من هو المنقلب على الشرعية؟

إن المتابع للأحداث والمتصفح للأخبار بالتأكيد سيقف عند سؤال كبير تتفرع عنه أسئلة كثيرة، ذلك السؤال الذي يلتقي عنده المؤيد والمعارض لما آلت إليه النتائج في قطاع غزة صبيحة يوم الرابع عشر من شهر يونيو الماضي، والكل يسعى بحثاً عن الجواب، ما الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ أهو انقلاب على الشرعية؟ ومن ذا الذي تجرأ بالانقلاب على الشرعية؟ بل وما هو مفهوم الشرعية وما هي مصادرها؟ ثم إلى أين تسير بنا الأمور؟
ومن العجيب أن تسمع لفريق يسمي ما حدث انقلاباً على الشرعية، باعتبار أن النظام الأمني المتمثل بالأجهزة الأمنية قد انهار بفعل مخطط له للسيطرة على قطاع غزة بغرض إقامة إمارة ظلامية أطلقوا عليها اسم ” حماسستان “، وبالمقابل تقام على الضفة الغربية دولة أطلقوا عليها أيضاً اسم ” فتح لاند”،
وفريق آخر يسمي ما حدث بعملية استئصال ناجحة لجسم خبيث تسلل بين الأجهزة الأمنية بتخطيط إسرائيلي وغربي، استطاع أن يتحكم في مقاليد الأمور والسيطرة على قيادة الأجهزة الأمنية، ويوجهها لخدمة المحتل ولإجهاض مشروع التحرر الوطني.
فأين هي الحقيقة؟ وكيف نصل إليها؟
ومن خلال هذه السطور سنحاول الوصول إلى الجواب بصورة تحليلية مقرونة بشيء من الدلائل كلما كان ذلك ممكناً، وبعيداً عن القدح أو التجريح بدون دليل.
فمنذ بزوغ فجر أوسلو ظهرت إرهاصات غريبة عبر محطاتٍ لم يكترث بها كثير من الناس فقد كان من أهمها الإعلان المفاجئ عن اتفاقية ” أوسلو” والتي تمت سراً في الوقت الذي كان الإعلام الإقليمي والعالمي يغطي نشاطات الوفد الرسمي المفاوض في ” مدريد ” بقيادة الدكتور ” حيدر عبد الشافي “،
ومحطة أخرى تمثلت في الظهور الإعلامي الكبير لشخص السيد ” محمود عباس ” باعتباره مهندس اتفاقية أوسلو ” ذات البنود السرية حينها ” والذي استطاع بقدرة عالية إدارة مفاوضاته بسرية تامة دون أي تسريبات للإعلام.
وهناك محطة أخرى ظهرت في التوافق الزمني الغريب بين توقيت المساعي المتعددة للسلام مع المحتل الإسرائيلي وعمليات الاغتيالات المتتابعة للعديد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية في الشتات، جاءت في ربط واضح يستنتج منه هدف إخلاء الساحة الفلسطينية من بعض القيادات البارزة في توقيت يراد فيه تمرير ما يسمى بعملية السلام.
فإذا ما وقفنا عند مثل هذه المحطات وانتقلنا مباشرة إلى ما جرى على أرض فلسطين بدءاً من دخول السلطة الفلسطينية لقطاع غزة ولمدينة أريحا تطبيقاً للمرحلة الأولى من اتفاقية السلام الموقعة مع الاحتلال الإسرائيلي والتي أطلق عليها اسم ” غزة ـ أريحا أولاً ” وحاولنا فهم علاقة المحطات السابقة مع ما كان يجري من تطورات في الأحداث على الساحة الفلسطينية،
فقد كانت قوائم أسماء العائدين للوطن من الفلسطينيين تعرض أولاً على مكاتب التنسيق الاحتلالية لتوافق على البعض وترفض البعض وفق معايير احتلالية بحتة.
ومنذ لحظة دخول إخواننا العائدين من الشتات انطلقت مهرجانات الترحيب ابتهاجاً بقدومهم في كل مكان، ولكن سرعان ما بهت الفرح عندما كثرت لقاءات التنسيق الأمني مع المحتل وبدأت مظاهر التغول على المقاومة في الداخل تأخذ منحنىً خطير، حتى وصل لذروته في أحداث مسجد فلسطين وحملات المداهمات والاعتقالات للمجاهدين والتركيز على محاربة حركة حماس وكل المؤسسات التي ترتبط بها من قريبٍ أو بعيد وصلت لذروتها في عام 1996م،
وهكذا كانت أوضح صور الخلاف والتباين بين مشروعين، الأول: مشروع سلام مبني على التنازل عن الكثير من الثوابت، والثاني: مشروع مقاومة الاحتلال لتحرير الأرض والإنسان، وتصادم المشروعان ولم يتمكنا ” في حينه ” من التوصل إلى قواسم مشتركة بسبب إصرار الفريق الأول اعتماد نهج القوة في محاولة لاجتثاث الفريق الثاني، بينما حرص الفريق الثاني على عدم اللجوء للاقتتال الداخلي.
وتوالت الضغوط على القيادة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس الراحل ” ياسر عرفات ” لتوقيع التنازل تلو التنازل تطبيقاً لاتفاقيات أوسلو ” وما تبعها من اتفاقيات وتفاهمات، والتي كان يعلن عنها كخيار استراتيجي وحيد ” حتى وصل بالرئيس الراحل إلى حدٍ لا يمكن عنده الاستمرار في التنازل، عندما اقتنع بأن الأمر ليس سلاماً إنما هو السير في طريق الاستسلام ورفض التوقيع على التنازل عن كبرى الثوابت وصمد على ذلك، فجاء الحصار الشهير عقاباً له واستمر الحصار حتى تم تصفيته بطريقة خبيثة وطويت في حينه التحقيقات في أسباب الوفاة في تعتيم واضح عن الحقيقة.
وتطور الصراع بين المشروعين إلى أن تمكن الفريقان وبوساطات دولية وإقليمية من التوافق على عقد انتخابات تشريعية تشارك فيها حماس، وتم التحضير للانتخابات بدعم كبير من الرئيس ” أبو مازن ” ويشهد له الجميع إصراره على عقد هذه الانتخابات رغم كثرة الضغوط المحيطة به من الكثير من قيادات فتح وخاصة قيادات الأجهزة الأمنية، ومع عدم الخوض في النوايا وراء هذا الإصرار إلا أننا نسجل له هذا الموقف الديموقراطي المتميز.
وجرت الانتخابات في موعدها المحدد وبإشراف دولي وكانت من أروع الرسائل التي قدمها شعبنا الفلسطيني للعالم في عرس ديموقراطي متميز شهد بنزاهته القاصي والداني، وجاءت النتائج على غير ما توقع الجميع، فقد فازت حماس بالأغلبية مما يمكنها من تشكيل حكومة من حماس أو قيادة حكومة وحدة وطنية، وقد اختارت على الفور تشكيل حكومة وحدة وطنية ترسيخاً لمفهوم المشاركة الوطنية ورفعت شعار ” شركاء في الدم، شركاء في القرار “.
وهنا جاءت المفاجئة فقد حورب الشعب الفلسطيني بالحصار الاقتصادي والسياسي قبل تشكيل الحكومة، وقاطعت كل الأحزاب والفصائل المشاركة في الانتخابات تشكيل حكومة وحدة وطنية، مما دفع بحماس إلى تشكيل حكومة جميع وزرائها من حماس وأنصار حماس،
واشتد الحصار الخارجي وتساوق معه الكثير من الداخل، وعوقب الشعب الفلسطيني على اختياره الديموقراطي اقتصادياً وسياسياً وأغلقت أمامه المعابر والحدود، وقيدت حركته في محاولات واضحة لإسقاط حكومة حماس ولإجهاض التجربة الديموقراطية التي جاءت نتائجها على غير ما توقع المحللون السياسيون.
وتساوق مع هذا الحصار تصاعد وتيرة العصيان المدني وتحول إلى فلتان أمني مخيف هدد بشبح حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، في وقت زادت الضغوط على الرئيس أبو مازن لإقالة الحكومة وحل المجلس التشريعي في محاولة مكشوفة للانقلاب على الشرعية، وخيم شبح الحرب الأهلية وسال الدم الفلسطيني بأيادي فلسطينية، فتنادى الخيرون من أبناء وقيادات هذا الشعب ومن القيادات العربية والإسلامية وجاءت المبادرات الساعية لرأب الصدع وإطفاء فتيل الحرب، بدءاً من وثيقة الأسرى التي تطورت إلى وثيقة الوفاق الوطني، مروراً باتفاقية القاهرة ووصولاً لاتفاقية مكة المكرمة، حيث لم تصمد تلك الاتفاقيات أمام محاولات إفشال وإسقاط الحكومة العاشرة ( حكومة حماس)، حتى حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بموجب اتفاقية مكة المكرمة والتي شاركت فيها معظم الفصائل الفلسطينية حتى أصبحت هذه الحكومة تمثل أغلبية الطيف السياسي الفلسطيني، وعلى الرغم من ذلك استمر تصاعد العنف في مساعي أكيدة لإسقاط الحكومة الحادية عشر ( أول حكومة وحدة وطنية فلسطينية)، وكان السبب واضحاً هذه المرة وضوح الشمس أن المستهدف هو برنامج الحكومة المبني على دعم المقاومة وعدم التنازل عن الثوابت الوطنية الفلسطينية، وقد صرح بذلك علناً بعض قادة التيار المتنفذ في الأجهزة الأمنية (والذي سمي بالتيار الانقلابي).
وهكذا توالت الأحداث وتصاعدت وتيرة الفلتان الأمني المبرمج خاصةً في محافظات غزة، والأغرب من ذلك انخراط الأجهزة الأمنية في إدارة هذا الفلتان محتمية بمؤسسة الرئاسة، وبصمت من الرئيس نفسه عن هذه الأحداث، حيث كان منشغلاً في زياراته الخارجية سعياً لكسر الحصار كما صرح بذلك مراراً، وكأنه لا يرى الأحداث المتسارعة وسيل الدم الفلسطيني على أيادي الأجهزة الأمنية التابعة له.
وتسارعت الأحداث واشتد القتال بين أبناء البلد الواحد وبأسلحة معادية هربت سراً وعلناً للأجهزة الأمنية التي لم تتصدى (على المستوى الرسمي) لمواجهة الاجتياحات الإسرائيلية ولو مرة، رغم وجود كثير من الأبطال والشرفاء الذين سجلوا أروع صور ملاحم البطولة في مواجهات فردية مع الأعداء، لقد تسارعت وتيرة القتال والمواجهات دون أن يحرك السيد الرئيس ساكناً لإخماد نار الفتنة، وتوالت التحذيرات من الخطر الداهم والذي يهدد بحرب أهلية طاحنة، واستمرت نيران الفلتان حتى طالت وزراء الحكومة أثناء انعقاد مجلس الوزراء في مدينة غزة، ولكن عناية الله حفظت المجتمعين وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأستاذ إسماعيل هنية، الذي لاحقته قذائف (آر بي جي) في منزله في نفس الليلة ولكن الله حفظه وأسرته، وما حرك ذلك ساكناً لدى مؤسسة الرئاسة بما فيها السيد الرئيس.
وقد امتدت المواجهات حتى شملت معظم قطاع غزة وشاء الله أن تحسم هذه المعركة بأقل الخسائر البشرية ( قياساً بمعدل الخسائر البشرية اليومية في الأسابيع التي سبقت توسع الأحداث) وانتهت بانهيار الأجهزة الأمنية التي تأكد أنها لم تبن على أسس وطنية ولم تجهز لقتال العدو وتحرير الوطن من المحتلين، إنما بنيت وجهزت وفق خطط أشرف عليها ممثلو الاحتلال ( وإن كانوا من أبناء جلدتنا) لخدمة مشروع الاحتلال وهو المشروع الاستسلامي، مما أدى إلى تصادمه مع المشروع الوطني الهادف إلى مقاومة المحتل والساعي للتحرر وإقامة الدولة الفلسطينية الحرة وعاصمتها القدس الشريف.
والعجيب بعد ذلك كله أن نسمع من يسمي ما حدث في غزة بالانقلاب على الشرعية، فكيف لحماس وهي الأغلبية في المجلس التشريعي وفي الحكومة أن تنقلب على نفسها، أم أن الشرعية في مفهومهم هي لتلك الفئة الباغية التي تم اجتثاثها من مواقع القيادة والسيطرة على الأجهزة الأمنية والتي كانت (كما أثبتت الوثائق) تعمل وفق أجندة الاحتلال ولمصلحة المحتل، فماذا نسمي من لا زالوا يصمون آذانهم من أن تستمع أو تستجيب لنداء الحوار مع أبناء الوطن في الوقت الذي يلهثون وبدون خجل وراء المحتل الغاصب للأرض طمعاً في لقاء دافئ وابتسامات وعناق أمام كاميرات الإعلام، وهي تتلذذ في إحكام الحصار على أكثر من مليون ونصف المليون من أبناء شعبها، ولا تحرك ساكنا لآلاف العالقين على معبر رفح وهم يعانون كل ألوان المعاناة، بل ويساومونهم بحريتهم وبكرامتهم لإنجاح خطة المحتل في اعتماد معبر كرم أبو سالم (معبر الذل والهوان) بديلاً عن معبر رفح الفلسطيني المصري والذي يعتبر أحد أهم أركان السيادة الفلسطينية.
بل وماذا نسمي مساومة الموظفين في لقمة عيشهم وحرمان الكثير منهم من رواتبهم وتهديدهم بالفصل من أعمالهم بسبب انتمائهم السياسي، في ظل صمت عالمي على هذه التجاوزات التي تمثل أبشع صور انتهاك الإنسانية، فهل هذه هي الشرعية؟
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس: اغتيال المقاومين في الضفة لن يزيد شبابها الثائر إلا مزيداً من الإصرار على المواجهة
الضفة الغربية – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة حماس أن سياسة الاحتلال الصهيوني باغتيال المقاومين وتصعيد استهدافه لأبناء شعبنا في الضفة الغربية؛...

الأمم المتحدة تحذّر من استخدام المساعدات في غزة كـ”طُعم” لتهجير السكان
المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت هيئات الأمم المتحدة من مخاطر استخدام المساعدات الإنسانية في قطاع غزة كوسيلة للضغط على السكان ودفعهم قسرًا للنزوح، مع...

الإعلامي الحكومي: الاحتلال يُهندس مجاعة تفتك بالمدنيين
المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي، إن سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" تواصل ارتكاب جريمة منظمة بحق أكثر من 2.4 مليون مدني في قطاع...

حماس تردّ على اتهامات السفير الأمريكي: أكاذيب مكررة لتبرير التجويع والتهجير
المركز الفلسطيني للإعلام رفضت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تصريحات السفير الأمريكي لدى الاحتلال، مايك هاكابي، التي اتهم فيها الحركة بالتحكّم...

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مقاومان بعد خوضه اشتباكاً مسلحاً - مساء الجمعة- مع قوات الاحتلال الصهيوني التي حاصرته في منزل بمنطقة عين...

حماس تثمّن قرار اتحاد نقابات عمال النرويج بمقاطعة الاحتلال
المركز الفلسطيني للإعلام ثمنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قرار اتحاد نقابات عمال النرويج بمقاطعة الاحتلال الصهيوني وحظر التجارة والاستثمار مع...

صاروخ من اليمن يعلق الطيران بمطار بن غوريون
المركز الفلسطيني للإعلام توقفت حركة الطيران بشكل مؤقت في مطار بن غوريون، بعد صاروخ يمني عصر اليوم الجمعة، تسبب بلجوء ملايين الإسرائيليين إلى...