السبت 10/مايو/2025

الضفة الآن

نور الدين علي

أكتب لكم عن الضفة الآن و هي غيرها عام 2000 و عام 1987 ، أرسم لكم الضفة مشهداً باكياً حزيناً مطعوناً يمشي على حدي سكين ليست ككل السكاكين، فسكين الذبح لها حد جارح واحد، أما السكين المنغرسة في قلب الضفة فحداها قاتلان، أحدهما حد الذبح و سفك الدماء والآخر حد الألم و القهر و الظلم .

الضفة الآن تفتقد لوجوهها الطيبين ، لعجائزها ومهندسيها و أطبائها و صيادلتها وكل نخبها المغيبين و المعتقلين، كانت في السابق تشتاق زيارتهم في السجون الصهيونية ، أما الآن فهي تحتضنهم في سجون مصطنعة في مدنها….لم تكن الضفة إلا أماً حنوناً فكيف تصبح الآن قاهرة أبنائها و آسرتهم؟؟؟

الضفة تغرق في الدخان و الغمام ، ترمي بعينيها لتفهم من يمعن في خنقها؟؟؟ ثلة من الفوضويين تحرق و تدمر و تنهب من الضفة جهد سنين في البناء و العطاء ، وتختلس تعباً وعرقاً لتجلس على الكرسي وتلتصق بالمنصب.

 تدقق النظر في هؤلاء أكثر فتعجب!!! لم تر واحداً منهم يوماً يهب للدفاع عنها وقت العدوان ، كانت الضفة تلمحهم آنذاك يدبون و يختفون ، وتعود لتلحظهم في الأعراس و المناسبات و الجنازات… فقلبت نظرها و عادت تفتش عن المقاتلين الشرفاء فإذا بهم يدكون دكاً في نابلس القديمة و جنين و كل مدن الضفة، وكأن هذا ليس بزمنهم وقد جاء أوان حصادهم و قطاف نضالهم في سوق النخاسة و مزادات الإعلام.

 الضفة الآن تتمزق قلقاً على صغارها و صغيراتها، مدارسهم من يحميها؟؟؟ عامهم الدراسي القادم من يضمن لهم انتظامه؟؟؟ أبناء و بنات المدارس و الروضات والجمعيات الإسلامية يسألون الضفة : لماذا يخافون مدرستنا ويحرقونها؟؟؟ و الضفة من كل ذاك خجلة و في سبيل الرد عليه حائرة….. من أين لها أن تفهم هؤلاء الصغار أن ما في مدرستهم يخيف ولو لم يكن سلاحاً… أنى لها أن تجترح أمامهم الحقيقة في أبشع صورها؟؟؟ أنى لها أن تقول لهم إن الإسلام الذي يعيشونه في مدارسهم بات مخيفاً و إن القرآن الذي يحفظونه بات غصّة في الحلق؟؟؟؟

 صمتت و في صمتها تسربل حديث العصور من عينيها، فتدفقت صور اقتحام الجامعات و قتل المواطنين في السجون والتجبر عليهم في الشوارع…صور أجفلت الصغار و أبكت الصغيرات فمن أين لهم طوال سنين الانتفاضة الماضية بذكرى مقيتة أليمة و قد ظنوا بأن الظلم لا يأتي من ذوي القربى.

الضفة الآن تمر على حواجز مزدوجة، ففي نابلس تمر عن حاجز حوارة الصهيوني و بعدها بكيلومتر تمر مرة أخرى عن حاجز ولكن لحظة…تقترب الضفة منه فإذا به حاجز فلسطيني محصن بالمكعبات الإسمنتية ومدجج بالأسلحة الثقيلة و الخفيفة، تتطلع الضفة ظناً منها بأن دبابة “تكزدر” وراءها فلا تلمح شيئاً يذكر، تتقدم فإذا بالحاجز منصوب لأمثالها من المواطنين العاديين لا ذنب لهم إلا لحية ظاهرة أو اسم مشبوه…هي تركب سيارة عادية ” قانونية مرخصة” يجبر صاحبها على التنحي جانباً للفحص، وما هي إلا ثواني حتى تمر سيارة ” طيارة” لم يكن لها بالقانون و الترخيص و “النمر” أية علاقة ، فتعود الضفة لتسأل عن الحملة الأمنية لملاحقة السيارات غير القانونية؟؟؟ فتأتيها الإجابة على لسان سبق و أن تعرى ذلا أمام الاحتلال في أريحا بأن الأولوية الآن لأمور أهم و أكثر خطورة من السيارات غير القانونية و الزعرنات “البسيطة”، فماذا لو دهس المواطنون في الشوارع ؟؟وماذا يعني لو افتعلت المشاكل لنظرة أو لكلمة و تخللها التكسير و “التطبيش” والعربدة؟؟ وماذا لو انحطت الأخلاق و تدنت القيم؟؟؟ الأولوية الرئاسية اليوم بالقضاء على بعض ممن غفل عنهم الاحتلال لكبر سنهم أو لعدم تورطهم في الجوانب الأمنية.
 
الضفة الآن تمقت هذا الشيء الظلامي داخلها و المسمى سجوناً… فالسجين فيها كان حتى حين قاهراً للاحتلال بأنفته و كبريائه، والسجان فيها اليوم سجين الاحتلال وراء البوابات ، نابلس راقبت هذه الثنائية المنسوجة بخيوط سخرية القدر و إرادة ربي تعالى جده، فأمام سجن الجنيد أقام الاحتلال حاجزاً لـ” تنضب” أجهزة الأمن داخل السجن وتمسي سجينة إلى جوار 120 أسداً رابضاً في هذا السجن.

 الضفة لا زالت تذكر سجون المقاطعات فيها ( وهي تلك السجون التي كانت تقام في مقاطعة كل مدينة فلسطينية) حينما ملأها الاحتلال شباباً زاهرين بأعمارهم لتذبل في تلك السجون، وما إن أقبل طيف السيادة المزيف حتى أملت الضفة بأن نمارس السيادة على الأقل بالتخلص من سجون الاعتقال السياسي، ويبدو حينها أن تفاؤلها كان في غير محله، فعادت تلك السجون لتكبر و تزهر بأعمار المعتقلين الذين لم يخرجهم منها إلا زئير الانتفاضة الهادر من قلوب المناضلين الشرفاء، وعدنا نأمل مع الضفة بأن تكون تلك الصفحة قد طويت وأن تلك الحكاية قد محيت وأن صغارنا سوف لن يذكروها بعد اليوم … وأخطأنا مرة أخرى فالأوكار التي تسلم منها الصهاينة عشرات المعتقلين الشرفاء تعود لتبنى في بيتونيا و رام الله من جديد.

الضفة الآن تذرف من العين مقلتها ومن القلب مهجته ومن النفس روحها ، لا ترمي نظرها في زاوية إلا ووجدت الظلم مخيماً ، فشبابها المقاوم يضرب ويلاحق و يدعى لتسليم سلاحه ومن يرفض منهم عزة و كبرياءً يضرب مرة أخرى ويشد عليه الخناق، وشبابها المتعلم الذي بث في شوارعها الحركة والنهوض يربض في سجون تكرر التاريخ للمرة الثانية وعلى شكل ملهاة مضنية ….الضفة تغرق في دخانها و حرائقها، وتنتظر نوراً من الله يحفظها و يحفظ فيها الأقصى من أن يهان والتاريخ من أن يباع.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات