الثلاثاء 13/مايو/2025

مأدبة اللئام

مأدبة اللئام

صحيفة الاتحاد الإماراتية

في السادس عشر من الشهر الجاري تمخض جديد الرئيس الأميركي جورج بوش فولد دعوة لمؤتمر دولي هذا الخريف ترأسه بلاده، وتحضره دول الجوار بهدف إحياء السلام وفق حل الدولتين، وقال إن واشنطن “مستعدة لإدارة مفاوضات جدية… يجب أن تضمن دولة فلسطينية ذات حدود متصلة وقابلة للحياة، وأن تتعامل مع قضية القدس ووضع اللاجئين”، وأضاف أن تجسيد هذا التصور على أرض الواقع يقتضي من الفلسطينيين القيام بسلسلة خطوات يتقدمها “نبذ العنف ومحاربة الإرهاب”، و”وقف الاعتداءات” على “إسرائيل”، وإطلاق الجندي الأسير، كما أكد بوش أن على الإسرائيليين ورئيس وزرائهم التزام التعهد “بارتباط مستقبل “إسرائيل” بالنقب والخليل، وليس بالاحتلال المستمر للضفة الغربية”، ودعا إلى “نزع الحواجز غير المرخصة، وإنهاء توسيع المستوطنات”.

أثارت دعوة بوش ردود فعل تذكرنا بالمواقف العربية “الخشبية” من العولمة: “لها محاسنها ومساوئها. فلنأخذ بالمحاسن ونطورها، ونبتعد عن المساوئ ولا نُقرّ بها”.

وبعيداً عن هذا النهج العقيم الذي ينزع الأشياء من سياقها الموضوعي وسوابق الخبرة الماضية وتوقيت حدوثها، يمكننا أن نناقش هذه “المبادرة” إن استحقت وصفاً كهذا. ما هو يا ترى “العرض الافتتاحي” الذي تقدمه؟ لا شيء يذكر في كافة القضايا الجوهرية. فهدف “الدولة الفلسطينية” الذي يفترض أن يلهب خيال الفلسطينيين والعرب، لا يفعل ذلك لسبب بسيط وهو أننا لا نعرف مكان الدولة ولا مواصفاتها، وقضية القدس ينبغي “التعامل معها” بلغة المبادرة، وكذلك “وضع اللاجئين” الذين سبق لبوش في مؤتمره الصحفي مع شارون في أبريل 2004 أن اعتبر أنه “من غير العملي” أن يعودوا لوطنهم.

وللأمانة فالعنصر الإيجابي الوحيد في هذه “المبادرة” قد يكون حديث بوش عن ضرورة “ألا يرتبط مستقبل “إسرائيل” بالاحتلال المستمر للضفة الغربية”، وبافتراض أن هذا يعني إنهاء احتلال الضفة بصورة قاطعة. لكن ينبغي أن يكون واضحاً أن المبادرة لم تشر بحرف إلى تفكيك المستوطنات، وإنما طالبت بمجرد إنهاء توسيعها، ويجب أن يفهم هذا في سياق الموقف الذي عبر عنه بوش في المؤتمر الصحفي سالف الذكر (أبريل 2004)، ومؤداه أنه سوف يكون “من غير العملي” أيضاً تفكيك الكتل الاستيطانية في الضفة. هكذا فإن مبادرة بوش تقدم لنا “نهاية مفتوحة” للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وليس هذا بجديد علينا، فهو أمر ألفناه منذ “إطار السلام في الشرق الأوسط ” الذي خلفته لنا “كامب ديفيد” عام 1978، فرغم أن ذلك الإطار قد رُفِضَ بحسمٍ عربيٍ إلا أنه أصبح بمثابة “الشفرة الوراثية” لكافة محاولات التسوية بعده، فقد استند إلى فكرة التمييز بين مرحلة انتقالية ومرحلة الحلول النهائية، من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى فكرة المفاوضات المفتوحة التي لا نعرف نهايتها، أو بالأحرى نعرفها إذا أجريت المفاوضات في ظل موازين القوى الراهنة، وبعد “كامب ديفيد” سارت “أوسلو” على النهج نفسه، وكذلك “خريطة الطريق” التي تعتبر مبادرة بوش الأخيرة تكراراً ركيكاً لها.

يدفعنا هذا إلى أن نضع المبادرة في سياق الخبرة الماضية لمحاولات تسوية الصراع، وقد سبقت الإشارة تواً إلى “كامب ديفيد” (1978) و”أوسلو” (1993) و”خريطة الطريق” (2003)، وكلها لم تفض إلى شيء، فوفقاً لـ”كامب ديفيد” كان يفترض أن نصل إلى حل نهائي لقضايا الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في عام 1983، ووفقاً لـ”أوسلو” في عام 1999، ووفقاً لخريطة الطريق كان يفترض أن نشهد قيام دولة بوش الفلسطينية في عام 2005، وهو توقيت أجله لاحقاً إلى عام 2009، فما الذي يعنيه هذا كله؟ إنه يعني ببساطة أن ثمة مقومات ضرورية للتوصل إلى تسوية متوازنة، لا تزال غائبة؛ فميزان القوى السائد طيلة تلك السنوات وحتى الآن لا يمكّن الفلسطينيين من الحصول على الحد الأدنى المقبول من حقوقهم من ناحية، غير أنه من ناحية أخرى لا يمكّن الإسرائيليين والأميركيين من فرض التسوية الشوهاء التي يريدونها.

يبقى بعد ذلك أن نشير بعدد هائل من علامات التعجب إلى توقيت إطلاق المبادرة، فلا يذكر المرء أن مبادرة على طريق تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي قد أطلقت في توقيت أسوأ، فكل أطراف الصراع الأساسية مأزومة الآن على نحو استثنائي، فصاحب المبادرة يواجه أصعب أوقاته في العراق. أتراه يكون في هذا الوضع مهيئاً للضغط على “إسرائيل” من أجل أن تقدم على التنازلات الضرورية لنجاح مبادرته؟

على الصعيد الإسرائيلي سيكون من الميسور أن نذكر أن رئيس الوزراء في أضعف حالاته منذ إدانته بالتقصير في عدوانه على لبنان صيف عام 2006… فكيف له أن يقدم في هذه الظروف على أية تنازلات حقيقية؟ والأهم من ذلك أن الفلسطينيين قد تكفلوا بأن يقدموا له انقسامهم الأخير على طبق من ذهب، فكيف لسياسي إسرائيلي ـ مهما بلغت درجة سذاجته ـ أن يختار هذا التوقيت تحديداً لتقديم تنازلات كبديل عن الانتظار حتى تتولى الفصائل الفلسطينية الكبرى في النضال الفلسطيني الإجهاز على قضيتها بنفسها؟!

وعلى الصعيد العربي الرسمي يتمثل الاتجاه الغالب في الترحيب بالعناصر الإيجابية في المبادرة، بمعنى أن معظم العرب الرسميين يرون أن هناك نواقص في المبادرة، غير أن ما فيها من “ايجابيات” يبرر التعامل معها، وهنا نحيل النقاش إلى سوابق الخبرة الماضية والظروف الأميركية ـ الإسرائيلية التي تجعل من استمرار هذا النهج العربي الممتد، عملاً غير مجدٍ على الإطلاق، ومن السهولة بمكان أن نسمع حديثاً متفائلاً عن “روح جديدة تصب في مسار التسوية”، وأن “الرجل يريد أن يكسب المعركة في العراق من خلال إنجاز في فلسطين”.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات