السبت 10/مايو/2025

من أسقط القانون!؟

سوسن البرغوتي

إن أول لبنة تؤسس لقيام أيّ دولة قابلة للحياة في العالم، يجب أن تتميّز بانتفاء حالة العصبيات العشائرية أو القبلية، فهي بداية انتشار فوضى وتخبط في ميزان التوازن الاجتماعي، والتساوي بين أفراد المجتمع الواحد في أن يكون الوطن هو الأغلى، وهو القيمة الكبرى المتفوّقة على عصبيات ذاتية محدودة.

وعلى هذا الفهم ينتظم المجتمع تحت مظلة القانون، وسلطة القضاء المهنية الشفافة والمستقلة، البعيدة عن الأهواء الحزبية أو الفئوية، ولا شك في أن تطوّر وارتقاء وشفافية العمل المهني ترفع من سوية الانتماء للوطن، وترقى بالمجتمع للإحساس بالمسؤولية الجماعية، في إطار حصانة يكفلها القانون، تقف في وجه كل منحرف تروق له شطحات سلطوية، لمنعه من المضي بسلوكيات خاطئة، وخارجة عن السرب والمصلحة العامة، وتؤدي إذا لم تجد ما يوقفها إلى انهيار كامل.

أغلب الأنظمة العربية المتظللة بغطاء الديمقراطية المزيفة، تحكمها فئة متسلّحة بقرار سياسي تابع مباشرة للإدارة والإرادة الأمريكية المتحالفة استراتيجيا مع الكيان الصهيوني، وهي أيضاً تشكّل نظاماً هرمياً من عناصر متحالفة معها من أجل مصالحها لابتلاع سيادة سلطة القانون المفترضة أن تكون مستقلة، فيصبح القانون في خدمة القوّة وليس في خدمة الحقيقة.

ولعل المثال القريب ما جاءنا على مقولات لفظية “للحد من تفشي الفساد، ومن التفريط مع سبق الإصرار في حقوق الشعب” وهذا لن يكون بتجميد الملفات المسيئة، ولا بالمجاهرة الوقحة والادعاء بأن “النائب العام ينظر في قضايا الفساد من سنوات!”، فهل حرك سيادة النائب العام حجراً في تلك القضايا، وهل تم كفّ يد أي سارق وناهب، وهل أعيدت الأموال المنهوبة إلى الخزينة؟.

ليس من الصعب أن يكتشف الشارع العربي، توظيف القانون سياسياً، ويصبح كادراً معطلاً، اللهم في تفعيل رؤية سلطوية، وزجه في صفقات تعويضية تبادلية، بصرف النظر عن الحق العام بتبرئة أو إدانة الأطراف المعنية بتطبيق القانون.

سادت شريعة الغاب في ظل غياب العقل والقانون، وأصبح الحق مغيباً، فالقانون المستقل هو وحده صاحب السيادة  في مسائل الحقوق والواجبات، وهو الفيصل في الفصل بين المبررات الواهمة وبين الالتزام بقواعد شرعية لصالح الجميع، وهو وحده أيضاً لا يخلط بين المطالبة بالحقوق وثوابت وطنية، وبين تلاعب بها على خلفية مصطلحات مضللة.

برزت على ذات الممارسات قيادات دول “الاعتدال” أصحاب الصولات والجولات في التخريب، وقد طوّعت كل السلطات القانونية، وجيرتها لحسابات الربح والخسارة لأنظمتهم المتهالكة.

القانون هو قوة جماعية تحكم بعدل دون مواربة أو محاباة، ولذلك فإن أهم خطوة يجب أن تسعى الشخصيات الوطنية إلى تحقيقها، هي تفعيل دور القانون والقضاء، فالمصلحة العامة تفرض وجود هذه القوة المستقلة، وهي القادرة على أن تضع حداً للخروقات على جميع الأصعدة.
وفي ظل غياب الكابح والضمير المهني، باتت الحقيقة تحتمل أوجه عديدة، والبحث عن الحقيقة المجردة ضرب من الهذيان، فالاستقلالية تعني ضبط الجماعة وظهور الحقائق.

في كل أنحاء العالم وفي دول صاحبة السيادة والاستقلال، يخضع الكثيرون من قادتها السياسيين والعسكريين إلى المساءلة القانونية، وقد مثل كلينتون أمام القضاء في قضية مونيكا، ورامسفيلد استقال من منصبه بسبب اتهامه بالتقصير بإدارة قوات الاحتلال في العراق، وآخرون من الصفوف الأولى يحاسبون على كل شاردة وواردة، والهدف من ذلك أن المهمة التي اُنتخب المسؤول على أساسها، لم يقم بالدور الموكل إليه من منطلق المصلحة العامة، أو لكونه لم يرقَ أخلاقياً أو وطنياً إلى مستوى المسؤولية الموكلة إليه.
وفي كل أنحاء العالم، يستطيع أي مواطن مهما كانت منزلته وقيمته الاجتماعية أن يواجه المسؤولين والقياديين الممثلين له، فلم يعد هناك من يستوعب منطقاً بادعاء ديمقراطية مستوردة، والتي تُسخّر لتطبيق إملاءات ليست في مصلحة الوطن.

كتساف.. رئيس الكيان الصهيوني خضع للمساءلة من قبل شابة عادية، وأولمرت اُستجوب لاتهامه بملفات فساد مالي، وعمير أُقيل من منصبه العسكري كون إدارته أخفقت في حربها على لبنان في الصيف الماضي. أما مسؤولونا المنزّلون من السماء، فلا القضاء ولا الشعب له أي حق في مواجهتهم، أو محاسبتهم، رغم أن ملفاتهم السيئة ضخمة ومثقلة بالبراهين والوثائق الثابتة عليهم، كونهم في مواقع المسؤولية، وقد اعتبروا تلك المواقع ليست أكثر من وظيفة للاسترزاق، في وقت يعاني الشعب من ويلات الاحتلال والحصار، ولا وجود لمقومات الدولة بالمعنى المتعارف عليه.

إن التهديد المبطن أو العلني لكل من يواجه ويتكلم، هو أس البلاء، وبدلاً من ممارسة الحوار العقلاني النابع من احترام الرأي والرأي الآخر، تنهال سياط الاتهامات الباطلة من كل حدب وصوب على كل من يُسائل، لذلك فالمتسلطون يجدون الحل الأمثل بالقمع، وملاحقة من ينقد أو ينتقد، ومن يرفض الممارسات الخاطئة والمخلّة بالمصلحة الوطنية، ولو كان يحمل في جعبته الأدلة والإثباتات.

ما آلت إليه القضية الفلسطينية من تهالك جاء نتيجة العبث الأوسلوي وجميع الاتفاقيات اللاحقة، والمحاسبة والمساءلة في هذا الشأن وغيره مطلب حق أن يجاهر به كل فلسطيني في الداخل والخارج على حد سواء، كون الشعب الفلسطيني هو المتضرر الرئيس، فالآلاف من الرهائن على معبر رفح، لم تحل أزمتهم، بل تفاقمت خطورة المؤامرة الإسرائيلية الجارية بتحويل سيناء إلى منطقة استيطان فلسطيني، وتطهير الأرض الفلسطينية من شعبها وسكانها الأصليين، وتبدو سيناء وكأنها الوطن البديل!، في حين أن اللقاءات الودية مع الصهاينة، تعد بسراب دويلة فلسطينية، التي قد تكون حدودها رام الله أولاً وأخيراً.

العجز عن الفعل لا يبرر سلوك الخيانة، ولكن الاستمرار بالفشل مع سبق الإصرار يعني القفز عن مصلحة الشعب، وهنا تصبح المساءلة أكثر إلحاحاً لاستئصال التهوّر الحاصل جراء المكابرة، واعتماد نهج الديكتاتورية، ومقولة “أنا فلسطين وفلسطين أنا!”، فالقائد الذي يعجز عن القيام بدوره عليه الاستقالة، ولا حاجة للاستمرار بتحميل الشعب إخفاقاته وتناقض تصرفاته وتصريحاته.

إذن فإن وجود القضاء المستقل يهيئ للجميع قوة شرعية، وملجأ لحَكم محايد من أجل تعطيل الباطل وتنشيط الحق. فلجان المتابعة وفصائل المقاومة والقطبين الرئيسين فيها، لا يمكنهم جميعاً الوقوف بروية وعقلانية على حقائق الأمور، خاصة في تصعيد فورة تكميم الأفواه، وإرهاب الفعل والكلمة، والمواقف مثبتة بالوثائق والأدلة، وليس هرطقات وهلوسات عبثية.

الدعوة إلى صوت العقلانية بشكل منظم للخروج من كافة المشتبهات والاشتباكات، وإثبات الوقائع ونسبها إلى الجهات المتورطة في إشغال المقاومة بمهاترات جانبية تقصيها عن الهدف الأسمى، هو بداية تصحيح لمرحلة الاستفراد بالقرار السياسي على أساس ضمانات قوة خارجة وبعيدة عن تفهم المطالب والطموحات الفلسطينية، وما آل إليه واقع الضعف والعجز بالتفريط والتنازلات المستمرة.

على هذا الأساس، الكل سيلتزم بقرارات القضاء، وسيجعل المنفلتين أكثر حذراً لأي خطوة مستقبلية، وليس لأهواء ورغبات وأهداف خاصة، تعمل بالاتجاه المضاد لمصلحة الشعب والقضية.

الأمر الواضح للعيان، أن تيار سلطة أوسلو لم يتغير، وأنه منذ البداية أعلن المضي بمشروعه الانفصالي عن ثوابت ومطالب الشعب الفلسطيني، ولم يعترض أيّ من الفصائل على تلك المسيرة منذ قدومهم للأراضي المحتلة. ومع تزامن  دخول حماس أروقة صنع القرار السياسي الفلسطيني، أثار شهوة المتنفذين على الحكم بقدر ضئيل محلي، لتصعيد إنهاء مهمتهم بالقضاء على المقاومة.

الآن، وبعد أن وضحت الرؤية لم يعد من مجال للاجتهادات، فما هو موقف المقاومة، وأعني كل الفصائل الفلسطينية، من مسألة وخطورة ملاحقة المقاومين، وما هو الموقف من الكشف عن أسرار وتحركات المقاومين لمواجهة العدو الصهيوني من الأنفاق وحتى أماكن تدريبهم وإقامتهم؟، وهل يكون الصمت جائزاً وطنياً بعد محاولة ترقيع وجه لم ولن يتغير أبداً، وما هي الحلول في ظل خرائط ومخططات عملاقة للقضاء على مبدأ مقاومة المحتل ، الذي أصبح بشرعية المتساقطين ليس محتلاً؟!.

الرئاسة وأجهزتها مرتبطة بالتزامات أمام من نصّبها في السلطة، وتقديم تنازلات مقابل امتيازات بعيدة كل البعد عن الانتماء الحزبي، ففتح الثورة، غير التي تشكلت بعد أوسلو، وبغض النظر عن الصواريخ الكلامية، فليس هناك أدنى شك أن السلطة وبناء على اتفاقيات الاعتراف، أفرزت مجموعة انفصلت عن المسار الصحيح، وشكلت حزباً متصهيناً مستحدثاً وقد انشق عن الخط الفلسطيني، ورضخ لما يسمى “بالشرعية الدولية والرباعية”.

من الهراء إضاعة للوقت والجهد بفضح ممارسته ضد شعبه، ويبقينا في الدوامة نفسها، مع مراعاة تبرير التصفيات والتعذيب والحصار لأبناء شعبنا من الطرف المحتل، والآخر الداعم لمستقبل هيمنة شاملة على الوطن العربي.
لا جديد بكل المستجدات، ورغم إثبات تورط الأجهزة الأمنية بالعمالة وبتقديم عون للمحتل بأماكن وأسماء المقاومين، ناهيك عن الفساد المالي والانهيار الأخلاقي، فمن يملك القدرة على محاكمة هؤلاء؟، خاصة وأن قيادتهم تحاسبهم، ليس على فسادهم وعمالتهم وخيانتهم، بل لهزيمتهم في مواجهة طرف فلسطيني آخر يقل عتاداً وعدداً، والتساؤل الذي يطرح نفسه، ماذا لو واجهت هذه الأجهزة العدو الحقيقي؟.

لقد اقتصرت وظيفة القانون على محاسبة الفارين يوم الكرّ، ومن قبل المجلس المركزي لقادة يتبعون هذا التيار، فهل القانون الفلسطيني فُصل على مقاس فئة معينة، وباقي الشعب أولاد جارية؟، وهل الاغتيالات في الضفة والإعدامات والاعتقالات وحرق مؤسسات ثقافية، مقبول ومتغاضى عنه؟، أم التهليل فقط لأن حماس تحت المجهر في غزة، فإذا أقفلوا مؤسسات صحفية لأسباب أمنية لساعات قامت الدنيا ولم تقعد، رغم أن القاصي والداني يعرف توجه تلك الصحف، وهي تدس السم على أجنحة صفحاتها.
أليست ازدواجية في التعامل مع كل ما يحدث على الساحة الفلسطينية؟، ولماذا التخبط في تصريحات هذا أو ذاك، ولماذا يُلوح بالقضاء عندما يخص حكومة البقعة الصماء، وعندما تُكشف الوثائق، يعم الصمت، ولا نسمع إلا جعجعة وهرطقات.

هناك حق عام، وقد ابتلعته السلطة المحلية، وسخرته لمصلحة الامتيازات، وما عدا ذلك أكاذيب وأضاليل، فأين براهين هؤلاء مقابل الوثائق التي قدمتها حماس علناً؟.

لقد صمتت جميع الفصائل حيال قضايا أخلاقية لقياديين نخبة وليسوا من عامة الشعب، وهم في موقع لا يقبل انحرافهم الأخلاقي على هذه الشاكلة، والحجة “حتى لا تُشوه صورة القضية الفلسطينية!”.
نحن نقول بأن الوطن أكبر من الجميع، وأمام الوطن والحق والثوابت الوطنية، تتلاشى كل العصبيات والعشائريات، ومن العجب أن نصدق دون دليل أن هذا الضابط قُتل بدم بارد، أو بافتعال معركة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات