الثلاثاء 13/مايو/2025

الانقسام السياسي وحالة الاستعصاء الراهنة

الانقسام السياسي وحالة الاستعصاء الراهنة

صحيفة الخليج الإماراتية

لا يزال الوضع الفلسطيني مستعصياً على الرتق ويهدد مصير القضية الوطنية للشعب بأفدح الأخطار من خلال تكريس الانقسام السياسي، والجغرافي والديمغرافي، وما يتركه ذلك من آثار خطيرة على الحالة النفسية وقناعات الجماهير الشعبية، في ضوء تمترس حركتي “فتح” و”حماس” كل منهما في خندقه، وتجاهل كل النداءات والوساطات الداعية إلى صيغة اتفاق على أرضية المصالح الوطنية.

لقد عرف النضال الوطني الفلسطيني حالات انقسام سابقة عديدة، لكنها جاءت في ظروف عربية ودولية مختلفة، وكانت دائماً تأخذ طابع الاختلاف في الاجتهادات ووجهات النظر، الأمر الذي لم يمنع من استمرار مسيرة هذا النضال طيلة العقود السابقة بالرغم من العثرات الكثيرة. لكن الظروف العربية والدولية اليوم، فرضت سياسات معينة من طبيعة محددة تكشف عن مخططات هي قيد التداول، ويتبناها طرف فلسطيني قوي يجد دعماً عربياً ودولياً، جعلت الاختلافات خلافات وحولتها إلى صراع تناحري إقصائي جعل المخاطر شديدة على روح الشعب ومعنوياته وقناعاته. وقد يؤدي القبول بهذه المخططات إلى ما يشبه التآمر على الذات لإنجاح المحاولات الجارية لتصفية قضية الشعب الوطنية.

في غياب قوة ثالثة شعبية قادرة على تجاوز القوتين المتصارعتين، يعيش المواطن الفلسطيني حالة من الشعور القاتل بالعبث واللاجدوى من كل تضحياته السابقة واللاحقة، وتتعرض قناعاته الوطنية للاغتيال مما قد يسقط الجماهير الشعبية في الفراغ واليأس والعدم، لدفع المواطن لقبول كل ما سبق له أن رفضه من حلول تصفوية لقضيته. لقد أصبح اليوم ثابتاً أن نكبة 1948 وهزيمة الجيوش العربية لم تصب قناعات الجماهير الشعبية الفلسطينية المؤمنة بأن فلسطين هي أرضها التي اغتصبت ولا بد من العمل لاستعادتها، فبعد أشهر من وقوع النكبة كانت الطلائع الشابة تتلمس طرقها إلى هذا العمل. ودائماً كان هناك فريق فلسطيني أو أكثر يحمل مشاعل النضال الوطني، لأن قناعات الجماهير بضرورة هذا النضال وجدواه كانت هي الحافز والمحرك. الآن وفي الظروف الراهنة يجري العمل من أطراف عديدة، بعضها عربي وبعضها فلسطيني، لضرب هذه القناعات والإجهاز عليها وصولاً إلى التصفية التي تسعى إليها هذه الأطراف.

الحالة النفسية للجماهير مسألة في غاية الأهمية لكل نضال وطني، والثوريون يسمونها (الحالة الثورية) التي لا بد من توفرها لنجاح الثورة، والمفكرون الثوريون يجهدون لتحقيق ما يسمى (استنهاض الجماهير) قبل إعلان الثورة، أي رفع معنوياتها واستعدادها لتكون جاهزة لتقديم التضحيات المطلوبة عندما تدق ساعة العمل الثوري، وقبل ذلك يكون أي تحرك ثوري نوعاً من الانتحار. ونذكر جميعاً أن الرئيس المصري أنور السادات برر زيارته سيئة الذكر إلى القدس المحتلة، قبل أن يوقع على اتفاق كامب ديفيد الأسوأ ذكراً، بأنه أراد أن (يكسر الحاجز النفسي) لدى المصريين تجاه الكيان الصهيوني، والذي كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قد رفع في وجهه لاءاته الثلاث الشهيرة في قمة الخرطوم بعد الهزيمة العسكرية في العام 1967. كان السادات يعرف جيداً أن زيارته ستكسر ليس الحاجز النفسي لدى المصريين (والعرب)، بل ستضرب قناعاتهم في الصميم بأن لا فائدة بعد ذلك اليوم من عدم مصالحة ومسالمة الكيان الصهيوني، ولذلك أعلن في الوقت نفسه أن حرب أكتوبر هي (آخر الحروب).

في هذا الإطار، يمكن فهم إصرار حكومة إيهود أولمرت وإدارة جورج بوش على إصدار الفرمانات، وكذلك التصريحات التي تتكرر على ألسنة كثيرة حول اعتبار الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية (ميليشيات غير شرعية وخارجة على القانون) وسيتم نزع أسلحتها. والجماهير الفلسطينية التي لا يخلو بيت من بيوتها، أو عائلة من عائلاتها، إلا وغادره، أو غادرها شهيد، أو أكثر وله، أو لها، في سجون العدو الصهيوني، سجين أو أكثر، في نطاق هذه المقاومة، تعرف بحسها الوطني الفطري أن قطع رأس المقاومة يعني قطع رأس القضية الوطنية. وإذا ما شعرت هذه الجماهير أن حالة الاستعصاء مستمرة قد تشعر بالعبث واللاجدوى من انتظار ما لن يأتي ومن كل ما يمكن أن يقال في الموضوع، وأن المؤامرة الجارية إن تم السكوت عليها ستصل إلى نهايتها بشكل أو بآخر في لحظة سوداء قادمة.

إن الثقة بالجماهير الفلسطينية كبيرة جداً، هذه الجماهير التي فجرت الانتفاضة الأولى في العام 1987 والانتفاضة الثانية في العام 2000 ، ستعرف كيف تفجر انتفاضتها الثالثة لتحمي المقاومة والقضية معاً، وهي ستفعل بالتأكيد ذلك إن وجدت أنه ليس في الساحة من يقدر على تجاوز حالة الانقسام الراهنة، لأنها بحسها الوطني توقن أن الذين يريدون استمرار حالة الانقسام والاستعصاء يريدون ضرب قناعاتها الوطنية وإغراقها في اليأس والاستسلام لسلب حقوقها الوطنية والإنسانية، ولن تسمح بذلك بعد كل التضحيات التي بذلتها في مسيرتها النضالية الطويلة.

إن على الذين يتصارعون في الساحة الفلسطينية، وكذلك على الذين يتفرجون على الصراع الدائر، أن يتذكروا أن الشعب موجود وليس في استطاعة قوة مهما عظمت أن تهزمه أو تضعف من عزيمته أو تغير من قناعاته، وإن لم يتداركوا أنفسهم فسيكتشفون، ربما أسرع مما يتصورون، أن القطار قد فاتهم وأن التاريخ قد هزئ بهم، وأنه لن يكون لهم إلا الذكر السيّئ.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات