ماذا تبقى من ذكرى ياسر عرفات؟

يومها كنت مثلي مثل كثرين جدا من أبناء الشعب الفلسطيني الذين عاشوا عقودا من عمرهم يقدسون طَوْطَمْ “أبو عمار”. كان العمل الفدائي والكوفية ومهرجانات طبق الخير والدبكة وقصص أطفال “الآر بي جي” في عين الحلوة وحتى المناقيش والصابون النابلسي الوافد من الأرض المحتلة – كل ذلك كان يخدم قضية الدعاية لهذا الرجل وجماعته. ولم يكن أكثر الفلسطينيين في الخارج يشك في أن الانتفاضة هي امتدادات لبطولات الفدائيين الذين هم من المنظمة التي يرأسها ياسر عرفات. شيئا فشيئا أخذت الروايات عن حماس وعن شباب المساجد تقوى وتتعزز؛ وصار هناك محل واضح لعمل نضالي بطولي لا يجيَّر مردوده السياسي لياسر عرفات؛ لكن بقيت للرجل هالته!
أما في حرب الخليج الأولى (حرب احتلال العراق للكويت) فقد بدأت الأخبار التي أخذت تتسرب عن الثورة الفلسطينية وما “عانته” بسبب موقف المنظمة في تأييد الرئيس صدام حسين – بدأت ترسم صورة شاحبة أكثر واقعية للثورة. المقالات والكتب التي أرخت لتلك المرحلة تحدثت عن خسارة الثورة الفلسطينية لدخل يقدر بمليارات الدولارات مما كانت تجني من الكويت وغيرها من دول الخليج؟ لقد كانت ثورة ثرية حقا؛ يفوق دخلها دخل أي دولة عربية غير نفطية. أما اجراءات التقشف التي أعلنت وتسربت المعلومات عنها فقد كانت مضحكة مبكية: هل هناك ثورة فدائية حقيقية يدرس أولاد قادة الصف الأول والثاني فيها في بريطانيا وأمريكا؟ وكيف يمكن لقادة الثورة الفلسطينية أن تنزل الخمور الفاخرة الباهظة الثمن – يعني حرام وخسارة مضاعفة – على فواتير سفرياتهم وحجوزاتهم في الفنادق؟
مع ذلك – لأن للهوى سلطانا نافذا – بقيت هناك بقية من “حلاوة الروح” حين جاءت أوسلو ودخل “المقاتل” الفلسطيني إلى الضفة وغزة؛ وكانت صورة الكلاشنيكوف – غير الملقم بالرصاص – الخارج من نوافذ الباصات المتجهة لدير البلح – أول بلدة “محررة” – منعشة وراسمة لنشوة كذابة…نشوة كذابة كانت تُغَذّى من ضرع الصورة التلفزيونية الجميلة للطوطم…الطوطم الذي مارس الخداع على مدى عقود طويلة من عمر القضية.
لكن جهنم المستعرة في نفوس قادة وكوادر الختيار تكفلت بمحق البركة سريعا؛ فهذه النفوس الطماعة سرعان ما عدت دخول فلسطين إيذانا بعهد ترسيم الثورة وتحوليها إلى جهاز حكومي عربي بدأ من أوسخ ما وصلت له أفسد البلاد العربية. في غضون سنوات قليلة صرنا نسمع عن جنرالات البنزين والطحين وعن شركة البحر وبيع وكالات كل بضاعة تكترى وتباع في فلسطين لهؤلاء؛ وحللنا في مقياس الفساد الدولي خلف بعض أكثر الدول العربية قبلية وتخلفا وتغييبا للمؤسسات. فكيف حصل هذا؟ وكيف نجح أزلام الطوطم في تدمير الصورة الزاهية؟ هذه أسئلة استنكارية وأنا لا انتظر جوابا…
الآن بتنا نعرف أن التخريب كان ديدن مدرسة هذا الرجل من زمان؛ لكنه وعلى عكس كل الحكام العرب كان له فرصة أن يجرب تخريبه من جديد عدة مرات؛ على عدد ملاجئ ومواطن الشتات الفلسطيني. هذا هو المثير للضحك في سيرة الشعب الفلسطيني البائس؛ أما المثير للغثيان فكان أن الختيار اتبع في كل هذه المرات نفس السلوك ونَهَجَ نفس الأسلوب في إدارة العمل الثوري؛ الأمر الذي كان يفضي في كل مرة للمزيد من توسيخ وتدمير الثورة الفلسطينية والنيل من جمهورها ودون أي عظة أو عبرة!
الآن بتنا نعرف أن الطوطم أفسد القضية حين حول “الثوار” إلى مجرد “قبّيضة”؛ وحين نجح في برمجة عقولهم على نحو نجح في شطب السؤال الضميري – “ماذا قدمت أنا لفلسطين” – من قلب كل واحد منهم؛ ليحل محله سؤال من قبيل: “طيب أنا شو حصتي من هاي العملية”؟
كان المال الفاسد هو وسيلة إدامة وإعاشة هذه الثورة؛ وبالمال الفاسد فسدت النفوس؛ وبالمال الفاسد تسنى للختيار أن يتحكم بكل مفاصل القرار: فمرة يقوّي زيدا ضد عبيد؛ ومرة يعود لمراضاة عبيد – هذا الذي كان قد بصق في وجهه ولطمه أمام الحضور وشتم أباه وأمه – إن شك مجرد شك في أن لدى زيد أجندة مختلفة من نوع ما.
إذا هو كيس المعز وسيفه ما حفظا للختيار تلك الصورة البهية. صحيح أن الإعلام ساعد في رسم الهالة؛ لكن المال في النهاية هو الذي أبقى كل أيدي سبأ المتفرقة ما بين داخل وخارج؛ وغزة وضفة؛ وشباب صاعدين وكهول قادمين من تونس؛ وغير ذلك من تشكيلات تتبع كل واحد من “الأبوات” – المال هو الذي أبقاهم جسدا واحدا؛ وهو الذي كان ينظم العزف الجماعي خلف أبي عمار؛ ويجتمع في سبيله ومن أجله دحلان مع الرجوب؛ والرجوب مع نبيل عمرو؛ وهذا وذاك من أضداد فتح ومتناقضاتها الكثيرة. ولأن أمريكا فهمت “الفولة”؛ فقد عملت على صنع طوطم خاص أثبت أن المال فعلا ينجح في ستر العيوب؛ ويمكن أن ينفخ في تافه حقير مثل محمد دحلان فيغدو محترما لا يناديه الآخرون إلا بالكنية (أبو فادي)! وتدفق المال على محمد دحلان الذي بدوره نجح في شراء الكثيرين من فتح؛ ووصل به الحال أن كان قادرا على تحدي ياسر عرفات بنفس أسلحته؛ وذلك حين اشترى ما يكفي من الزعران والبنادق والسياسيين والقادة الميدانيين والإعلاميين. لقد ساعدنا محمد دحلان في ثوراته في غزة في حقبة ما قبيل رحيل عرفات – ساعدنا على التأكد من حقيقة مفاعل القوة الأكبر الذي كان في يد عرفات: المال.
ياسر عرفات مسؤول عن كل ما حل بنا في الماضي ومسؤول حتى عما يجري في الحاضر؛ فكل سفاح دايتون هم “سيئات” من عمله غير الصالح. وقد يكون عرفات دفع جزءاً من الثمن المستحق عليه؛ وذلك حين هلك على يد من كان يسميهم “بالجزم” – جيم قاهرية – أو “بالكوندوم” أو أي كلمة وسخة أخرى للتهوين من شأنهم؛ ولإعفاء ضميره وسمعته من المسؤولية عن اجتباء الخونة والعملاء كقادة ومستشارين..أقول ٌقد يكون عرفات سدد بموته على أيديهم جزءاً من حسابه؛ لكن هذا طبعا لا يكفي؛ ولا يساعد ضحايا الانفلات العباسي في الضفة؛ ولا يشفي عذابات المحاصرين في غزة؛ ولا يساهم في تخفيف خطر سفاح دايتون الضاغط على فلسطين الآن بكل شراسة.
لكن عرفات أفضى الآن إلى خالقه؛ ولا يجب في ذكرى موته الخوض في أمره بأكثر من البحث في العبر المتوخاة من سيرته…وأهم عبرة يمكن للفلسطيني أن يتعلمها بين يدي هذه الذكرى هي أن لا يؤمن بالطواطم مهما كانت براقة ومصنوعة جيدا في الإعلام. على الفلسطيني أن لا يقبل ظهور “عرفات جديد” حتى لو كان هذا يحسن وضع الكوفية منتصبة على رأسه أو منسدلة على أكتافه…ولا يهم إن كان هذا العرفات الجديد معتقلا حاليا أو سابقا؛ فكل الأعمال الفدائية والثورية هي حجة على صاحبها؛ وليس صاحبها يحتج على فلسطين بها. و”عرفات الشاب” القادم الذي يجهز لحكم فلسطين من “هداريم” قد يبدو للوهلة الأولى مناسبا جدا لدور الطوطم – على الأقل في نظر صُنّاعه والمؤمنين به خيارا – لكن بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين فإن علينا أن لا نلدغ من ذات الجحر مرتين؛ وعلينا أن نتذكر أن شخصا يجد في “جنيف” أساسا للحل – مروان البرغوثي قال ذلك في حوار مع “معاريف” في يوليو الماضي – سوف لن يستحق أن ننخدع له أربعين عاما أخرى! ليس فقط لو كان معتقلا حاليا أو سابقا؛ بل حتى لو استشهد وعاد للحياة ثلاث مرات على الأقل!
بمناسبة قيام “بسام أبو شريف” بنبش ذكرى موت عرفات هذه دعوة للشعب الفلسطيني أن يكون على حذر من “العرفاتية السياسية”؛ وأن يجعل فلسطين وثوابتها أكبر من كل الحطات والرايات والفصائل؛ وأن يتذكر أن كوفية لا تصل إلى حيفا هي كوفية بالية لا تستر عورة صاحبها؛ وصاحب شعار “دولتين لشعبين” هو ساقط حتى لو كان ذا شخصية كاريزماتية؛ ولو كان ذا وجه “فوتو جينيك” يلائم الظهور المتكرر على شاشات الفضائيات!
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...