ما هكذا تورد الإبل

صحيفة الأهرام
منذ متى كانت قضايا الأمن القومي لأي بلد تحسمها الاجتهادات الصحفية والمساجلات التليفزيونية وثرثرة الجالسين في الصالونات وجنرالات المقاهي؟
(1)
سألني أكثر من واحد عن رأيي في موضوع أشرف مروان واستغربت إحدى الصحفيات أنني لم أكتب شيئاً في قضيته في حين إن الجميع اشتركوا في المناقشة فأضفي عليه البعض مسحة من البطولة والوطنية وذهب آخرون إلى اتهامه بالتجسس لحساب ل”إسرائيل”. وكان رأيي ولا يزال أن المناقشة ممكنة في حالة واحدة هي أن تتوفر المعلومات الصحيحة عن الموضوع وأنا على ثقة من أن أحداً لم ينتظر أن أدلي بدلوي في المسألة. حتى الذين سألوني كان كلامهم تعبيراً عن الدهشة بأكثر مما فيه من الرغبة في الاستفهام. والحقيقة أنني سكت لأنه لم يكن لدي ما أقوله فليست لدي معلومات أرجح بها قولاً على قول ولا لدي ذكريات من أي نوع مع الرجل. شجعني على الالتزام بهذا الموقف أمور ثلاثة هي:
* أن كل المعلومات التي خرجت حول الموضوع مصدرها “إسرائيل”. وحين يكون ”العدو” هو مصدر لخبر أو تقرير يتعلق بالأمن القومي لمصر فإن التعامل مع معلوماته يجب أن يتسم بالحذر الشديد فضلاً عن أن افتراض حسن النية في دوافعه ليس وارداً في كل الأحوال.
* أن تسريب المعلومات المتعلقة بصلات أشرف مروان مع الموساد الإسرائيلي بدأ منذ أربع سنوات تقريباً وجرى السكوت عليها طول الوقت فلا هو نفي شيئاً أو أكده ولا مصر الرسمية قالت شيئاً في الموضوع. بالتالي فقد ظل الأمر معلقاً ومسكوتاً عليه طوال تلك المدة إلى أن وقع حادث موته في لندن على النحو الذي يعرفه الجميع الأمر الذي طرح العديد من الأسئلة التي كان ينبغي أن تتم الإجابة عنها قبل وفاته الغامضة.
* أن الموضوع شديد الخطورة والحساسية بحيث يتعين مضاعفة الحذر في تناوله. ولعلمك فإن المعلقين في “إسرائيل” ذاتها مختلفون حول الدور الذي قام به أشرف مروان وهل كان عميلاً ل”إسرائيل” أم عميلاً لمصر أم أنه كان عميلاً مزدوجاً بل إن أحد كتاب صحيفة هاآرتس ـ يوسي ميلمان ـ قال في 28/6 إن المخابرات المصرية هي صاحبة المصلحة في تصفيته جسدياً واعتبر أن المخابرات الإسرائيلية ارتكبت خطأ تاريخياً فادحاً حين كشفت عن هويته.
(2)
هذه القصة سمعتها من الدكتور كمال أبو المجد: في أعقاب حرب 1973 دعت مصر مبعوثيها في الخارج إلى مؤتمر عقد في القاهرة تولت تنظيمه أمانة الشباب بالاتحاد الاشتراكي التي كان هو مسئولاً عنها. وكان من بين المدعوين شاب طلب لقاء منفرداً مع الدكتور أبو المجد أبلغه فيه بأن الموساد الإسرائيلي قام بتجنيده لحسابه وأعطاه أدوات وأجهزة للاتصال كما دفع له مالاً لقاء ذلك. وأنه ضعف أمام ذلك الإغراء لكنه يريد أن يبلغ الحكومة المصرية بكل ما قام به وأن يقطع علاقته بالموساد. آنذاك لم يكن الدكتور أبو المجد عضواً في الحكومة وفضل أن يخاطب الرئيس السادات مباشرة في الموضوع. وحين تم له ذلك فوجئ بأن السادات قال له أبلغه بأن يستمر في علاقاته معهم ولا تشجعه عليى قطع صلته بهم. ومن الأفضل أن ينسق الأمر مع المخابرات المصرية لكي تستفيد البلد منه.
ما أريد أن أقوله إن واقعة الاتصال بالإسرائيليين تحتمل أكثر من قراءة ولا يمكن أن ترجح قراءة على أخرى دون التدقيق في التفاصيل. وعندما تحدثت مع عدد من رجال المخابرات وخبرائها الذين طلبوا عدم ذكر أسمائهم قالوا لي إن تقييم عملية الاتصال حتى مع العدو إلا إذا تمت الإجابة عن عدة أسئلة من قبيل: من يقوم بالاتصال وهل هو مخول أم غير مخول ولحساب من يؤدي هذه المهمة. وما هو موضوع الاتصال؟ وما هي الحدود التي ينبغي أن يلتزم بها الشخص في ذلك؟ وما لم يتم التثبت من هذه التفاصيل فإن أي كلام في الموضوع يظل مجرد تخمينات وتأويلات تحتمل الصواب والخطأ.
(3)
إحدى مشكلات الجدل حول الموضوع أنه مثار حول المعلومات التي سربها الإسرائيليون فقط. وهناك دلائل على أنها مجرحة وليست دقيقة. من ذلك أن الوثائق الإسرائيلية التي أعتمد عليها بعض الكتاب المصريين تتحدث عن أن أشرف مروان قدم نفسه إلى السفارة الإسرائيلية في عام 1969 وأن علاقته بهم استمرت حتى عام 1975 وأنه تقاضى منهم ثلاثة ملايين دولار خلال تلك الفترة. وهذه الإشارة تعني أنه بدأ علاقته بهم في أثناء حياة الرئيس عبد الناصر حين كان أحد الملحقين بمكتبه حيث تم إيفاده إلى لندن للتخصص الدراسي لمدة سنة تقريباً.
تقول الرواية الإسرائيلية أيضاً إن مروان نقل إلى الموساد في عهد الرئيس عبد الناصر محضر اجتماعه مع الرئيس السوفيتي ليونيد بريجينيف وأن اتصاله بهم استمر في عهد الرئيس السادات حتى أبلغ الإسرائيليين بقرار الحرب عام 73 وأن حدد لهم موعدها بفارق أربع ساعات بعد الموعد الأصلي الأمر الذي اعتبره البعض خدعة من جانبه في حين ارتآه آخرون خطأ في التفاصيل.
مسئولو المخابرات وخبراؤها الذين ناقشتهم في الأمر وطلبوا عدم ذكر أسمائهم نقضوا تلك المعلومات وشككوا في دقتها من عدة أوجه. هم يقولون مثلاً إنه من المستحيل أن تكون علاقة أشرف مروان بالإسرائيليين بدأت في عهد الرئيس عبد الناصر ويشككون في حكاية تسريبه لمحضر اجتماع عبد الناصر مع بريجينيف الذي عقد في عام 1969 قائلين إن ذلك المحضر كان ضمن أوراق أخرى غاية في السرية والأهمية موضوعة في خزانة لها مفتاحان مع شخصين اثنين لم يكن مروان واحداً منهما بل كان أبعد ما يكون عنهما. حتى السكرتير الخاص للرئيس وأفراد أسرته لم يكن يسمح لأي منهم أن يصل إلى ذلك المكان. فكيف يتأتي ذلك لشاب مثل أشرف مروان حديث السن وحديث العهد بالتواجد في الرئاسة.
من ناحية ثانية فإن الادعاء بأن أشرف مروان ذهب إلى السفارة الإسرائيلية في لندن عام 69 وعرض عليهم التعاون مع الموساد تنقضه معلومات الأجهزة المصرية التي تؤكد أن حدوث هذه الواقعة من رابع المستحيلات. ذلك أنه كان وقتذاك زوجاً لابنه الرئيس عبد الناصر وتم إيفاده للعاصمة البريطانية في مهمة دراسية. وبسبب صفته تلك فقد كان من الطبيعي والضروري أن يكون طول الوقت تحت الحراسة والرقابة. ومن المعلومات التي أكدها لي مصدر أثق في اطلاعه على أجواء تلك المرحلة أن أشرف لم يكن يعلم أن ثلاثة أجهزة أمنية مصرية كانت تتابعه طول الوقت دون أن يغمض لها جفن عنه طيلة الأربع وعشرين ساعة في اليوم. وبسبب هذه المتابعة المحكمة لم يكن متصوراً أن يذهب صاحبنا بقدميه إلى مقر السفارة الإسرائيلية خلال مواعيد الدوام ليعرض عليها خدماته. وبهذه المناسبة فإن الإسرائيليين لم يحددوا بالضبط تاريخ اليوم الذي ادعوا أن مروان ذهب إلى سفارتهم فيه عام 1969. ويستند الخبراء المصريون إلى هذه النقطة للتشكيك في الادعاء بأنه نقل إليهم محضر اجتماع عبد الناصر وبريجينيف لأن ذلك الاجتماع تم في شهر يناير وكان إطلاع مروان على المحضر مستحيلاً في تلك الظروف ويتساءلون كم من الوقت مضى بين موعد الاجتماع وبين التاريخ الذي قيل إن مروان زار السفارة الإسرائيلية فيه.
من ناحية ثالثة فإن المسئولين السابقين الذين تحدثت إليهم استوقفهم كلام الإسرائيليين عن أن أشرف مروان سافر إلى لندن يوم 4 أكتوبر عام 73 واجتمع هناك بمدير الموساد وأبلغه بموعد الحرب وقال هؤلاء المسئولون إن سكرتير الرئيس للمعلومات الذي لا يغادر مكتبه إلى بيته إلا بعد استئذان الرئيس لا يمكن له أن يغادر مصر إلى لندن إلا بعلم الرئيس وموافقته. وحين يتم ذلك قبل الحرب بثمان وأربعين ساعة فإن ذلك ما كان له أن يحدث إلا بتوجيه من الرئيس وترتيب معه.
(4)
إذا جاز لنا أن نلخص المشهد فقد نقول إن معلومات الموضوع كله خرجت من “إسرائيل” وكل ما حدث في مصر كان مجرد صدي لها. ومن المبادئ التي تعلمناها في مهنتنا على الأقل أن المرء لابد له أن يتثبت من المعلومة أولاً قبل أن يتصدي لتحليلها أو التعليق عليها. وإذا كان ذلك هو الأصل في التعامل مع الأخبار العادية فما بالك به إذا تعلق بالأمن القومي للبلد؟ في هذا الصدد فإنني لا أستطيع أن أخفي دهشتي من الطريقة التي تعاملنا بها مع القضية. ذلك إننا سكتنا طول أربع سنوات ظلت المعلومات الإسرائيلية خلالها هي المصدر الوحيد المتاح للباحثين والمعلقين وحين انفجر الموضوع مجدداً بعد الوفاة الغامضة لأشرف مروان فإن الذين ينبغي أن يتكلموا سكتوا والذين كان عليهم أن يتحروا الأمر ويناقشوه مثل لجنة الأمن القومي في مجلس الشعب تجاهلوا الأمر وكأنهم لم يسمعوا أصلاً بالخبر. أما الذين كان عليهم أن يتثبتوا من المعلومات أو ينتظروا حتى تظهر الحقيقة فإنهم وحدهم الذين سارعوا إلى التحليل والتعليق وطرح الافتراضات وترجيح الاحتمالات.
في أمر بهذه الجسامة فإن الوسيلة الوحيدة لحسم المسألة هي تشكيل لجنة من أهل الاختصاص المعنيين بالأمر لتقصي حقائق الموضوع والتثبت ليس فقط من صحة المعلومات التي ذكرت في صدده وإنما أيضاً للاطمئنان إلى عدم وجود أي مساس بمقتضيات الأمن القومي للبلد. وتلك هي الصيغة المعتمدة في أي دولة مدنية تقوم على جهد المؤسسات وليس الأفراد.
سيقول قائل إن شهادة الرئيس مبارك لصالح أشرف مروان حسمت المسألة وبرأت ساحة الرجل. ورأيي المتواضع أن كلام الرئيس هو شهادة موثوقة لا ريب. ولست أشك في أنها انبنت على معلومات وليس اجتهادات لكنها في كل الأحوال تظل شهادة ترجح احتمالاً ولا تغلق باب الجدل واللغط حول الموضوع. بدليل أن مناقشته مازالت مستمرة في الصحف المصرية المستقلة والمعارضة وفي الصحف الإسرائيلية (هاآرتس نشرت في 7/7 تقريراً مطولاً عنه تحت عنوان “موت الجاسوس المثالي”) واطمئنان الرئيس إلى سلامة موقف أشرف مروان يريحنا بكل تأكيد لكن من حق الناس بدورهم أن يعرفوا حقائق ما جرى في بلدهم إبان تلك المرحلة التاريخية العصيبة. ولن تتوقف البلبلة ويحسم الجدل إلا إذا أدرك الناس أن المؤسسة الأمنية المصرية قامت بتقصي حقائق ما جرى وفندت المعلومات التي ذكرها الإسرائيليون بما يضع الأمر كله في نصابه الصحيح.
والأمر كذلك فإن الرأي الوحيد الذي أستطيع أن أبديه الآن في الموضوع لا يتجاوز حدود شطر بيت الشعر العربي الذي صار مثلاً إذ يقول: ما هكذا ـ يا قوم ـ تورد الإبل.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

10 شهداء على الأقل في قصف جديد لمدرسة وسط القطاع
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 10 شهداء على الأقل، وأصيب أكثر من 50 مواطنًا بجراح، إثر قصف إسرائيلي جديد، استهدف، مساء الثلاثاء، مدرسة أبو...

الإعلامي الحكومي: مجزرة البريج امتداد مباشر لجرائم الإبادة في غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي إن مجزرة مخيم البريج تُعد جريمة امتداد مباشر لجريمة الإبادة الجماعية التي يواصل جيش...

الهيئات الإسلامية: الاعتداء على ساحة الشهابي سياسة تهويدية لتطويق الأقصى
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام قالت الهيئات الإسلامية في القدس أن اعتداء سلطات الاحتلال الإسرائيلي على ساحة "الشهابي" التاريخية داخل البلدة...

حماس: مجزرة البريج جريمة حرب بشعة تضاف للسجل الأسود للاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن مجزرة مدرسة أبو هميسة في مخيم البريج، والتي كانت تؤوي نازحين، جريمةٍ جديدةٍ...

بلدية جباليا تحذر من كارثة وشيكة لتراكم النفايات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت بلدية جباليا النزلة، يوم الثلاثاء، من انتشار وتراكم كميات النفايات في مناطق نفوذها، مع عدم مقدرة طواقم العمل على...

الاحتلال يشرع بهدم منازل في مخيم نور شمس شمال الضفة
طولكرم – المركز الفلسطيني للإعلام شرعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، الثلاثاء، بهدم عدد من المباني السكنية في مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم شمال الضفة...

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...