الثلاثاء 13/مايو/2025

إنهم يركضون على طريق الندامة

إنهم يركضون على طريق الندامة

صحيفة الأهرام

بعدما أصبح الانفصال سيد الموقف في الساحة الفلسطينية‏‏ فإننا صرنا بحاجة إلى التذكير ببديهيات المشهد التي طمست معالمها أو غيبت في خضم السجال والتراشق الإعلامي والسياسي‏‏ الذي ملأ الأفق طيلة الأسابيع الخمسة الأخيرة‏.‏

‏(1)‏

كأننا نسير بخطى واثقة نحو تشكيل كاريكاتير عن أنفسنا‏..(‏إذ صرنا‏)‏ بإزاء حكومة طوارئ وإصدار مراسيم‏‏ وحل بموجب الدستور‏‏ وإجراء دستوري وإجراء غير دستوري‏.‏ ويبدو أن المتحدثين يصدقون أنفسهم‏.‏ لم نعد حكومة تحت الاحتلال‏‏ بل تقدمنا إلى حكومة طوارئ تحت الاحتلال‏.‏ ولما لا‏‏ فنحن لسنا في حالة صراع تحرري مع “إسرائيل‏”‏ بل في حالة تنافس على الألقاب والتسميات‏‏ وعاشت الرمزية والرموز‏.‏

هذه الكلمات ليست من عندي‏‏ ولكن صاحبها هو الدكتور عزمي بشارة‏‏ السياسي والمثقف الفلسطيني البارز‏‏ وقد استهل بها مقالته في تحليل الموقف الفلسطيني‏‏ التي نشرتها له صحيفة الحياة اللندنية في 21/6 الماضي‏.‏ وهي تسلط الضوء على المدى الذي وصل إليه تغييب إحدى بديهيات المشهد‏.‏ حين صدق أركان السلطة الفلسطينية حالهم‏‏ وتصرفوا وكأنهم أركان دولة حقيقية تحررت واستقام أمرها ومارست أجنحتها طرف الصراع فيما بينها‏‏ ناسين أنهم على رأس دولة وهمية وافتراضية‏.‏ وأنهم يعيشون في كيان تحت الاحتلال ولا يتحركون في فضاء سياسي مفتوح‏‏ وإنما في سجن كبير تحيط به القضبان الحديدية الغليظة من البر والبحر والجو‏‏ وأن سجانهم هو الذي يتحكم في كل مقومات حياتهم‏:‏ المياه والغاز والكهرباء وخطوط الهواتف والغذاء والدواء‏..‏ إلخ‏.‏ من ثم فعدوهم الأول والأخير في الوقت الراهن هو سجانهم‏‏ وإزاحة الاحتلال هي قضيتهم‏.‏ وكل كلام خارج هذه الدائرة هو لغو خارج الموضوع‏‏ وكل إجراء يتجاوزها أو يتجاهلها هو عبث واحتيال على القضية‏.‏

‏(2)

‏حين التقى أبو مازن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت أخيراً‏‏ فإن الاجتماع أسفر عن نتائج في الجزء المعلن منها أن “إسرائيل” قررت الإفراج عن‏250‏ أسيرا‏ً.‏ كما قررت الكف عن ملاحقة‏ 178‏ مطارداً من المطلوبين من عناصر فتح‏.‏ والسماح لعدد من القيادات الفلسطينية المقيمة بالخارج بالعودة لعدة أسابيع‏‏ للمشاركة في اجتماعات المجلس المركزي‏.‏ كما وافقت على الاستمرار في صرف الأموال الفلسطينية المحتجزة على دفعات‏‏ وأذنت بتخفيف الإجراءات على الحواجز وإدخال بعض المركبات والأسلحة‏.‏

هذه الإجراءات يمكن قراءتها من زاويتين إحداهما تتعلق بمضمونها والثانية تنصب على قيمتها‏.‏ من حيث المضمون واضح أنها كلها هدايا إسرائيلية مسمومة‏‏ تبدو في ظاهرها عطايا مقدمة إلى أبو مازن‏‏ في حين إنها تصب في مجرى إلغاء الدور النضالي لفتح وتعميق الانقسام بينها وبين حماس‏.‏ فهي خطوات اتخذت من جانب واحد‏‏ والأسرى الذين تقرر إطلاقهم “إسرائيل” هي التي حددت أسماءهم‏.‏ واختارتهم بحيث تكون أغلبيتهم من فتح‏‏ ونصفهم تقريباً من المحكومين الذين كان يتعين الإفراج عنهم هذا العام‏.‏ أما المطاردون الذين سيتم “الصفح” عنهم فقد اشترطت “إسرائيل” عليهم إلقاء سلاحهم وتعهدهم بعدم مقاومة الاحتلال‏.‏ مع وضعهم تحت الاختبار لمدة ثلاثة أشهر‏.‏ وهذان القراران يسببان حرجاً لأبومازن‏‏ الذي ظهر فيها وكأنه رئيس لفتح وحدها وليس للشعب الفلسطيني‏.‏

في تقييم هذه الإجراءات‏‏ نجدها غارقة في تفاصيل التفاصيل‏.‏ وجميعها بلا استثناء خطوات تتم خارج الموضوع‏‏ ولا تمس من قريب أو بعيد أي عنوان من عناوين القضية الأساسية أو ملفات الوضع النهائي‏‏ وهو أمر لا يفاجئنا لسبب جوهري هو أن نتائج أية مفاوضات تحسمها موازين القوة المتوافرة لكل طرف‏.‏ وتلك بديهية أخرى مغيبة ومنسية‏.‏

ولأن أبو مازن في أضعف حالاته الآن‏‏ وهو في حاجة إلى الإسرائيليين بأكثر مما هم في حاجة إليه‏‏ فإن غاية ما يمكن أن يحصل عليه هو ذلك الفتات الذي مررنا به‏.‏ علماً بأن المحللين الإسرائيليين أنفسهم لا يختلفون على أن أولمرت غير راغب في تقديم أي عطاء حقيقي‏‏ ثم إنه لا يقدر على ذلك حتى إذا رغب‏.‏ ليس فقط لأنه في الشأن الفلسطيني في موقف أقوى بمراحل من أبو مازن رغم حرج وهشاشة وضعه في الداخل إلا أنه ليس مضطراً إلى العطاء‏‏ طالما أنه لا يواجه ضغطاً عليه من أي جهة‏‏ يدفعه إلى فتح الملف السياسي والتطرق إلى قضايا الوضع النهائي‏.‏

‏(3)

‏البديهية الثالثة المغيبة هي أن قوة أي طرف في الصراع لها مصدران‏‏ أولهما القوة الذاتية‏.‏ وثانيهما قوة التحالفات التي يعقدها‏.‏ أما أن يستقوي أي طرف بخصومه فذلك من غرائب الأمور التي لا تخطر علي قلب بشر‏.‏ وتتضاعف الغرابة حين يكون ذلك الاستقواء في مواجهة أهله وبني جلدته‏‏ وفي حدود علمي فتلك من الحالات النادرة في التاريخ‏‏ التي لها سابقة وقعت في زمن ملوك الطوائف في الأندلس‏‏ قبل أكثر من ثمانية قرون‏‏ حين لجأ بعض أمراء المسلمين وآخرهم أبو عبد الله الذي حكم غرناطة‏‏ إلى التحالف مع أعدائهم الفرنجة للقضاء على منافسيهم من حكام الإمارات الأخرى‏.‏ وكان ذلك في زمن انحطاط الدولة الإسلامية في الأندلس‏‏ الذي انتهى بانتصار الفرنجة وسقوط غرناطة واندثار دولة الإسلام هناك‏.‏

الحاصل الآن في الساحة الفلسطينية يكرر هذه المأساة للأسف‏.‏ حيث تدل مختلف الشواهد علي أن أبو مازن وجماعته قرروا الاصطفاف إلى جانب الإسرائيليين والأمريكيين‏ ـ القاتل وكفيله‏! ـ‏ وأن يستقووا بهم في مواجهة حركة حماس‏.‏ وهو الموقف العبثي الذي لمسنا تجلياته في مختلف الممارسات الإسرائيلية والأمريكية خلال الأسابيع الماضية‏.‏

لقد أدار أبو مازن ظهره للإجماع الفلسطيني كما أدار ظهره للعالم العربي رافضاً دعوة وزراء الخارجية العرب لتقصي حقائق ما جرى في غزة‏.‏ ومتجاهلاً دعوة مصر إلى الجلوس على طاولة الحوار مع حماس وبقية الفصائل الفلسطينية لإيجاد مخرج من الأزمة‏.‏ ليس ذلك فحسب‏‏ وإنما ذهب إلى أبعد حين قرر أن ينسف أهم مرجعيات الإجماع الفلسطيني‏‏ من تفاهمات القاهرة إلى وثيقة الوفاق الوطني وصولاً إلى اتفاق مكة‏.‏ وفي حين هدم الرجل تلك الجسور‏‏ فإنه ازداد اصطفافاً في الاتجاه المعاكس‏‏ معولاً على الدعم الإسرائيلي والأمريكي‏.‏ ومخاطبا الفرنسيين والطليان‏.‏ وحين تحرك عربياً فإنه لم يزر إلا دولة خليجية تتولي تمويل نفقات تسليح حرسه الرئاسي بالتفاهم مع الأمريكيين‏.‏

في ظل خلفية من هذا القبيل‏‏ هل يمكن أن يجرؤ أبو مازن على أن يتفوه بكلمة أمام أولمرت أو السيدة رايس تتعلق بالجدار أو المستوطنات أو الانسحاب من الضفة‏‏ ناهيك عن مصير القدس وحق العودة ؟ سأترك لك الإجابة عن السؤال‏.‏

(4)

‏إذا أراد أبو مازن أن ينجو من مصير أبو عبد الله‏‏ وإذا أراد الفلسطينيون أن يتجنبوا مصير إمارة غرناطة المندثرة‏‏ فليس أمامهم سوى أن يستعيدوا وحدة صفهم وأن يستعلوا فوق خصوماتهم ومراراتهم‏.‏ بحيث تقدم القضية على الثأر والوطن على الفصيل‏.‏

من أسف أن أبو مازن وجماعته اختاروا مساراً آخر على النقيض من ذلك تماما‏ً.‏ حيث كثفوا جهدهم في ثلاثة اتجاهات‏‏ الأول إخراج حماس تماماً من المسرح السياسي الفلسطيني والثاني تعطيل القانون الأساسي والانقلاب عليه مع إلغاء كل التفاهمات الفلسطينية السابقة‏.‏ والثالث محاولة إحياء هياكل منظمة التحرير المعطلة أو المجمدة للاستعانة بها في إضفاء الشرعية على الإجراءات التي اتخذت والمراسيم التي صدرت‏.‏

هذه الجهود تضعف أبو مازن نفسه وتدمر كل ما تم بناؤه في الساحة الفلسطينية خصوصاً على صعيد الشرعية ناهيك عن أنها لا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني‏.‏ حتى أزعم أنها تشكل هدية ل”إسرائيل” لم تكن تحلم بها‏.‏

اصطياد أخطاء ارتكبتها عناصر حماس في غزة والزعم بأن ما جرى هناك كان انقلاباً على الشرعية يجب التراجع عنه‏‏ والذهاب في التصعيد إلى حد فصل الحركة من الصف الوطني الفلسطيني‏‏ ينم عن حالة من الغضب والانفعال أهدرت موازين العقل والرشد‏.‏

ذلك أن أي منصف يدرك أن ما قامت به حماس لم يكن أكثر من إجراء أمني لم تكن له أجندة سياسية‏.‏ وما فعلته هو ما ينبغي أن تفعله أية حكومة شرعية إزاء أجهزة أمنية تمردت عليها وأصرت على تخريب جهودها من خلال إشاعة الفلتان الأمني في المجتمع علماً بأن حكومة غزة مازالت تعترف بشرعية السلطة ورئيسها أبو مازن‏‏ والذين يتجاهلون هذه الحقيقة ويصرون علي التركيز على الأخطاء التي وقع فيها البعض‏‏ يفتقدون إلى الإنصاف والنزاهة السياسية‏.‏

ولا أفهم كيف يمكن أن تحذف حماس هكذا ببساطة من المشهد السياسي‏.‏ وهي الخطوة التي لم يلجأ إليها الأمريكيون أنفسهم‏‏ الذين لم يستطيعوا أن يتجاهلوا الحركة‏.‏ حتى إن كوندوليزا رايس قالت في تصريح منشور أن واشنطن لا تطالب حماس بالاعتراف ب”إسرائيل‏”‏ لكنها تريد منها أن تكف عن الدعوة إلي تدميرها‏ (‏وهي الشائعة التي روج لها الإسرائيليون وليس لها سند من أدبيات أو وثائق حماس‏).‏

أما تعطيل مواد الدستور والتلاعب بها فذلك تجاوز معيب يبطل شرعية قرارات أبو مازن ومراسيمه‏.‏ كما أن محاولة استغلال هياكل منظمة التحرير التي تجاهلها أبو مازن طول الوقت‏‏ ودعوة المجلس المركزي المنتهية ولايته لإصدار قرارات تحقق لأبومازن وجماعته مرادهم‏‏ فتعد التفافاً فيه من دواعي الثأر والتصفية بأكثر مما فيه من تحقيق المصلحة الوطنية الفلسطينية‏‏ وهي الإجراءات التي لم يسترح لها عقلاء الفلسطينيين وبعض أركان فتح ومنظمة التحرير ذاتها‏: (‏ فاروق قدومي ـ هاني الحسن‏ ـ‏ نزار عمار‏ ـ‏ صالح الشقباوي‏ ـ‏ محمد غنيم‏ (‏ أبو ماهر‏)‏ وآخرون‏).‏ ولعلي لا أذيع سراً إذا قلت إن القاهرة بدورها لم تسترح إلى تلك الإجراءات حتى أوفدت مسئولاً رفيع المستوى إلى واشنطن لشرح مخاطر ما يجري للأصلاء دون الوسطاء أو الوكلاء.

إن حماس مطالبة حقاً بأن تعتذر عن الأخطاء التي وقعت أثناء الانفجار الذي شهدته غزة‏‏ كما أن قيادات فتح يتعين عليهم الاعتذار أيضاً عن الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني طيلة السنوات العشر الماضية‏‏ والتي كشفت عنها وثائق الأجهزة الأمنية التي ضبطت أخيرا‏ًً‏ وهذا الاعتذار المتبادل إذا تم‏‏ فإنه يفتح الطريق أمام وفاق وطني آخر‏‏ ربما كانت أنسب صيغة له أن ينسحب الطرفان من الحكومة‏‏ لتشكل حكومة تكنوقراط جديدة بالتوازي مع إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أساس وطني وليس فصائليا‏ًً.‏

إن طريق الوفاق الذي يخدم القضية ليس فيه سر‏‏ ولكن بعض الغاضبين يصرون فيما يبدو على الاندفاع على طريق الندامة‏.‏

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات