مراوحة سياسية لتكريس القطيعة بين الفلسطينيين

إن مراجعة سريعة لطبيعة التحركات السياسية الأمريكية خلال الفترة التي أعلنت فيها حماس عن رغبتها في المشاركة بالانتخابات التشريعية، وبعد فوزها المفاجئ فيها وتشكيلها الحكومة في مارس 2006، فإننا نلاحظ بأن الإدارة الأمريكية ما فتأت في التآمر وحشد التأييد لمعارضة الحكومة التي كانت تقودها حماس، وعملت بكل الطرق لقطع الطريق أمام حكومة الوحدة التي ترأسها إسماعيل هنية حتى لا يُكتب لها النجاح والتمكين.
وهذا الأمر لا يأتي فقط في سياق أن أمريكا تريد تشديد قبضة (إسرائيل) على المناطق المحتلة لكي تستكمل مشروع بناء جدار الفصل العنصري خلال السنتين القادمتين، باعتبار أنه سيجسد خط الحدود الذي تريده (إسرائيل) مع أي كيان فلسطيني قادم.. ولكن العامل الثاني وهو الأهم هو محاولة إفشال أصحاب المشروع الإسلامي على أرض فلسطين باعتبار أن فوز حركة حماس يشكل تناقضاً مع الاستراتيجية الأمريكية التي ترى في أن حربها على الإرهاب هو الذي سيجعلها قادرة على كسر شوكة العالم الإسلامي، وبالتالي القضاء على فعالية التيارات الإسلامية الحركية التي اتسعت دوائر نفوذها السياسي وقدراتها على الفعل المقاوم في معظم أرجاء العالم العربي، وأصبحت تشكل خطراً على المصالح الحيوية لأمريكا في الشرق الأوسط، وخاصة بعد نجاح حزب الله تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي وتكبيده خسائر فادحة الصيف الماضي، وبعد تعاظم القدرات العسكرية والحركية لإيران وتغلغل نفوذها داخل الأوساط السنية في العديد من البلدان العربية.
إن حركة حماس شكلت تحدياً لإدارة بوش وسياسة الهيمنة التي تتبعها.. فحركة حماس فازت في أول تجربة ديمقراطية حقيقية بالمنطقة، وعلى مقاس النغمة التي تعزفها واشنطن لنشر الديمقراطية، مما شكل لها صدمة قوية لم تقدر على إخفائها حين اعترفت بأنها تشهد بأن التجربة الانتخابية كانت حرة ونزيهة ولكنها مع ذلك تتحفظ على فوز حماس فيها..!!
حرصت الإدارة الأمريكية منذ منتصف التسعينيات على وضع حركة حماس على قائمة الحركات الإرهابية، ولعل التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية “نماذج الإرهاب العالمي” لم يصدر إلا بغرض التشهير بالحركة، وتطويق آفاق حراكها السياسي بهدف القضاء عليها عبر وصمها بالتطرف والإرهاب، باعتبار أنها تمثل حالة إسلامية نجحت في تسويق رؤيتها السياسية كحركة تقاوم الاحتلال، وانتزعت كذلك اعترافاً بشرعية جهادها للتحرر ونيل الاستقلال، ليس فقط في محيطها العربي والإسلامي بل أيضاً على الساحة الغربية، وخاصة في أوروبا ودول أمريكا اللاتينية.
من هنا فإن حركة حماس أو حكومتها ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ هي ظاهرة لا بد من العمل على إفشالها ومحاصرة فرص نجاحها، بل ـ ربما ـ ضرورة نزع الوجه الإنساني عنها وإلباسها ثوب الشيطان حتى لا تتم محاكاتها والاقتداء بها، ولا يتكرر ظهورها في المنطقة لأجيال قادمة.. ولعل ما كتبته ـ مؤخرًا ـ كاثلين كريستي سون، المحللة السابقة في وكالة الاستخبارات الأمريكية والخبيرة في الشؤون الفلسطينية، تحت عنوان “غناء أليوت أبرمز الخادع”، والتي تناولت فيه مخططات إدارة جورج بوش لتحريض الرئيس أبو مازن وحركة فتح للقيام بانقلاب (Hard Coup) يطيح بحكومة هنية ويقضي على نفوذ حركة حماس.. وقد أشارت كاثلين إلى ما ذكره ألفارو دو سوتو بأن ديفيد ولش، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في أحد اجتماعات مبعوثي الرباعية، أبدى ارتياحه لاندلاع القتال بين فتح وحماس، قائلاً: “أنا أحب هذا النوع من العنف، والذي يعني أن هناك من الفلسطينيين من يقاوم حماس”..!!
وأضافت كاثلين: “إن الاستراتيجية الإسرائيلية ـ الأمريكية لفلسطين هي الآن في منتهى الوضوح وتتمثل في النقاط التالية: ” إجهاض تطلعات الفلسطينيين للديمقراطية، والقضاء على المقاومة بكافة أشكالها، مع العمل على احتواء القيادة المتخاذلة والمتواطئة مع الاحتلال، والطرد والقتل ـ إذا استدعت الضرورة ـ لأكبر عدد من الفلسطينيين بالقدر الذي لا يثير على (إسرائيل) الرأي العام العالمي، وإخلاء فلسطين من معظم سكانها العرب..”.
لذلك فنحن نرى أن جولات رايس المكوكية لا تحمل البشرى لشعبنا، ولا نعلق عليها كبير الآمال، وإن كنا في الحكومة بحال لا يسمح لنا بالإعراب عن رفضنا المطلق لها.. فأمريكا ما تزال هي الدولة الأقوى في العالم، وهي تمسك بمعظم مفاتيح السياسة الدولية، وهذا يتطلب منا جميعاً مداراتها بهدف “التخذيل” وإبعاد شبح الخصومة والعداوة معها، بأمل أن تتغير هذه السياسة، ويأتي صباح جديد يحمل معه رؤية متوازنة تنظر فيها أمريكا لمصالحها في المنطقة بعين بصيرة تتطلب منها الابتعاد على تحالفها “غير المقدس” مع (إسرائيل)، والتعاطي باحترام ومسئولية بعيدًا عن النفاق و”سياسة الكيل بمكيالين” التي تتعامل فيها مع دول المنطقة وشعوبها.
إن دبلوماسية المكوك التي تتحرك بها كونداليزا رايس داخل المنطقة، أحياناً باسم “المؤتمر الدولي للسلام” وأحيانًا تحت غطاء “تحالف دول الاعتدال” مقابل تحالف “دول وحركات الممانعة والتشدد” التي تضم إيران وسوريا وحزب الله وحماس، إنما هي بمثابة إشعار العالم وخاصة العربي والأوروبي بأن أمريكا لم تتخلَّ عن مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية تجاه ما يجري بالمنطقة، فهي تتحرك لأجل إيجاد حل للمعضلة الفلسطينية على هدي “خارطة الطريق”، تلك الخارطة التي انتهت صلاحية أبعادها واتجاهاتها مع ظهور معالم عمرانية جديدة في الفكر السياسي والجهادي الفلسطيني، وخاصة بعد أن أخذت حركة حماس مكانة لها داخل تضاريس وهياكل هذه الجغرافيا السياسية للمنطقة.
إن الإدارة الأمريكية ما تزال تتحكم فيها عقلية التيار اليميني المتشدد والمحافظين الجدد من أمثال أليوت أبرامز وديك تشيني وديفيد ورم زير ووليم كريس تول، وهؤلاء هم مع استمرار العمل لتعزيز مكانة (إسرائيل) وسياسات البطش التي تمارسها، وهذا التيار ما تزال أمامه سنة ونصف بإمكانه العمل فيها لحماية مصالح (إسرائيل) وتوفير الغطاء لسياساتها العدوانية، وينصب تركيز هذه الجوقة السياسية على تعطيل أي جهد أوروبي عبر الرباعية لرفع الحصار وإنهاء العزلة السياسية لأي حكومة فلسطينية تكون حماس أحد مكوناتها البارزة.
لذلك فإن لقاءات رايس مع أولمرت أو عباس ستأتي في سياق هذه المراوحة السياسية التي تعطي الانطباع بأن هناك تحركاً تقوم به الإدارة الأمريكية لتحقيق تسوية سياسية في الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وبالتالي لا داعي لأي جهود أوروبية أخرى غير مباركة التحرك الأمريكي، وكذلك فإن على العرب والمسلمين ألا يتحاملوا على أمريكا لأنها في موقع الحدث تبذل كل الجهد للتوصل إلى تسوية سلمية تنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة..!!
وفي ظل الغشاوة التي تحاصر عيون العالم وتحجب رؤية المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، تستمر أمريكا في اعتماد “سياسة المراوحة” لخداع دول العالم وإسكات ضمائر الشعوب، حتى يبقى الجميع في سبات نوم عميق لا يصحو له ضمير ولا يرتفع له صوت احتجاج حول الجرائم التي ترتكبها (إسرائيل) بحق الفلسطينيين داخل “بانتوستانات” غزة والضفة الغربية.
وإلى أن تتغير معادلة الظلم الأمريكية فإن على الفلسطينيين أن يوطنوا أنفسهم على احتمال المزيد من الأذى الأمريكي والإسرائيلي، إلى أن تأتي ظروف أخرى تنجاب فيها الغشاوة عن عيون الشعب الأمريكي ليقول لحكومته: كفى استكباراً وظلماً ولا بد من رد الحقوق لأصحابها.
إن الرد على المراوحة الأمريكية هو الاصطفاف الفلسطيني وعودة الوعي في كيفية إدارة أزمتنا الداخلية والأمنية مع (إسرائيل) بالشكل الذي يجعل من عمقنا العربي والإسلامي عمقاً استراتيجياً يمكن توظيفه في فك الحصار المالي وإنهاء العزلة السياسية عن الحكومة أو الحكومات الفلسطينية القائمة في غزة ورام الله.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...

مستشفى الكويت الميداني بمواصي خانيونس يقلص خدماته بسبب الحصار
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن مستشفى الكويت التخصصي الميداني في مواصي خانيونس عن اضطراره لتقليص عدد من خدماته الطبية، وسط الأوضاع الصحية...

جيش الاحتلال يفرض إغلاقًا على قرية المغير في رام الله
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام فرضت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، إغلاقًا على قرية المُغَيِّر شمال شرق مدينة رام الله وسط الضفة...

بوريل: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بغزة بقنابل من أوروبا
المركز الفلسطيني للإعلام أكد المسؤول السابق للسياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وأن نصف...

الاحتلال يواصل الإبادة بغزة موقعاً 147 شهيدًا وجريحًا خلال 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم السبت، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 23 شهيدا، و124 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...