عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

ويستمر إجرام المافيا: هذه المرة في القطاع الصحي

رشيد ثابت

بداية أود أن اعتذر من القراء الكرام عن المبالغة في المقال الماضي حين اعتبرت أن صنيع “مافيوزات” فتح في قصة كهرباء غزة هو نهاية الأرب في الجريمة السياسية المنظمة؛ وأن ما جرى كان فوق الحد وفوق الخيال. كان يجب أن انتظر يوما واحد لأوفر هذه الأوصاف لقصة استغلال فتح للقطاع الصحي ولأبسط الحقوق الآدمية في إطار حربها المعلنة على حماس وعلى الثوابت الفلسطينية؛ وفي إطار انتصارها لرؤية بوش؛ ورؤية أولمرت؛ ورؤية كل طامع في فلسطين.

دور البطولة في هذه القصة تلعبه النقابات الصحية التي أخذت تظهر على الساحة سفاحا ونبتا شيطانيا – كما هو حال تلاميذ دايتون – لتمارس في قطاع غزة دورا تخريبيا وتدميريا؛ وتقوم بعمل نقابي مستهجن وإضرابات منكرة بحجة التمسك بالشرعية الفلسطينية الدايتونية! هذه النقابات العتيدة تعتقد أن الناس تفقد حقها في العلاج والطبابة والتمتع بالصحة والعافية بمجرد رحيل أجهزة أمن الطواغيت وبمجرد فقدان ميليشيات محمد دحلان القدرة على قتل وذبح الملتحين في السرايا والمنتدى؛ وأنه بسبب غياب هذا الخبث الشيطاني عن غزة – المسمى زورا بالشرعية الفلسطينية – فلا عولج مريض؛ ولا فتحت مستشفى؛ ولا توفرت الخدمات الصحية! بل ربما يعتقد هؤلاء أن الشمس هي الأخرى مذنبة وخارجة عن الشرعية ولا بد من اجتياحها بالميركافا ولا بد من قطع الكهرباء عنها حتى تكف عن السطوع على مناطق الانقلابيين من حماس!

تخيلوا معي هذه الصور البشعة: المستشفى الأوروبي شمال رفح (جنوب قطاع غزة) رفض يوم الأربعاء (22/8) إجراء عملية جراحية للفلسطيني محمد تمراز. السيد تمراز مقاوم من الجهاد الإسلامي أصيب بجروح في عمل مقاوم؛ لكن كما يمكن للجميع أن يتوقعوا فهذا لا يهم أولاد دايتون بالمرة. كذلك تم إلغاء عدد كبير من العمليات الجراحية في عدة مستشفيات في قطاع غزة بسبب إضراب النطاسيين النشامى – الأمر الذي ينذر بتدهور صحي. وحين تم نقل عديد الشهداء المجاهدين في اليومين الماضيين للمستشفيات فوجئ الأهالي بعدم وجود أطباء في قسم الاستقبال للتعامل مع جثث الشهداء وفحص حالتهم. لكن كما هو معلوم فإن العلاج لا يلزم الشهداء؛ وبمنظار براغماتي عملي وواقعي فإن هؤلاء الإخوة أحسن حالا من تمراز الذي يتعطل علاجه من إصابته الخطيرة. فهل وصلنا بسبب أولاد دايتون إلى وضع يحسد فيه الجرحى الشهداء على أنهم رحلوا عن دار الفناء؛ وعالم “أولاد الكامب”؟

لكن لا حاجة للاستغراب. فمن يدفع للشرطيين ورجال القضاء ليبقوا في البيوت ويتركوا الساحة للمجرمين وتجار المخدرات – لولا الله ووجود القوة التنفيذية بفضل الله – فليس غريبا عليه أن يسعى في سلب الناس أمانهم الصحي بعد أن سعى في سلبهم أمنهم في كل الأطر والآفاق.

وسائل إعلامية عديدة سجلت شهادات من يحضرون المشهد الصحي البائس في غزة الآن ويحاولون جهدهم أن لا ينفجروا غضبا من هذا التبلد المذهل والبرود الخنزيري عند المجرمين ممن يطيعون دايتون. أحد أهالي الشهداء الذين أهملت جثامينهم قال: “إن ما حدث مهزلة ووصمة عار في جبين رئيس السلطة محمود عباس وحكومة فياض”، متسائلاً: “كيف يتخلى الأطباء أنفسهم عن واجبهم الإنساني”. طبعا المسكين لا يعرف أن العار من أهل العار ليس عارا!

وكما قال آخر فقد “بات الواقع في غزة أن الطبيب غير الملتزم بعمله والذي يترك مرضاه ويهرب ليعمل في عيادته الخاصة يتقاضى راتباً ومكافأة من رام الله بينما الطبيب الملتزم بعمله والمتفاني في خدمة الناس يفصل ويحرم من راتبه”.

أما أحد الأطباء الذين حرموا من راتب فياض لأنه صاحب ضمير وأبى القعود في بيته وترك الناس يعانون فقد قال: “ما يجري مثير للمرارة والسخرية، في السابق كانوا يضربون لأنهم لا يستلمون الرواتب، واليوم يستلمونها ويضربون .. من يأخذ راتب يضرب، أما من يفصل ويحرم من راتبه يلتزم بعمله ويحرص على مرضاه”.

وحقيقة إن المرء يكاد يبصق على الدنيا وما فيها من قبح ما يجري؛ لولا أن هناك ثلة من الشرفاء من الأطباء والممرضين وموظفي القطاع الصحي ممن أبوا إلا التعصب لمعدنهم الأصيل؛ ورفضوا الانصياع لكل إجراءات رام الله التعسفية واللاأخلاقية؛ ولم يشتروا الدياثة بالمال؛ ولم ينجح الترغيب والترهيب في ثنيهم عن خدمة أبناء شعبهم. وكما قال أحد هؤلاء: “مهنة الطب رسالة وواجب والتزام ومسؤولية قبل أن تكون مهنة ومصدراً للدخل. فلتذهب كل الأموال إلى الجحيم إذا كنت سأتلاعب بحياة المرضى و”الغلابى” من أجل أن يرضى فياض أو عباس اللذان يعملان ما يعملان كي يرضى عنهما “شلومو” (في إشارة لـ (إسرائيل) ومايكل (في إشارة للإدارة الأمريكية)”.

المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان – على علمي هذه كانت المبادرة الوحيدة من نوعها من مركز كهذا حتى الآن – طالب بعدم تسييس القطاع الصحي وقطاع الخدمات الأساسية، وخاصة خدمات الصحة وصحة البيئة، وخدمات التعليم والخدمات الاجتماعية الأساسية اللازمة للسكان المدنيين، وطالب بعدم الزج بمصالح الناس واحتياجاتهم اليومية، في نطاق الصراع السياسي وتنازع الصلاحيات. هذا طلب جيد مبدئيا لكنه لا يكفي لتقديم الحلول؛ فلا بد من اتخاذ إجراءات قانونية وإدارية صارمة تعاقب الشياطين الذين يأكلون مالا حراما ليقعدوا في بيوتهم – لا بل ليتحول المرضى لعياداتهم دون المستشفيات الحكومية.

بوسع حماس أن تجد في الفقه الإسلامي والتاريخ المعاصر لكل الأمم الحية وقت الحروب والأزمات ما يكفي لشرعنة أقسى الاجراءات في حق هؤلاء الذين اختاروا نزع ثوب ملائكة الرحمة؛ وتسربلوا بثوب شيطاني خلق مقابل كيس من مال فياض المسروق من دم الشعب الفلسطيني ولحمه وأموال الضرائب التي يدفعها!

ليس الإضراب في القطاع الصحي قرارا نقابيا أو سياسيا يمكن أن يتخذ بمعزل عن مصالح الناس وحاجاتهم الأساسية؛ وخصوصا حين يكون في خدمة المجهود المعادي لفلسطين؛ وبين يدي أخبار تتحدث عن قرب وقوع اجتياح صهيوني للقطاع! من يرى في ترك المجاهدين الجرحى والمرضى الفقراء يألمون من إصاباتهم وأمراضهم خيارا سياسيا مشروعا؛ فهو كمن يقول أن عبدالله بن أبي بن أبي سلول كان يمارس اجتهادا سياسيا مشروعا حين انسحب من غزوة أحد بثلث الجيش فيما المسلمون في أمس الحاجة للمدد! إن كان هذا الكيد في المشروع الإسلامي وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم اجتهادا سياسيا فما يصنعه أطباء نقابات دايتون خيار مشروع. ولذلك فإن على حماس أن تضرب هؤلاء إداريا ومهنيا بكل الوسائل المشروعة. لا أدعو بعد إلى الإتيان بأي طبيب من هؤلاء إلى ميدان عام والكشف عن ظهره وضربه بجريد النخل المنقع بماء البحر حتى يتوب ويعالج المحتاجين؛ لكن دون شك فإنه يمكن منع هؤلاء من تحصيل رواتبهم من المصارف عن طريق التعميم على أسمائهم وفحص القادمين للبنوك على حواجز للقوة التنفيذية. كذلك يمكن إغلاق عياداتهم ومنعهم من مزاولة المهنة والتربح من إضرابهم التآمري. المهم يجب أن يفهم هؤلاء أنه إن لم يكن لديهم وازع من أنفسهم للتوقف عن الولوغ في الباطل فلا أقل من أن تتولى الأجهزة الشريفة همزهم بمهماز الفضيلة حتى يرعوي الحصان الحرون وينكبح جماحه “بالعاطل” إن كانت “المنيحة” قد ضاعت عند “أولاد الكامب”!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات