تعشعش في رؤوس أصحابها. هكذا، فبعد توقيع اتفاق أوسلو، طلع اسحق رابين، رئيس حكومة “إسرائيل” وزعيم حزب العمل، بمقولة إن ليس ثمة مواعيد مقدسة (لإعادة الجيش الإسرائيلي انتشاره في الأراضي المحتلة).

وبعد ذلك لم يلبث اسحق رابين أن تعرض لعملية اغتيال (أواخر العام 1995)، على يد متطرف إسرائيلي، ما أدى إلى عقد انتخابات مبكرة، جاءت ببنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، إلى رئاسة الحكومة (1996-1999)، ما أدى إلى تجميد عملية أوسلو لمدة ثلاث سنوات.

بعد ذلك جاء إلى رئاسة الحكومة إيهود باراك (زعيم حزب العمل في حينه)، بنتيجة انتخابات مبكرة أيضاً، وجلب معه تقليعة الانتقال قفزة واحدة إلى التفاوض حول قضايا الحل النهائي، من دون تنفيذ “إسرائيل” لاستحقاقات المرحلة النهائية المطلوبة منها.

ومعلوم أن هذه النقلة المفبركة، والتي نجم عنها إخفاق مفاوضات كامب ديفيد (يوليو 2000)، أدت إلى الانتفاضة وإلى انهيار اتفاق أوسلو نهائياً، بنتيجة التداعيات التي نشأت عن كل ذلك، إسرائيلياً وفلسطينياً. وكان الدافع للانتفاضة، التي اندلعت أواخر سبتمبر 2000، أي بعد مرور ستة أعوام على عقد اتفاق أوسلو، واقع أن “إسرائيل” لم تنسحب تماماً سوى من 18 بالمئة من الأراضي المحتلة عام 1967. وأنها أبقت مئات الأسرى (من المعتقلين قبل أوسلو) في سجونها، ولم تسلم المعابر إلى السلطة، وأنها واظبت على مصادرة الأراضي وشق الطرق الالتفافية والتوسع في بناء المستوطنات، لتكريس الاحتلال كأمر واقع، وتقييد إمكانيات تطور الكيان الفلسطيني.

هكذا، فثمة أسباب متعددة سياسية وأيدلوجية محلية ودولية، أدت إلى انهيار اتفاق أوسلو، الذي اعتورته الكثير من الالتباسات والتناقضات والاجحافات. ولكن ما يمكن التأكيد عليه هنا، هو أن آليات وديناميات صنع القرار وطبيعة النظام السياسي في “إسرائيل”، ساعدت كثيراً على الإطاحة بهذا الاتفاق، وسهلت على “إسرائيل” التملص منه، وهو الأمر الذي لم توله القيادة الفلسطينية عنايتها، كما قدمنا، كما لم تلحظه كثير من التحليلات التي فسّرت انهيار تجربة أوسلو. ويمكن تبين ذلك في الجوانب المهمة التالية:

1ـ إن طبيعة الديمقراطية السياسية في “إسرائيل”، وتبني مبدأ الانتخابات النسبية، تتيح لكل المجموعات والتيارات التعبير عن ذاتها، وتكفل لها الوصول إلى مقاعد الكنيست الإسرائيلي. هكذا أتاح هذا النظام للأحزاب الصغيرة، وضمنها الأحزاب المتطرفة، ابتزاز الأحزاب الكبيرة وفرض أجندتها عليها.

وفي ظل هذه الأوضاع بات لوبي المستوطنين، الذي يمثل حوالي 200 ألف إسرائيلي، أكثر نشاطا من أي لوبي آخر، في المجتمع الإسرائيلي، وهو بالطبع تيار يعارض عملية التسوية لأسباب أيدلوجية وسياسية وشخصية؛ وبذلك بات هذا التيار وكأنه يتحكم بأجندة المجتمع الإسرائيلي بكامله، كما بات يتحكم بمسارات عملية التسوية!

2ـ اعتماد السياسة الإسرائيلية في القضايا المصيرية على الإجماع. والمعنى من ذلك أن قضية مصيرية، كقضية التسوية مع الفلسطينيين، بأبعادها التاريخية والرمزية، لا يمكن حسمها في “إسرائيل” على أساس من المعادلة الديمقراطية التي تتعلق بموازين القوى في الكنيست، أو عبر خضوع الأقلية للأكثرية، فهذه القضية تحتاج إلى نوع من التوافق يضم معظم التيارات السياسية الإسرائيلية.

وكما هو معروف لم يكن بالمستطاع تحقيق مثل هذا التوافق، طوال المرحلة الماضية، وهذا الأمر ينطبق حتى على الليكود؛ فهذا الحزب رغم معارضته للتسوية واعتباره الضفة والقطاع جزءاً من أرض “إسرائيل” الكاملة («أرض الميعاد»)، إلا أنه لم يستطع ترجمة ذلك بضم هذه الأراضي ل”إسرائيل”، رغم وجوده في الحكم منذ العام 1977، ورغم تشكيله عدة مرات حكومة يمينية صرفة.

كذلك الأمر فإن حزب العمل لم يكن بمستطاعه الذهاب بعيداً في أطروحته بشأن الانسحاب من المناطق كثيفة السكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبين هذه وذاك تم تجميد حدود الانسحاب (أو إعادات الانتشار) عند المناطق المتوافق عليها، وهذا ينطبق على الانسحاب الأحادي من قطاع غزة (2005).

3ـ التغير في تركيبة المجتمع الإسرائيلي، بنتيجة وفود ما يقارب مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفييتي السابق. وقد ساهمت هذه الهجرة برجحان كفة اليمين في النظام السياسي الإسرائيلي، خصوصاً أن هؤلاء المهاجرين جاءوا مشبعين بالروح الصهيونية وبروح الغطرسة ورفض الاعتراف بالآخر.

4ـ تزايد نفوذ الأحزاب الدينية في المجتمع الإسرائيلي، وتزايد حصتها في الكنيست الإسرائيلي. واللافت أن الجوانب العلمانية في الفكرة الصهيونية باتت تتضاءل لصالح الجوانب الدينية الأسطورية. وهكذا فإن انتعاش التيارات الدينية والأصولية في العالم، كرد فعل طبيعي على ظاهرة العولمة وما بعد الحداثة، عكست نفسها في “إسرائيل” أيضاً التي بدا أنها مهيأة أكثر من غيرها لردة الفعل هذه.

5ـ عدم تمكن أية حكومة منذ توقيع أوسلو من استكمال فترتها الدستورية، إذ شهدت “إسرائيل”، خلال الفترة الماضية، حالات من عدم الاستقرار السياسي. وهكذا فإن مختلف الحكومات الإسرائيلية، سواء كانت في ظل حكم حزب الليكود أو حزب العمل، ذهبت إلى الانتخابات المبكرة في المفاصل الحاسمة، بدعوى عدم قدرتها في ظروفها على تمرير استحقاقات أوسلو؛ وهذا ما سيحصل على الأرجح مع الحكومة الحالية (حكومة كاديما والعمل).

هكذا لم تأخذ القيادة الفلسطينية باعتبارها طبيعة الطرف الآخر، نظامه السياسي، وأيدلوجيته، والقوى الفاعلة فيه، ودينامياتها، وذلك في غمرة حماسها لتوقيع اتفاق أوسلو، الأمر الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، ويخشى أن يتكرر هذا الأمر حالياً، في غمرة الانهماك في الإعداد لإعلان مبادئ جديدة.

على أية حال فإن الفوضى الفلسطينية، ساهمت هي الأخرى بتسهيل هذا الأمر على الإسرائيليين، عبر الخطابات الديماغوجية. ولكن حتى لا نحمل الوضع الفلسطيني فوق طاقته، فمما لاشك فيه أن تغير المعطيات الدولية والإقليمية، خصوصاً بدفع من التداعيات الناجمة عن الحرب الدولية ضد الإرهاب، سهلت الأمر على “إسرائيل” وغطت على تملصها من هذه الاتفاقية، ذات الطابع الدولي، والتي جرى الإعلان عنها يوم 13/9/1993، في البيت الأبيض الأميركي، وبرعاية من رئيس الولايات المتحدة.

كاتب فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات