الأربعاء 07/مايو/2025

ما هكذا تورد الإبل

ما هكذا تورد الإبل

صحيفة الأهرام

منذ متى كانت قضايا الأمن القومي لأي بلد تحسمها الاجتهادات الصحفية والمساجلات التليفزيونية‏‏ وثرثرة الجالسين في الصالونات وجنرالات المقاهي؟

(1)‏

سألني أكثر من واحد عن رأيي في موضوع أشرف مروان‏‏ واستغربت إحدى الصحفيات أنني لم أكتب شيئاً في قضيته‏‏ في حين إن الجميع اشتركوا في المناقشة‏‏ فأضفي عليه البعض مسحة من البطولة والوطنية‏‏ وذهب آخرون إلى اتهامه بالتجسس لحساب ل”إسرائيل”‏.‏ وكان رأيي ولا يزال أن المناقشة ممكنة في حالة واحدة‏‏ هي أن تتوفر المعلومات الصحيحة عن الموضوع وأنا على ثقة من أن أحداً لم ينتظر أن أدلي بدلوي في المسألة‏.‏ حتى الذين سألوني كان كلامهم تعبيراً عن الدهشة بأكثر مما فيه من الرغبة في الاستفهام‏.‏ والحقيقة أنني سكت لأنه لم يكن لدي ما أقوله‏‏ فليست لدي معلومات أرجح بها قولاً على قول‏‏ ولا لدي ذكريات من أي نوع مع الرجل‏.‏ شجعني على الالتزام بهذا الموقف أمور ثلاثة هي‏:‏

*‏ أن كل المعلومات التي خرجت حول الموضوع مصدرها “إسرائيل‏”.‏ وحين يكون ‏”العدو”‏ هو مصدر لخبر أو تقرير يتعلق بالأمن القومي لمصر‏‏ فإن التعامل مع معلوماته يجب أن يتسم بالحذر الشديد‏‏ فضلاً عن أن افتراض حسن النية في دوافعه ليس وارداً في كل الأحوال‏.‏

*‏ أن تسريب المعلومات المتعلقة بصلات أشرف مروان مع الموساد الإسرائيلي بدأ منذ أربع سنوات تقريباً‏‏ وجرى السكوت عليها طول الوقت‏‏ فلا هو نفي شيئاً أو أكده‏‏ ولا مصر الرسمية قالت شيئاً في الموضوع‏.‏ بالتالي فقد ظل الأمر معلقاً ومسكوتاً عليه طوال تلك المدة‏‏ إلى أن وقع حادث موته في لندن على النحو الذي يعرفه الجميع‏‏ الأمر الذي طرح العديد من الأسئلة التي كان ينبغي أن تتم الإجابة عنها قبل وفاته الغامضة‏.‏

*‏ أن الموضوع شديد الخطورة والحساسية بحيث يتعين مضاعفة الحذر في تناوله‏.‏ ولعلمك فإن المعلقين في “إسرائيل” ذاتها مختلفون حول الدور الذي قام به أشرف مروان‏‏ وهل كان عميلاً ل”إسرائيل” أم عميلاً لمصر‏‏ أم أنه كان عميلاً مزدوجاً‏ بل إن أحد كتاب صحيفة هاآرتس‏ ـ‏ يوسي ميلمان‏ ـ‏ قال في ‏28/6 إن المخابرات المصرية هي صاحبة المصلحة في تصفيته جسدياً‏‏ واعتبر أن المخابرات الإسرائيلية ارتكبت خطأ تاريخياً فادحاً حين كشفت عن هويته‏.‏

(2)‏

هذه القصة سمعتها من الدكتور كمال أبو المجد‏:‏ في أعقاب حرب ‏1973‏ دعت مصر مبعوثيها في الخارج إلى مؤتمر عقد في القاهرة‏‏ تولت تنظيمه أمانة الشباب بالاتحاد الاشتراكي التي كان هو مسئولاً عنها‏.‏ وكان من بين المدعوين شاب طلب لقاء منفرداً مع الدكتور أبو المجد‏‏ أبلغه فيه بأن الموساد الإسرائيلي قام بتجنيده لحسابه‏‏ وأعطاه أدوات وأجهزة للاتصال‏‏ كما دفع له مالاً لقاء ذلك‏.‏ وأنه ضعف أمام ذلك الإغراء‏‏ لكنه يريد أن يبلغ الحكومة المصرية بكل ما قام به‏‏ وأن يقطع علاقته بالموساد‏.‏ آنذاك لم يكن الدكتور أبو المجد عضواً في الحكومة‏‏ وفضل أن يخاطب الرئيس السادات مباشرة في الموضوع‏.‏ وحين تم له ذلك‏‏ فوجئ بأن السادات قال له‏‏ أبلغه بأن يستمر في علاقاته معهم‏‏ ولا تشجعه عليى قطع صلته بهم‏.‏ ومن الأفضل أن ينسق الأمر مع المخابرات المصرية‏‏ لكي تستفيد البلد منه‏.‏

ما أريد أن أقوله إن واقعة الاتصال بالإسرائيليين تحتمل أكثر من قراءة‏‏ ولا يمكن أن ترجح قراءة على أخرى دون التدقيق في التفاصيل‏.‏ وعندما تحدثت مع عدد من رجال المخابرات وخبرائها الذين طلبوا عدم ذكر أسمائهم‏‏ قالوا لي إن تقييم عملية الاتصال‏‏ حتى مع العدو‏‏ إلا إذا تمت الإجابة عن عدة أسئلة من قبيل‏:‏ من يقوم بالاتصال‏‏ وهل هو مخول أم غير مخول‏‏ ولحساب من يؤدي هذه المهمة‏.‏ وما هو موضوع الاتصال؟ وما هي الحدود التي ينبغي أن يلتزم بها الشخص في ذلك؟ وما لم يتم التثبت من هذه التفاصيل‏‏ فإن أي كلام في الموضوع يظل مجرد تخمينات وتأويلات تحتمل الصواب والخطأ‏.‏

(3)‏

إحدى مشكلات الجدل حول الموضوع أنه مثار حول المعلومات التي سربها الإسرائيليون فقط‏.‏ وهناك دلائل على أنها مجرحة وليست دقيقة‏.‏ من ذلك أن الوثائق الإسرائيلية التي أعتمد عليها بعض الكتاب المصريين تتحدث عن أن أشرف مروان قدم نفسه إلى السفارة الإسرائيلية في عام ‏1969‏ وأن علاقته بهم استمرت حتى عام‏ 1975‏ وأنه تقاضى منهم ثلاثة ملايين دولار خلال تلك الفترة‏.‏ وهذه الإشارة تعني أنه بدأ علاقته بهم في أثناء حياة الرئيس عبد الناصر‏‏ حين كان أحد الملحقين بمكتبه‏‏ حيث تم إيفاده إلى لندن للتخصص الدراسي لمدة سنة تقريباً‏.‏

تقول الرواية الإسرائيلية أيضاً إن مروان نقل إلى الموساد في عهد الرئيس عبد الناصر محضر اجتماعه مع الرئيس السوفيتي ليونيد بريجينيف‏‏ وأن اتصاله بهم استمر في عهد الرئيس السادات‏‏ حتى أبلغ الإسرائيليين بقرار الحرب عام ‏73‏ وأن حدد لهم موعدها بفارق أربع ساعات بعد الموعد الأصلي‏‏ الأمر الذي اعتبره البعض خدعة من جانبه‏‏ في حين ارتآه آخرون خطأ في التفاصيل‏.‏

مسئولو المخابرات وخبراؤها الذين ناقشتهم في الأمر وطلبوا عدم ذكر أسمائهم نقضوا تلك المعلومات‏‏ وشككوا في دقتها من عدة أوجه‏.‏ هم يقولون مثلاً إنه من المستحيل أن تكون علاقة أشرف مروان بالإسرائيليين بدأت في عهد الرئيس عبد الناصر‏‏ ويشككون في حكاية تسريبه لمحضر اجتماع عبد الناصر مع بريجينيف‏‏ الذي عقد في عام ‏1969‏ قائلين إن ذلك المحضر كان ضمن أوراق أخرى غاية في السرية والأهمية‏‏ موضوعة في خزانة لها مفتاحان مع شخصين اثنين‏‏ لم يكن مروان واحداً منهما‏‏ بل كان أبعد ما يكون عنهما‏.‏ حتى السكرتير الخاص للرئيس وأفراد أسرته لم يكن يسمح لأي منهم أن يصل إلى ذلك المكان‏.‏ فكيف يتأتي ذلك لشاب مثل أشرف مروان‏‏ حديث السن وحديث العهد بالتواجد في الرئاسة‏.‏

من ناحية ثانية فإن الادعاء بأن أشرف مروان ذهب إلى السفارة الإسرائيلية في لندن عام ‏69‏ وعرض عليهم التعاون مع الموساد تنقضه معلومات الأجهزة المصرية‏‏ التي تؤكد أن حدوث هذه الواقعة من رابع المستحيلات‏.‏ ذلك أنه كان وقتذاك زوجاً لابنه الرئيس عبد الناصر‏‏ وتم إيفاده للعاصمة البريطانية في مهمة دراسية‏.‏ وبسبب صفته تلك‏‏ فقد كان من الطبيعي والضروري أن يكون طول الوقت تحت الحراسة والرقابة‏.‏ ومن المعلومات التي أكدها لي مصدر أثق في اطلاعه على أجواء تلك المرحلة أن أشرف لم يكن يعلم أن ثلاثة أجهزة أمنية مصرية كانت تتابعه طول الوقت‏‏ دون أن يغمض لها جفن عنه طيلة الأربع وعشرين ساعة في اليوم‏.‏ وبسبب هذه المتابعة المحكمة‏‏ لم يكن متصوراً أن يذهب صاحبنا بقدميه إلى مقر السفارة الإسرائيلية خلال مواعيد الدوام ليعرض عليها خدماته‏.‏ وبهذه المناسبة فإن الإسرائيليين لم يحددوا بالضبط تاريخ اليوم الذي ادعوا أن مروان ذهب إلى سفارتهم فيه عام 1969.‏ ويستند الخبراء المصريون إلى هذه النقطة للتشكيك في الادعاء بأنه نقل إليهم محضر اجتماع عبد الناصر وبريجينيف‏‏ لأن ذلك الاجتماع تم في شهر يناير‏‏ وكان إطلاع مروان على المحضر مستحيلاً في تلك الظروف‏‏ ويتساءلون كم من الوقت مضى بين موعد الاجتماع وبين التاريخ الذي قيل إن مروان زار السفارة الإسرائيلية فيه‏.‏

من ناحية ثالثة فإن المسئولين السابقين الذين تحدثت إليهم استوقفهم كلام الإسرائيليين عن أن أشرف مروان سافر إلى لندن يوم ‏4‏ أكتوبر عام ‏73‏ واجتمع هناك بمدير الموساد وأبلغه بموعد الحرب‏‏ وقال هؤلاء المسئولون إن سكرتير الرئيس للمعلومات الذي لا يغادر مكتبه إلى بيته إلا بعد استئذان الرئيس لا يمكن له أن يغادر مصر إلى لندن إلا بعلم الرئيس وموافقته‏.‏ وحين يتم ذلك قبل الحرب بثمان وأربعين ساعة فإن ذلك ما كان له أن يحدث إلا بتوجيه من الرئيس وترتيب معه‏.‏

(4)‏

إذا جاز لنا أن نلخص المشهد فقد نقول إن معلومات الموضوع كله خرجت من “إسرائيل” وكل ما حدث في مصر كان مجرد صدي لها‏.‏ ومن المبادئ التي تعلمناها في مهنتنا على الأقل أن المرء لابد له أن يتثبت من المعلومة أولا‏ً‏ قبل أن يتصدي لتحليلها أو التعليق عليها‏.‏ وإذا كان ذلك هو الأصل في التعامل مع الأخبار العادية‏‏ فما بالك به إذا تعلق بالأمن القومي للبلد؟ في هذا الصدد فإنني لا أستطيع أن أخفي دهشتي من الطريقة التي تعاملنا بها مع القضية‏.‏ ذلك إننا سكتنا طول أربع سنوات‏‏ ظلت المعلومات الإسرائيلية خلالها هي المصدر الوحيد المتاح للباحثين والمعلقين‏‏ وحين انفجر الموضوع مجدداً بعد الوفاة الغامضة لأشرف مروان‏‏ فإن الذين ينبغي أن يتكلموا سكتوا‏‏ والذين كان عليهم أن يتحروا الأمر ويناقشوه‏‏ مثل لجنة الأمن القومي في مجلس الشعب‏‏ تجاهلوا الأمر وكأنهم لم يسمعوا أصلاً بالخبر‏.‏ أما الذين كان عليهم أن يتثبتوا من المعلومات أو ينتظروا حتى تظهر الحقيقة‏‏ فإنهم وحدهم الذين سارعوا إلى التحليل والتعليق وطرح الافتراضات وترجيح الاحتمالات‏.‏

في أمر بهذه الجسامة فإن الوسيلة الوحيدة لحسم المسألة هي تشكيل لجنة من أهل الاختصاص المعنيين بالأمر لتقصي حقائق الموضوع والتثبت ليس فقط من صحة المعلومات التي ذكرت في صدده‏‏ وإنما أيضاً للاطمئنان إلى عدم وجود أي مساس بمقتضيات الأمن القومي للبلد‏.‏ وتلك هي الصيغة المعتمدة في أي دولة مدنية تقوم على جهد المؤسسات وليس الأفراد‏.‏

سيقول قائل إن شهادة الرئيس مبارك لصالح أشرف مروان حسمت المسألة وبرأت ساحة الرجل‏.‏ ورأيي المتواضع أن كلام الرئيس هو شهادة موثوقة لا ريب‏.‏ ولست أشك في أنها انبنت على معلومات وليس اجتهادات‏‏ لكنها في كل الأحوال تظل شهادة ترجح احتمالاً‏‏ ولا تغلق باب الجدل واللغط حول الموضوع‏.‏ بدليل أن مناقشته مازالت مستمرة في الصحف المصرية المستقلة والمعارضة‏‏ وفي الصحف الإسرائيلية ‏(‏هاآرتس نشرت في ‏7/7‏ تقريراً مطولاً عنه تحت عنوان “موت الجاسوس المثالي‏”)‏ واطمئنان الرئيس إلى سلامة موقف أشرف مروان يريحنا بكل تأكيد‏‏ لكن من حق الناس بدورهم أن يعرفوا حقائق ما جرى في بلدهم إبان تلك المرحلة التاريخية العصيبة‏.‏ ولن تتوقف البلبلة ويحسم الجدل إلا إذا أدرك الناس أن المؤسسة الأمنية المصرية قامت بتقصي حقائق ما جرى‏‏ وفندت المعلومات التي ذكرها الإسرائيليون‏‏ بما يضع الأمر كله في نصابه الصحيح‏.‏

والأمر كذلك‏‏ فإن الرأي الوحيد الذي أستطيع أن أبديه الآن في الموضوع لا يتجاوز حدود شطر بيت الشعر العربي الذي صار مثلاً إذ يقول‏:‏ ما هكذا‏ ـ‏ يا قوم‏ ـ‏ تورد الإبل‏.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...