عقول السوبر و فهم إسبارطة الجديدة

كنت أمضي نهاية الأسبوع الماضي بالاستماع لإذاعة البي بي سي BBC متلقفاً منها ما أمكن من الأخبار و المستجدات بعد أن هجرنا الإعلام المحلي ويئسنا من أفعال ” المجهولين” الذين قد تمر بهم في أحد الأيام وإذا بك تفاجأ بأنهم أبعد ما يكونون عن المجهول وأقرب ما يكونون إلى الجهل والزعرنة ..
المهم وخلال إحدى الفقرات الإخبارية قفز المذيع بالسيد ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وأنا متابع دائم للسيد عبد ربه منذ فقاعته الإعلامية (اتفاقية جنيف ) رغم يقيني المطلق بمجهرية القطاع الشعبي الذي يمثله عبد ربه ….. إلا أن ما لفتني فيه على الدوام هو هذا العزف المتميز على وتر العقل والعقلانية وكأنه بهذا يصنع من الجميع أجسادا بلا عقول و سطحية بلا عمق وهو الوحيد القادر على النفاذ إلى الماورائيات و (الفتح بالمندل ) – ولم لا فهو من نموذج عقول السوبر العربية التي تملك كل فضائل النهضة العربية الناجزة!!!- ولكن ما استغربته هو هذه العصبية الشديدة و الممسوسة التي ظهرت خلال لقاء عبد ربه بالإذاعة البريطانية التي وصلت حد قلة الأدب و شتم المذيع ، وهنا لم أملك من نفسي إلا الضحك على كل الديباجات التي سمعتها مراراً و تكراراً حول حرية الإعلام و دوره و احترامه ..و الخ و أنا الآن لست في وارد تذكيركم بياسر عبد ربه و بالمآخذ عليه تاريخياً إلا أن ما أكتب عنه في السطور التالية هو إجابة عن جزء من السؤال الذي دفع السيد المذكور إلى كل الشتم و “الردح” على الهواء..
هل إسرائيل مستعدة جدياً لاتخاذ قرار مصيري في المنطقة؟؟؟
قبل النفاذ إلى الموضوع الفلسطيني لفهم أية حراك سياسي مقبل يجب قياس الحركة السياسية الإسرائيلية و تبين مدياتها و مراميها باعتبارها الفاعل الأكثر قوة – اقتصادياً و عسكرياً- إقليمياً و كذلك باعتبارها اللاعب المدعوم و الحليف للفاعل الأكثر قوة أيضا على الصعيد الدولي –الولايات المتحدة- وعلى هذا الصعيد يحضر في اللحظة الراهنة و بقوة الحراك الحزبي الداخلي و تصبح أدق تفاصيل السياسة الإسرائيلية مؤثرة و بشكل لافت على الاستقرار الإقليمي في المنطقة.
ومما سبق يصبح لزاماً فهم الأفول القيادي في إسرائيل و اجترارها لمجموعة من الأسماء ( نتانياهو-باراك – أولمرت) منذ ما يزيد عن عشر سنوات –مع استثناء الحقبة الشارونية – إن هذا يعني في السوسيولوجية الصهيونية غياب أي استعداد قومي للبحث عن بدائل جدية في الشخوص و القيادات و البرامج، وليس من الصعب في هذا السياق استذكار فشل عمرام متسناع في قيادة العمل لاعتبارات تتعلق بكونه مثل وجهاً جديداً جذرياً على الساحة الحزبية، ويجب إدراك أنه في المدى المنظور ستبقى إسرائيل مكبلة بصورة نمطية من القيادات الحزبية المؤهلة لقيادة الدولة، وهذه الصورة باتت تتمركز –خاصة منذ حرب تموز- حول القائد الأمني الخارج من المؤسسة العسكرية و الذي يمتلك في جيبه مفتاح أمن إسرائيل و مواطنيها و أذكر هنا بحملة باراك الانتخابية الداخلية في حزب العمل حيث نشرت هذه الحملة إعلاناً مدفوع الأجر في الصحف الإسرائيلية يمثل رسالة للرأي العام ممن اعتبرتهم الحملة النخبة المفكرة للمجتمع الصهيوني والتي تدعو فيها إلى انتخاب باراك ، حيث لوحظ أن 65% من التوقيعات المدرجة في الرسالة هم من القيادات العسكرية في الجيش .. وهذه رسالة بسيطة مفادها أن إسرائيل هي مجرد إسبارطة جديدة تنظر إلى صفوة القيادات الأمنية و العسكرية فيها على أنهم النخبة المفكرة فيها.
وخروجاً من الضيق نحو الأكثر رحابة لا تبدو السياسة الإسرائيلية بعد حرب 2006 في وارد امتلاك زمام المبادرة على الصعيد الإقليمي، إذ يشكل المد الإيراني خطراً استباقياً يفرض على إسرائيل تكريس كل الجهد و توجيهه نحو تركيب أوضاع المنطقة بحيث تمتص هذا المد، وهذا يعني أولاً أن توجه إسرائيل قنوات الحوار التفاوضي أولياً نحو السوريين و ليس نحو الفلسطينيين و هذا ما يظهر جلياً فيإعلان مجلس الوزراء الإسرائيلي في بداية الأسبوع الحالي أنه ليس بصدد حرب مع سوريا و أن السوريين لا ينوون الحرب كذلك و ما سبق هذا التقييم من غزل إسرائيلي علني .
ولكن لحظة … فهذا لا يعني أن إسرائيل مستعدة استراتيجياً للسلام مع سوريا ،فهي و مع كل جهودها السابقة لا زالت تختبئ وراء الفيتو الأميركي ، أي أن دعوتها للسوريين تقول ( خذوا الموافقة من الأميركيين و تعالوا لنتفاوض!!)
وحتى فيما يتعلق بالمبادرة العربية و الموقف من مربع أو مكعب الاعتدال العربي ، فإسرائيل لا زالت ترحب بالمبادرة دونما اتخاذ مواقف دراماتيكية تخرج هذه المبادرة من قبرها وفي ذات الوقت فهي تكسب ربحاً صافياً يتمثل بالتطبيع المجاني الذي باتت تقوده فعلياً وزارتا الخارجية المصرية و الأردنية و الأنكى هنا أن ذلك صار يتم باسم العرب جميعهم و ( غصبن عنهم!!) هذا كله عدا عن الشرخ الفلسطيني الحاصل و الذي تدرك إسرائيل سلفاً أن أي التزام فلسطيني أحادي من قبل أبو مازن لا يمثل حلاً مرضياً يمكن الوثوق بصموده أمام قوة حماس ، والمطلوب من أي حل هو أن يكون بالتزام فلسطيني كامل سواء كان ذلك برضاهم أو بسطوة طرف منهم على الآخر وهذا ما لا يبدو ممكناً في ظل الضعف المتنامي الذي يعانيه أبو مازن.
وخاتمة اللا-متغير في واقع السياسة الإسرائيلية، هو هذا الدعم الأميركي اللا محدود الذي تلقاه الحكومة الإسرائيلية ، في ظل أن الإدارة الأميركية لا زالت غير معنية بإحداث تغيرات نوعية في الجيو استراتيجيا السائدة حالياً ، وبذلك تحظى إسرائيل بدعم مكفول حتى نهاية الحقبة البوشية وينبغي فهم المؤتمر المزمع عقده في نهايات العام الحالي في هذا الإطار دونما توقع أية نتائج مستجدة.
في خلاصة كل ما سبق يجب التشديد أنه لا توجد أية عناصر داخلية حزبية أو إقليمية أو دولية تدفع إسرائيل باتجاه اتخاذ قرارات استراتيجية أياً كان نوعها و مثلما أقصد هنا أن إسرائيل غير مستعدة للسلام مع الفلسطينيين فهي كذلك لا تجرؤ على حرب مع السوريين أو مع منظمة حزب الله… باختصار فإن إسبارطة الجديدة تعيش حالة من اللا-حرب و اللا-سلم تستثمر فيها بالأساس مستقبلها عبر سياسات الأمر الواقع .
رسالتي الأخيرة للعقول السوبر أمثال السيد ياسر عبد ربه أنني أدرك بالغ عظمة تفكيركم و إحاطتكم بكل وسائل النضال التي سأفترض جدلاً أن المفاوضات جزء “أصيل” منها!!! …ولكن ما دمتم أنتم قبل غيركم تقولون أن إسرائيل غير مستعدة لمفاوضات الوضع النهائي و ما دمتم أنتم قبل غيركم أصحاب نظرية التوازنات الدولية و أنه لا قبل للفلسطينيين بفرض أي شيء على إسرائيل في المرحلة الراهنة فلماذا تضييع الوقت واستجداء إسرائيل في مرحلة ندرك سلفاً أن إسرائيل غير مستعدة و لا يمكن إجبارها سياسياً على أن تستعد؟؟؟؟
إن ما يمكن أن يستجديه أبو مازن منفرداً من إسرائيل لن يبلغ عشر ما يمكن أن ينتزعه الفلسطينيون موحدين…
—————–
* إسبارطة : إحدى دويلات الإغريق القديمة واشتهر عنها بأنها تمثل المجتمع المحارب .
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...