الجمعة 09/مايو/2025

غزة وأصول اللعبة

خليل إحسان

منذ محاولة قتل نابليون في غزة عائدا من عكا يجر أذيال الهزيمة، وصولا إلى سيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس على قطاع غزة، وهذا القطاع الجغرافي الصغير لا يكاد يهدأ من الحوادث الجسام.

على ما يبدو أن هذا هو قدر هذا القطاع الجغرافي الصغير، ولا دخل لمن فيه فيما يحدث، فالحذر لا يغني من القدر. ولقد تفكرت طويلا فيما يجب أن أكتبه عنه، إذ أعلم أن الحدث الأخير قد استنفر مئات الأقلام لتكتب، وتفصل، وتحلل، وتستنتج، وتستقرىء، وتهاجم وتدافع، وتترقب وتنتظر. لذلك، اخترت أن أتريث، وأسترخي قليلا لأخرج من دائرة التأثر بما حدث إيجابا أو سلبا، انفعالا أو عاطفة، تحيزا أو تحيدا.

وهنا، قفز إلى ذهني السؤال؛ لماذا نستغرب ما حدث؟ لنتكئ على مقاعدنا ونسترجع تاريخ غزة، هل شهدت استقرارا على مدى عقود مضت؟ هل ما يحدث أمر استثنائي بالنسبة لتاريخ غزة؟ هل ما قد يحدث مستقبلا سيكون له تأثير استثنائي سواءً على الأرض أم على السكان؟ سأترك الإجابة للقارئ كل بحسب ذاكرته واطلاعه تاريخيا.

نعود إلى البداية، فلو قلنا أن ما يحدث في العراق له تأثير استراتيجي على التوازن الاستراتيجي العسكري، والأمني، والاقتصادي، والاجتماعي على منطقة الشرق الأوسط لأمكن لأي قارئ أن يعي ذلك بقليل من التحليل لمعطيات الواقع، ودلالاته المستقبلية وانعكاسه على المتغيرات التي تتحكم بمستقبل المنطقة.

ولو قلنا أن الملف الإيراني الشائك يحتاج إلى قدر كبير من الحكمة، ودرجة عالية من الدقة والخصوصية مع الأخذ بالاعتبار العوامل الجغرافية، والقدرات العسكرية المتنامية لإيران، والجبهة المفتوحة في العراق، لإيجاد حل يتناسب مع معايير السياسة المضطربة للبيت الأبيض، فإن ذلك كله قابل للتصديق أيضا، بحكم أن إيران دولة باتت تمتلك التكنولوجيا النووية، مضافا إليها قدراتها العسكرية المتزايدة كما ونوعا. كما أنها لها القدرة على تغيير معالم التحالفات السياسية والعسكرية للمنطقة.

هذه المعادلة شائكة للغاية،الطرف الأول إيران سورية وحزب الله في لبنان، الطرف الثاني، المقاومة العراقية، المقاومة الإسلامية الفلسطينية، مضافا إليها تأييد واسع من الشعوب العربية، الطرف الثالث الولايات المتحدة، إسرائيل، الحكومة العراقية، حكومة محمود عباس، مضافا إليها الأنظمة العربية المؤثرة في سياسة المنطقة. ثم يضاف إلى هذا كله تيار القاعدة وحركات السلفية الجهادية المتنامية في المنطقة والتي أضحت لاعبا استراتيجيا خفيا في المنطقة على وجه الخصوص.

فيا ترى ما علاقة هذا كله بقطاع غزة، وتأثيره الاستراتيجي المفترض؟ سؤال جدير بالتوقف عنده لاستشراف معالم المستقبل الذي تضع منطقة الشرق الأوسط قدمها عليه ، في حين لا يستطيع كائن من كان أن يتوقع الخطوة القادمة، بحكم أن المتغيرات التي تطرأ تتبدل وتتغير بسرعة البرق، ففي حين كان المخطط الدولي يسير على قدم وساق نحو الضغط  بكل قوة على حماس، سياسيا واقتصاديا وميدانيا وأمنيا، حتى تتراجع إلى الزاوية وتكتفي بمقاعدها في المجلس التشريعي الذي يمكن تهميشه فيما بعد بكل سهولة، كما يحدث الآن. الخطة تسير بإحكام شديد على النحو التالي:

تستمر المقاطعة السياسية لحكومة أغلبيتها مشكلة من قبل حماس، وكذا التضييق الاقتصادي والمالي على الحكومة، حتى تستسلم تحت ضغط العجز في تلبية مستحقات وجودها على سدة الحكم.

ميدانيا، تستمر تشكيلات العصابات التي شكلها محمد دحلان في الضغط ميدانيا على قيادات كتائب القسام، وقيادات الصف الثاني من حماس عبر التهديد المستمر ومن خلال اغتيالات منظمة للكوادر الفاعلة ، والتي استغلتها إسرائيل بقوة، بحيث أنه بما أن تلك العصابات ستقوم بعمليات تصفية جسدية لبعض الكوادر فلتكن تلك التي ترغب إسرائيل في التخلص منها بناءً على معلومات استخباراتية تم جمعها حول تلك العناصر. وهذا كله في إطار التنسيق الاستخباراتي الذي لا يخفى على أحد وكشفت حماس بعضا منه في أكثر من مناسبة عبر وثائق دامغة.

بعد أن تنكمش حماس إلى الزاوية يتم تخييرها بين القبول بأصول اللعبة في المنطقة، أو يتم حشرها في الزاوية أكثر فأكثر، حتى يتم تفجير صراع داخلي بين أطر الحركة بين مؤيد للصدام المباشر مع السلطة ومعارض له والحفاظ على المكتسبات السياسية التي تم تحقيقها، وحصر دور حماس برلمانيا في التشريعات الداخلية.

إلا أنه وبضربة معلم، واستقراء دقيق للواقع واتجاهاته، الذي كان يدل بما لا يدع مجالا للشك على التصعيد المتزايد، المخطط، والمبرمج، يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، قامت حماس بتغيير المعادلة كاملة، من خلال عملية عسكرية مباغتة كانت تهدف بالأساس إلى ضرب مقر الأمن الوقائي الذي تعتبره الحركة هو أساس البلاء، والفوضى الأمنية التي كانت تسود القطاع آنذاك. تلك العملية العسكرية كشفت حقيقة البعبع الدولي الذي كانت تطبل وتزمر له جبهة الولايات المتحدة، فقد انهار هذا النظام انهيارا غير متوقع، وكان لسقوطه المدوي صوت قرع آذان كافة الجبهات في منطقة الشرق الأوسط.

هذا النظام كان يصرف عليه مئات الملايين كي يكون أنموذجا عربيا بروح أمريكية في المنطقة، وكان على وشك الانقضاض على أنصع تجربة برلمانية في المنطقة كي توصل الولايات المتحدة رسالة واضحة، أن ديمقراطيات الشرق الأوسط لها معايير مختلفة، على قاعدة ( أهلا وسهلا بك في منطقة الشرق الأوسط ) فأنت لست في أوروبا أو أمريكا الشمالية لنتحدث عن ديمقراطيات بالأنموذج الغربي. فقد كانت الديمقراطية المطلوبة هي تخفيف حدة الديكتاتوريات الموجودة في المنطقة، حتى لا تحرج الولايات المتحدة أمام باقي دول العالم بحكم أن تلك الأنظمة موالية لها، أما الديمقراطيات ( سكر زيادة ) فهي غير مطلوبة على الإطلاق فالنتائج ستكون عكسية تماما لما هي عليه رؤية جبهة الولايات المتحدة للمنطقة.

انهيار هذا النظام بهذا الدوي الهائل قرع جرس إنذار خطير وهي أن الأنظمة المدعومة من الولايات المتحدة هي نمور من ورق، وقد تنهار بسهولة في حال استخدام شيء من القوة حيالها، وهو بالتأكيد ما سيصب بقوة في مصلحة الحركات الجهادية الإقليمية التي ستقنع فئات واسعة من الشباب للالتحاق بها على قاعدة أن حماس بتحركها العسكري وهي التي لا تملك سوى بضعة آلاف من المقاتلين متسلحين بالعقيدة وبعتاد بسيط، استطاعوا إسقاط أحد النمور الورقية المدعومة بقوة من الولايات المتحدة.

في ذات الوقت، هذه الانعكاسات على الواقع الإقليمي الأمني، تزعج وبشكل كبير الأنظمة العربية التي ترى في هذا النهج تحريضا غير مباشر ضدها، من قبل معارضيها في الداخل، والتي بات معظمها في ورطة حقيقية أمام شعوبهم في عجزهم عن إطلاق الحريات، وفتح باب المشاركة السياسية للأحزاب والحركات الإسلامية. وأمسى هذا الواقع الجديد يشكل ضغطا كبيرا على تلك الأنظمة يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما:

الأول، هو أن تستمر تلك الأنظمة في قمع تلك الحريات، تحت مسميات شتى وفي إطار دستوري مضطرب، وغير مقنع كأنظمة الطوارئ وما نحى نحوها، في ظل أداء اقتصادي ضعيف جدا، وتنام شديد للبطالة في صفوف الشباب، واختفاء تدريجي للطبقة المتوسطة من كثير من شعوب المنطقة العربية، وتبعية سياسية لم تعد تنفع معها كل وسائل التعتيم والتجهيل، والتضليل الإعلامي الذي كانت ولا زالت تمارسه الأنظمة العربية في المنطقة، مع جهلها أو تجاهلها للمتغيرات التكنولوجية والموضوعية للمجتمعات الحديثة. إذ أنه في حين شهدت المنطقة كما بقية العالم نهضة تقنية كبيرة أثرت في كافة مناحي الحياة لشعوب المنطقة، وأضحت الفضائيات والإنترنت وأجهزة الاتصال المحمولة تنقل ما يحدث في العالم بلمح البصر، وانعكست إثر ذلك على مستوى التنوير لدى غالبية شعوب المنطقة، فلا تزال الأنظمة العربية تستخدم الأدوات ذاتها التي تتعامل بها إعلاميا وسياسيا واقتصاديا مع شعوبها، في تجاهل صريح لمتغيرات الواقع وانعكاساته على المستقبل القريب لهذه الشعوب.

الثاني، أن تفتح المجال أمام ديمقراطيات ( سكر زيادة )، وهو ما من شانه أن يؤدي إلى صعود من هم غير مرغوب بوجودهم، تماما كما حدث في بداية التسعينات في الجزائر، وما حدث مؤخرا في فلسطين، وما رافقه من مؤشرات في انتخابات مصر البرلمانية. إذ وعلى حد تعبير التقارير الصادرة عن البيت الأبيض؛ أن الإسلاميين باتوا يشكلون قوة متنامية بقوة في المنطقة العربية وباتوا يشكلون تحديا مباشرا للأنظمة الموجودة وبإمكانها المنافسة في أية انتخابات برلمانية والحصول على مواقع مؤثرة في دولها، وهو ما أثار الرعب لدى كل المعادين لهذه التوجهات، واستطاع الرعب من المستقبل أن يوحد دولا عربية لطالما تنازعت فيما بينها لأسباب عديدة، وصلت حد المواجهة العسكرية. المحصلة النهائية هنا أن هذا الخيار ليس مطروحا أو محبذا لدى غالبية الأنظمة العربية، فأغلبيتها مع الخيار الأول والذي ستكون له انعكاسات غير مسبوقة في المستقبل القريب.

وهنا، مع الأخذ بالاعتبار التشابكات المعقدة لشبكات العلاقات الدبلوماسية وشبه الدبلوماسية، الإستخباراتية، والأيديولوجية، وتقاطع المصالح للمنطقة يجعل من الصعب جدا اتخاذ قرارات ذات تأثير جذري، لأنه وبكل بساطة سيخل بهذه التركيبة المعقدة. ومن شبه المحتم أن بعضها يتناقض والبعض الآخر إلا أن ذلك لا يحد أبدا من طموحات كل طرف ذا تأثير أقوى، لتغيير كلمات المرور لبعض هذه التعقيدات سعيا لكسب أطراف جديدة، والإخلال التدريجي لهذه التركيبة.

فعلى سبيل المثال، كان لا بد من عقد اتفاقية تاريخية مع ياسر عرفات، الزعيم الفلسطيني الأقوى في حينه صاحب نظرية البندقية وغصن الزيتون، أو بلهجة الغرب العصا والجزرة. وفر عرفات لهم هذه الفرصة فكانوا كرماء معه وأعطوه جائزة نوبل للسلام مناصفة مع رابين، ومن ثم بعد أن أدى الاثنان دورهما المطلوب، تم قتلهما على أيدي أبناء شعبهما، فعرفات تم تسميمه من أصحاب الطموحات الكبيرة والعاجلة من رفقاء الدرب، والثاني تم اغتياله بكل بساطة، في حين يقبع قاتله في زنزانة خمس نجوم. ذرفت دموع الفراق أياما معدودات، ثم مضى السيناريست في إكمال المسرحية، بأبطال جدد.

عباس، دحلان كانا المرشحين الطبيعيين، الأول لقيادة السلطة والثاني لقيادة فتح، وتم الأمر لهما، ولكن بما أن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن، وفر الاثنان إلى رام الله بعد سقوط غزة من إمبراطورية الأحلام المفترضة، وبعد أن تبين أن نمرا من ورق، قد تبخر في سويعات، فقد سقطت ورقة دحلان لأن على احد ما أن يدفع ثمن ذلك في إطار هذه اللعبة، ولم يعد في جعبة محمود عباس سوى ورقة أخيرة، وهي التي سيقامر بها فلم يعد لديه ما يفقده، إذ يتم إعداد البطل الجديد خلف ستار المسرح، لذا فإن عليه أن يجد نهاية مشرفة على الأقل لكرامته، فيلقي بحمله كاملا على الولايات المتحدة وإسرائيل ويضع على الطاولة ورقته الأخيرة؛ سلام فياض، في موقع يستجدي به إقناع البيت الأبيض أنه لازال قادرا على أداء المسئولية المناطة به.

لكن على ما يبدو فإن البيت الأبيض الذي يعد لرحيل بوش يعد لرحيل الكثيرين من على المسرح بمن فيهم

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس

نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مقاومان بعد خوضه اشتباكاً مسلحاً - مساء الجمعة- مع قوات الاحتلال الصهيوني التي حاصرته في منزل بمنطقة عين...