فلسطين: من يجمع ومن يفرِّق؟
أشهر كذبة يجري تداولها في أوساط إعلام وسياسيي دايتون وفي الأوساط الإعلامية والسياسية العربية الرسمية هي كذبة مسؤولية حماس عن فصل غزة عن الضفة. يكتب الصحافي منهم؛ أو يخرج الناطق الإعلامي أو السياسي ويتحدث عن قيام حماس بدق إسفين بين جناحي الوطن ويقول ذلك بحرقة وألم مصطنعين؛ ويرعد ويزبد ويحرك أطرافه؛ ولا يرف له جفن من فداحة ما جاء به من افتراء على الحقيقة وكذب على الجمهور.
جغرافيا غزة مفصولة عن الضفة الغربية من العام 1967؛ وفي عام النكبة الثانية – نكبة أوسلو – جرى سحب الامتياز الذي تمتع به الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1967 في السفر بين الضفة وغزة؛ واستبدل ذلك بممرات آمنة اتضح لاحقا أنها محابس في يد الصهاينة إن شاؤوا فتحوا بها الطريق وإن شاؤوا أغلقوها. وقد سلم المفاوض الفلسطيني الأبله وقتها هذه الأوراق للصهاينة دون ضمانات ودون وعي وبالأخص دون ضمير.
ثم لم تلبث الأمور أن تطورت إلى أن صار حق السفر بين جناحي الوطن الصغير مقتصرا على حملة بطاقات ال “في آي بي”. وحتى هؤلاء لم يسلموا من الحرمان من حق التنقل؛ جريا على عادة إسرائيل في إهانة عملائها وأجرائها. وكلنا يذكر كيف أن محمود عباس نفسه اضطر لأن يلزم بيته في غزة صيف العام الماضي لأن الصهاينة كانوا غاضبين من أسر الجندي شاليط؛ ولم يعبأ القوم بشريكهم؛ وأبقوه حبيسا دون التفات لمكانة رجلهم ولو على صعيد الشكل الإعلامي. وهناك آلاف من الطلاب الغزيين ممن يدرسون في الضفة ممن لم يروا أهاليهم وبلداتهم منذ أعوام عديدة…وكم من أسرة حرمت من زيارة مسقط رأسها في الناحية المقابلة؛ هذا فضلا عن آلاف الناشطين والقادة والكوادر وأسرهم وأقربائهم ممن حتى لا يفكرون في أمر السفر بين غزة والضفة؛ لأن العواقب الوخيمة لذلك لا تحتاج شرحا.
فهل صارت غزة مفصولة الآن؛ فقط لأن محمد دحلان وأشياعه لم يعد بإمكانهم السفر بين القطاع والضفة؟ وماذا عن مدن الضفة التي تشكل كل واحدة منها جزيرة معزولة؛ ولا ينتقل المواطن فيها من بلدة لأخرى إلا بشق الأنفس؟ ويتحدث ابن الخليل فيها عن “مشروع” زيارة نابلس كما لو كان يخطط لرحلة تعبر المحيط الأطلسي أو تدور حول الكرة الأرضية؟ هل هذه المدن ليست مفصولة وليست مقطوعة لمجرد أن وكلاء المحتل يستطيعون التحرك فيها بين هذه النقطة وتلك؛ طبعا بعد تقبيل الأيادي والأقدام والبساطير الصهيونية؛ وللقيام بمهام نبيلة مثل اعتقال عناصر من حماس؟!
الفلسطينيون محاصرون مجزؤون مقطعة أوصال مناطقهم؛ فهم جغرافيا موزعون بين الضفة وغزة والمناطق المحتلة عام 1948؛ ناهيك عن عشرات الملاجئ والمنافي في الشتات. وحتى الجزء الواحد – مثل الضفة كما تقدم – هو مجزأ ومفتت إلى مناطق ألف وباء وجيم وجزر متناثرة وما هو داخل الجدار ومها هو خارجه. لكن هذا كله لم ينجح يوما في تفتيت وحدة الوعي الفلسطيني ووحدة الإيمان بهذه القضية. الخطر الوحيد الذي تهدد وحدة فلسطين والوحدة الوطنية الفلسطينية كان مخرجات مدرسة دايتون وكل ما نشأ عنه تيار دايتون من مدارس العمالة الكلاسيكية التي كانت تتظلل عناوين مموهة مواربة مثل “الواقعية السياسية”؛ و”المرونة”؛ و”التجاوب مع موازين القوى الدولية”؛ و”الالتزام بالشرعية العربية”؛ وغير ذلك من مبررات التفريط والاستخذاء على مذهب السادات الذي أفتى بأن 99% من أوراق الحل هي في يد أمريكا!
فالذي قبل بقيام دولة للكيان الغاصب في حيفا ويافا وعكا هو من شرع في تجزئة وتقسيم الوطن الواحد. والذي يقبل أن يكون مواطنوه رهائن تحت رحمة العدو في حلهم وترحالهم؛ ويقبل أن يجعلهم أسرى معابر الصهاينة؛ ويساعد العدو على ذلك؛ فإنه يشرخ الوعي الفلسطيني؛ ويصيب الضمير الفلسطيني في مقتل. كيف يمكنني أن أقبل بهوية وطنية واحدة تجمعني مع من يفتخر باستئناف التنسيق الأمني مع جلادي شعبنا؟ كيف يمكنني أن أقبل بالعمل تحت مظلة واحدة مع أمثال محمود عباس؛ هذا الذي حرض “إسرائيل” في مقابلة حديثة في “هآرتس” على أن تجتاح غزة اليوم قبل الأمس؛ أو بكلماته: “من قبل أن يصبح صعبا على دبابات الصهاينة أن تدخل هناك دون أن تُدَمَّر”! لا وحذر عباس الكيان فوق ذلك كله من “شبكة الأنفاق التي بنتها حماس وما جلبته وتسعى لجلبه هناك من أسلحة”؟!
إذا هناك فلسطينيون – هم كذلك بحسب التعريف السياسي الجغرافي السائد وللأسف الشديد – بات المرء يشعر بالعار لأنهم يجمعه بهم أي قاسم مشترك…فلا أحد يرضيه أن يتبع حكومة هجينة طارئة يتبارى وزراؤها بالدياثة والاستخذاء؛ فيصرح المالكي ومن بعده العجرمي أنه جرى نبذ المقاومة من برنامج عمل الحكومة! ولا أحد شريفا من أبناء هذه البلاد لا يغص بمواقف وأفعال وتصريحات عصابة المقاطعة المحسوبة علينا قسرا!
لذلك فإن سلوك أيتام دايتون هو المهدد الأكبر لوحدة الوطن الفلسطيني ووحدة هذا الشعب . فهم يعملون على تحويل فلسطين إلى كيان مسخ يبيع فيه المقاوم سلاحه؛ ويضيقون مظلة الوطن لتقتصر على زعران التنظيم الذين ارتكبوا في الضفة قرابة ألف اعتداء حتى الآن. إنهم يريدونه وطنا لا مكان فيه للشرف والعمل الفدائي؛ ولا مكان فيه للقرآن وحفظة القرآن مثل شهيد النجاح محمد رداد. وطن ملتاث بالخدر والخور والهزيمة! وطن يصفق مثل السعادين حين تلقى لها بعض حبات الفستق السوداني؛ وهي حبات مشتراة بالمناسبة من عائدات ضرائبنا وعلى طريقة “من دهنه قلِّيلُه”! وطن يفتح جامعاته للمخبرين والزعران ويغلقها في وجه “ابتهال جمال منصور”! نعم فابنة أسد نابلس – الشهيد الذي نعيش اليوم ذكرى ارتقائه للعلا بصاروخ – لا مكان لها في جامعة النجاح في عهد غراب البين هذا؛ فقط لأنها تقود اعتصاما يتضامن مع طلبة الجامعة الأسرى في سجون العدو!
فهل يدرك هاني الحسن “الذي أدان انفصال غزة” هو الآخر حقيقة من يجمع ومن يفرّق في هذا الوطن؟ أرجو أن تتحرك أنت ومن معك ومن يشاركك من أبناء فتح في رفض وساخات سفاح دايتون قبل فوات الأوان. تحركوا سريعا فهناك من بدأ الريب يتسرب لقلبه وهو ينظر إلى الكوفية المرقطة على رف الثياب! تحركوا سريعا للمساهمة في إنقاذ الوطن ووحدة الوطن! تحركوا من قبل أن تصل الأغلبية لقناعة راسخة مفادها أن الهوية الوطنية الفلسطينية بحاجة لإعادة تعريف يتخلص من عبء الجغرافيا؛ ولا يسمح لأمر قدري توقيفي كهذا في فرض الوسخ والعمالة والخيانة علينا شريكا أبديا.
إما أن تصحح فتح نفسها وتنضم لحماس في نقض بناء حكومة المنطقة الخضراء؛ وإلا فإن الأحداث ستدفعنا دفعا نحو البحث عن توصيف جديد للهوية…توصيف يحررنا من الشعور بالعار والقرف من أن هناك قاسما مشتركا بيننا وبين دحلان وعباس ونبيل وياسر وصائب وأشياعهم وأزلامهم…وأعوذ بك رب أن يحضرون!
* مستشار شبكة فلسطين للحوار