مثقفو الهزيمة في زمان الوحل..

ثمة هواجس كانت تعتري المثقف الفلسطيني على طول عمر ثورتنا المعاصرة فما أن انتهت نكسة العام 1967 حتى غصت أدبيات مثقفينا على اختلاف أنواعها و أشكالها باصطلاحات مختلفة دلالة على تلك الهواجس التي كانت تقض مضاجعهم فالمثقف الفلسطيني على طول عمر ثورتنا المعاصرة كان له دور ريادي في رسم ملامح الطريق و شحذ الهمم حين كان القنوط و اليأس هو عنوان المرحلة.

هذا الدور الريادي لمثقفي الثورة الفلسطينية هو الذي حتم عليهم التصدي لفقهاء و مُنظري الهزيمة بعد كل المنعطفات التي مرت بها ثورتنا عبر مراحلها المختلفة حتى لا يكون لهذه الثقافة الآثمة التي حمل لواءها ثلة من مرتزقة الكلمة سبيلاً للولوج إلى الوجدان العربي و الفلسطيني بشكل خاص.

المتابع لشأن مثقفينا سيجد أدبياتهم لم تخل من التحذير من _ زمان الوحل و ثقافة الهزيمة _ إلى غير تلك الاصطلاحات التي كانت ترسم معالم المرحلة و تحمل أيضاً عناوين المراحل القادمة.

هذا التحذير و الاستشعار المُسبق لما هو قادم كان مرده إدراكهم العميق للخطر القادم من كلمات فقهاء الهزيمة و مثقفي الوحل فالدلالات التاريخية تؤكد أن ما من هزيمة تعرضت لها أمتنا عبر مراحلها التاريخية المختلفة إلا و تبعتها هزائم أخرى بفعل هؤلاء الثلة من مرتزقة الكلمة و مُنظري الهزيمة فقد كان دورهم عبر كل المراحل قائماً على وئد كل شعور يخالج شغاف هذه الأمة أنه لا سبيل سوى القيام من جديد !

قد لا أكون مبالغاً حين أقول إن هزائمنا التي مُنينا بها بفعل مثقفي الوحل كانت أشد وطأة من تلك الهزائم العسكرية التي مُنيت بها أمتنا عبر مراحلها المختلفة فهزائمنا العسكرية كانت مجرد خسارة لجولة في معركة مفتوحة لم تنته حتى الآن أما هزائمنا بفعل مثقفي الوحل فقد كانت هزائم حضارية بكل ما تحمله الكلمة من معنى هم أرادوا وأد هذه الأمة تاريخاً و حاضراً و مستقبلا هزائم تعدت كل حدود الجغرافيا التي نعرفها لتصل لمرحلة إعادة صياغة المفاهيم و المسلمات من جديد بشكل يتلاءم مع معطيات العصر والمرحلة ضمن عولمة المفاهيم و قولبتها من جديد .

آخر ما أفرزته لنا ثقافة الوحل و الهزيمة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ قضيتنا هي مفاهيم السيد محمود درويش الجديدة !! السيد درويش الذي لطالما تغنى بالفدائي و البندقية و العودة إلى آخر تلك المسميات التي يستأجرها البعض لنيل عرض الدنيا الزائل أصبح بين ليلة و ضحاها في قائمة مؤجري الأقلام . أصبح السيد درويش بين ليلة و ضحاها ممن يسيرون على خطى إمبراطور العصر ” بوش ” مفنداً الأحداث و أطرافها وفق منطق ثنائية المفاهيم على غرار منطق الأشرار و الأخيار !

صدقاً لم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن يكون السيد درويش ممن يتجرؤون على قلب المفاهيم لم يدر بخلدي يوماً أنه من الممكن أن أستمع للسيد درويش و هو ينشد ” نورانية ” الدكتاتورية و يهجو ديمقراطية الظلام .

لم أكن أتخيل يوماً أن يصل مستوى الاستخفاف في عقول البعض للعبث بمفاهيم أمة فتصبح الدكتاتورية أصنافاً منها النوراني و منها الظلامي و بالمقابل تصبح الديمقراطية هي الأخرى أصنافاً ظلامية و أخرى نورانية و حين نأتي لمرحلة المفاضلة بالتأكيد ستكون الدكتاتورية المستنيرة هي الأجدى و هي الخيار على حساب ديمقراطية الظلام فهذا هو منهج العصر الذي أرسى دعائمه السيد بوش .

هذا هو السبيل حين نفتقد لسياقات العداء و أدلتها فتنضح قرائحنا لتنبت لنا اصطلاحات العبث ومفاهيم أقل ما توصف به أنها بلا مفاهيم !

حقيقةً و أنا أقرأ عبث و فجور السيد درويش استحضرت حادثة ” دنشواي ” الشهيرة كنت أقرأ آخر ما تنضحت به قريحة السيد درويش شعرت و كأنني أقرأ ” تسبيب الحكم ” الذي أصدره بطرس غالي باشا على ( الجناة ) ممن دافعوا عن أنفسهم ضد طغيان و فجور عساكر الجيش البريطاني .

بطرس غالي باشا هذا يُعد علماً من أعلام قلب المفاهيم و الحقائق فقد حكم بالإعدام شنقاً حتى الموت على مجموعة من القرويين انتقاماً لصريع الشمس الذي قتلته حرارة الشمس في دنشواي إرضاءً للورد كرومر أنذالك .

و ها هو السيد درويش ينصب نفسه قاضياً و جلاداً يستخف بالعقول و يصدر أحكامه بالإعدام شنقاً على تجربتنا الديمقراطية بل و يزيد في غيه و ضلاله و يأتي بمفاهيمه العبثية الجديدة !

صدقاً لا أدري كيف لمن يدعي الثقافة و يتغنى بالثورة و البندقية و التحرير أن يأتي عليه يوم ينضم فيه لجوقة الخنى من تجار القضية لكن ضمن أعراف و قوانين ثقافة الوحل و الهزيمة كل شيء جائز !

احذروا ثقافة الوحل و فقهاء الهزيمة و ابقوا على عهدنا مع من سبقوا محافظين على جذوة القضية وتيقنوا أن هذه الأمة قادرة أن تأتي بإبراهيم الورداني جديد يجز رقاب كل المتآمرين و من تناسلوا من نسلهم القذر.

أما السيد درويش فلا أجد من الكلمات له سوى ما قاله حين صور العابرين في كلام عابر فقال :

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر، مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة

هنيئاً لك يا درويش مرورك الأخير !!