العرب وإسرائيل… «بورصة» الحلول السلمية!

صحيفة الحياة اللندنية
شب جيلي كله ليجد القضية الفلسطينية في أحضانه كما ارتبطت بداية حياتنا العملية بسنوات النكسة وما بعدها وظللنا نتابع في الأروقة الديبلوماسية والمجالات السياسية تطورات الصراع وتحولاته ومنعطفاته، فهذا هو قرار مجلس الأمن 242 بعد أن تاه المشروع اللاتيني المنافس واختفت صيغ أخرى بديلة كي يتقدم ذلك النص الإنكليزي الغامض ليفسره الطرفان – العرب و”إسرائيل” – كل حسب هواه ولا شك أن ذلك الغموض في النص خصوصاً بحذف أداة التعريف لتصبح العبارة هي «الانسحاب من أراض محتلة»، إن هذا الغموض البناء Constructive Ambiguity كما يسمونه هو استخدام القصد منه جذب الأطراف إلى مائدة التفاوض بينما يقبع الشيطان في التفاصيل بعد ذلك، ولقد أصبح عمر هذا القرار أربعين عاماً ومع ذلك حالت “إسرائيل” دون دخوله مرحلة التطبيق، لذلك فإنني أقول للعرب الذين يتباكون على قرار التقسيم إنهم حتى لو قبلوه وقتها فإن “إسرائيل” كانت سوف تراوغ في التنفيذ ولا يمكن للدولة العبرية أن تنصاع للشرعية الدولية فهي تأخذ ولا تعطي، تدمر ولا تبني، تستمرئ حالة الحرب ولن تستبدلها أبداً إلا إذا تحقق لها السلام بالمفهوم الإسرائيلي وهو ما يعني حصولها على كل شيء، الأرض والسلام والمياه، ويبقى للفلسطينيين وغيرهم ما تريد “إسرائيل” تركه لهم.
ولكم أصابتنا موجات تفاؤل عبر تاريخ ذلك الصراع الطويل فلقد برعت العقلية الصهيونية في أن تلقي لنا نحن العرب «الطعم» الذي نهرول لالتقاطه ثم تبدأ في عملية التشتيت وتقسيم القضايا وتمييع المواقف، ولا عجب فالأدب «العبراني» يحوي قصصاً تنطبق تماماً مع أسلوب التعامل الإسرائيلي مع العرب، فسعى يهودي فقير – وهذه حالة نادرة بالطبع – إلى حاخام المعبد يشكو إليه سوء ظروفه المعيشية وكيف أنه يعيش مع زوجته وأمه وثلاثة أطفال في حجرة واحدة طالباً المساعدة لتحسين ظروفه فرد عليه الحاخام بأن عليه أن يقتني بقرة وحماراً وكلباً تكون معه في الحجرة نفسها على أن يوافيه في اليوم التالي بتطور حالته، فعاد إليه اليهودي البائس عند الصباح شاكياً باكياً، فالحمار ينهق طول الليل والكلب ينبح والبقرة تزيد المكان ازدحاماً، فالكل – بشراً وحيوانات – أصبحوا متلاصقين في حجرة واحدة، فقال له الحاخام: لا تثريب عليك يا بني أخرج البقرة ودع الحمار والكلب فقط معكم وقل لي غداً ما هو الحال، فجاءه اليهودي صاحب المشكلة في اليوم التالي وهو يعبر عن ألمه الشديد بسبب ضيق المكان ونباح الكلب ونهيق الحمار، عندئذ طلب منه الحاخام أن يقضي ليلته الثالثة مع الحيوانين دون الكلب وأن ينقل إليه في الغد نتيجة ذلك، فجاءه اليهودي التعيس بعد ذلك قائلاً إن الوضع أفضل من الليلتين السابقتين ولكنه يتمنى لو تخلص من الكلب أيضاً، فوافقه الحاخام وطلب منه أن يبلغه كيف هو الحال بعد ذلك، فجاء اليهودي إلى الحاخام حامداً شاكراً لكي يقول له إن الوضع أصبح الآن طيباً ومريحاً!!
وهذه القصة التي هي واحدة من أساطير بني “إسرائيل” تعكس الكثير من منهج التفكير الإسرائيلي الذي يأخذ العرب إلى أسوأ الأوضاع Worst Case Scenario ويتجه بهم إلى «حافة الهاوية» ثم يلقي لهم ببالون اختبار من خلال مبادرة غامضة أو مشروع مشبوه تستهلك به “إسرائيل” فترة من الوقت لأنها ترى أن عامل الزمن في صالحها على المدى الطويل فهي تراهن على قبول العرب عامة والفلسطينيين خاصة لسياسة الأمر الواقع في ظل ظروف دولية مواتية ودعم من القوى الكبرى بدأته “إسرائيل” ببريطانيا ومر بفرنسا حتى وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية حامية “إسرائيل” وراعية وجودها والتي ترفض المساس بها وتمنع عنها أي إدانة دولية مهما كانت الظروف بل تضحي أحياناً من أجلها بالمصلحة الأميركية في الشرق الأوسط ولو مرحلياً. إنني أظن – وليس كل الظن إثم – أن “إسرائيل” هي التي تحدد ملامح السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط ولست أشك لحظة في أن “إسرائيل” هي التي اتخذت قرار الغزو الأميركي للعراق قبل أن يصدر ذلك القرار عن البيت الأبيض ذاته وذلك تأميناً للحديقة الخلفية للكيان الإسرائيلي فضلاً عن تخلصها من نظام عدواني كان يصعب التنبؤ بنياته، ولعل الأمر لا يقف عند هذا الحد فالتاريخ الطويل للصراع الدامي يشير إلى مراحل متعاقبة للجهود الديبلوماسية.
فهذا هو المبعوث الدولي غونار يارنغ يحاول في نهاية الستينيات وتلك هي القمم العربية المتتالية في السبعينات وفيها أيضاً مبادرة السادات الشهيرة التي كان من نتائجها إحداث انقلاب سياسي ضخم في مسيرة الصراع وطبيعته، وبعد ذلك هناك محطات كثيرة بدءاً من اجتياح لبنان إلى الانتفاضة الأولى ومؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو إلى حكومات نتانياهو وباراك وشارون وصولاً إلى «الرباعية» و«خريطة الطريق» وتفاهمات جورج تينت وغير ذلك كله من الأسهم الصاعدة والهابطة في «بورصة» الحلول السلمية التي تأتي متوازية مع جرائم “إسرائيل” التي لم تتوقف عن قتل الأطفال إلى اغتيال القيادات مروراً بهدم المنازل وانتهاك المقدسات، وأحسب أن “إسرائيل” لا تمانع في استمرار الوضع الحالي فهي تعربد في المنطقة وتستأثر ببرنامج نووي هو حلال لها حرام على غيرها! لأن الدولة العبرية هي دولة خارج إطار الشرعية الدولية والأوضاع الإقليمية، ولا شك أن ازدواج المعايير وسياسة الكيل بمكيالين التي تستمتع “إسرائيل” بنتائجها هي إحدى المبررات غير المقبولة لتنامي ظاهرة الإرهاب الدولي، وهنا أستأذن القارئ في أن أتقدم بعدد من الملاحظات أوجزها في ما يلي:
أولاً: إن العقلية العربية الحالية تبدو عاجزة عن مواكبة التفوق الإسرائيلي المدعوم من قوى دولية تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية وهو ما يعني أنه قد أصبح من المتعين علينا أن نفكر في طبيعة الصراع العربي – الإسرائيلي بطريقة غير تقليدية لا نفرط فيها بالثوابت على أن نملك في الوقت ذاته المرونة والقدرة على المبادأة مع إطلاق روح المبادرة، ذلك أن “إسرائيل” عدو غير تقليدي، لذلك فإنها تحتاج إلى أساليب غير تقليدية في التعامل معها، ف”إسرائيل” تملك آلة إعلامية تخترق معظم المؤسسات العالمية والهيئات الدولية وتتمتع بشبكة معقدة من الاتصالات يلعب فيها الاقتصاد الدولي دوراً يصعب تحديده، فاليهود وأنصارهم ينتشرون في جيوب خفية في الغرب والشرق على السواء، وما لم نتمكن من تغيير أسلوب تفكيرنا وتجديد نمط تعاملنا مع من حولنا فإننا نكون سمحنا ل”إسرائيل” بأن تمضي في مشروعها المدمر إلى النهاية.
ثانياً: إن فهم العرب لطبيعة المتغيرات الدولية وإدراكهم للأبعاد الإقليمية ينبغي أن يكونا دافعاً للانتشار المقبول والاتصال الفاعل لتمكين القضايا العربية وفي مقدمتها قضية العرب والمسلمين الأولى، وهي القضية الفلسطينية لأن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا أننا نتعامل مع العالم كما لو كان كياناً ثابتاً لا يتحرك بينما يموج العصر بتيارات متداخلة ومتنوعة بل وعاصفة أحياناً. إننا قد لا نتفق تماماً مع نهج الرئيس الراحل السادات ولكننا نتفق معه في طريقة التفكير التي حاول فيها استيعاب المتغيرات الدولية والتحولات الإقليمية مع تسليمنا بأن النتيجة لم تكن إيجابية عربياً حتى وإن كانت كذلك مصرياً.
ثالثاً: إن إعادة النظر في العلاقة العربية الأميركية أمر مطلوب، فالولايات المتحدة الأميركية تحتفظ بمصالح ضخمة في المنطقة ولكنها لا تقدم في الوقت ذاته ضمانات كافية لسكان هذه المنطقة بصورة تكفل أمنهم وتضمن حقوقهم. إن واشنطن التي تدخل في مفاوضات واتصالات بل ومناورات مع إيران يجب ألا تسقط من حسابها الكم والكيف العربيين وأن تعترف بأن مستقبل المنطقة لا يمكن رسمه بمعزل عن أصحابها وألا تفترض أبداً أن وجود أنظمة صديقة يبرر لها أن تمضي فيما تفعل وأن تواصل سياساتها المزدوجة ومواقفها المنحازة وكأنها تريد أن تأخذ دون أن تعطي فذلك أمر مستبعد في العلاقات الدولية المعاصرة.
رابعاً: إن توحيد الصف العربي وقوة الجبهة الفلسطينية شرطان ضروريان لتحقيق الأهداف القومية والأماني التي تتطلع إليها دول المنطقة إذ أن اختلاف الأجندات العربية وتمزق الجبهة الفلسطينية أديا إلى حالة من الانقسام والتشرذم لم تعرفها الساحة العربية من قبل، وأنا أقول صراحة إن “إسرائيل” لا تحقق أهدافها ولا تنفذ مخططاتها بسبب تفوقها فقط، ولكن لأنها تستغل أخطاءنا وتتسرب عبر ثغراتنا، كما أنها أصبحت تفهم جيداً طريقة تفكيرنا وتتوقع ردود فعلنا بل إنها تشعر أننا تعودنا على ارتكاب الأخطاء وابتلاع الهزائم.
خامساً: يجب أن نقرأ بذكاء وتجرد طبيعة التصور الإسرائيلي لمستقبل المنطقة فأنا أتصور – وأرجو أن أكون مخطئاً – أنها ليست مقتنعة تماماً بخيار الدولتين وأنها لا تتحمل وجود دولة فلسطينية مستقلة على حدودها لذلك فإن تصورها يقوم على أحد خيارين: الأول هو أن تأتي الدويلة الفلسطينية مسخاً مشوهاً ليس لها ميناء مفتوح ولا مطار مستقل ويستحسن أن تكون منزوعة السلاح محدودة التأثير مغلولة اليدين ولا مانع من إعطائها بعض رموز الاستقلال الشكلي بعد ذلك في محاولة لتزييف الواقع وتمرير المشروع الإسرائيلي الخبيث، أما الخيار الثاني فهو إلقاء مسؤولية غزة على الجانب المصري وإلقاء مسؤولية الضفة الغربية على الأردن، وفي هذه الحالة لا تتعامل “إسرائيل” مع الفلسطينيين مباشرة ولكن من خلال عاصمتي الدولتين في القاهرة وعمان وفي هذه الحالة لا مانع من اعتبار الكيان الفلسطيني جزءاً مشتركاً مع خريطة الدولتين مصر والأردن كلاً على حدة. إنني أزعم أن في الجعبة الإسرائيلية أفكاراً ومشروعات لا تنتهي وهي توظفها حين تريد لخدمة أهدافها التي تتطلع إليها واضعة في اعتبارها الظروف الدولية والحسابات الإقليمية والعوامل المتصلة بالزمان وما يرتبط به من أفكار ورؤى واتجاهات.
تلك هي قراءة عابرة لملف معقد لا بد أن نتعامل معه بجسارة ومبادرة ووضوح لأن «بورصة» الحلول السلمية المطروحة تسجل حالياً – على رغم المظاهر والادعاءات – فترة انخفاض للسعر العربي وتدهور للملف الفلسطيني.
* كاتب مصري
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

45 شهيدًا بمجازر إسرائيلية دامية في مخيم جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 45 مواطنًا على الأقل وأصيب وفقد العشرات - فجر اليوم- في مجازر دامية ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدما...

صاروخ يمني فرط صوتي يستهدف مطار بن غوريون ويوقفه عن العمل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام قال المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، إن القوات الصاروخية استهدفت مطار "بن غوريون" في منطقة...

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...

لازاريني: استخدام إسرائيل سلاح التجويع جريمة حرب موصوفة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن استخدام "إسرائيل"...

24 شهيدًا وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام اسشتهد 24 فلسطينياً وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر استهداف إسرائيلي بأحزمة...

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...