الأسـرى.. بعد الأربعين ؟

الخامس من حزيران عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين يوم أسود في تاريخ الأمة العربية ، يوم أن بدأت فيه ” إسرائيل ” بشن هجومها العسكري ضد الجيوش العربية وخاصة مصر والأردن وسوريا ، وبعد ستة أيام فقط انتهت الحرب بانتصار لإسرائيل ، وهزيمة مذلة للجيوش العربية وصفت بالنكسة ، ونتج عن ذلك احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وبذلك أحكمت سيطرتها وأكملت احتلالها لفلسطين التاريخية ومقدساتها ، بالإضافة لاحتلالها لشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية .
ومنذ ذلك التاريخ الأسود ارتكبت ـ ولا زالت ـ قوات الاحتلال الإسرائيلي الفظائع والجرائم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل ولم تستثنِ أحداً منه ، ومارست بحق هؤلاء أبشع ما يمكن أن يتخيله العقل البشري من إبادة وقتل جماعي وقتل بدم بارد وإعاقات مستديمة ، وتشريد وقهر ، ظلم واضطهاد ، اعتقالات وتعذيب ، تهجير وهدم بيوت وابتلاع آلاف الدونمات وأخرى مُسحت أو أتلفت ما عليها من زرع وشجر ، وأقامت مئات ، والمواطن الفلسطيني أصبح ينام و يصحو على مشاهد الموت والدمار ، ويقضي جزءاً من يومه في تشييع جنازات الشهداء ، وجزءاً آخر في التنقل بحثاً عن لقمة العيش الأساسية له ولأطفاله ، وجزءاً لا بأس به على مئات الحواجز المميتة والمذلة التي أُقيمت لتقطِِّع أوصال الوطن .. هذا هو الحال المؤلم البائس المرير للشعب الفلسطيني .
ومن رحم المعاناة وكرد طبيعي على الهزيمة النكراء وعلى الاحتلال وممارساته ، نشأت حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية ومن ثم حركات إسلامية مقاومة، وهذه المقاومة تجيزها وتشرعها كافة القوانين والأعراف الدولية، بهدف مقاومة الاحتلال وتحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة ، وحظيت فصائل المقاومة بالتفاف ودعم جماهيري ، فاتسعت رقعتها وتصاعدت عملياتها ، واستطاعت أن تلحق بالعدو الإسرائيلي خسائر بشرية ومادية فادحة ، وفي محاولة يائسة لقمع هذه الظاهرة ولجعل الجماهير الفلسطينية تنفر منها وتبتعد عنها ، لجأ الاحتلال بالإضافة لممارساته الدموية الأخرى إلى إقامة سلسلة من السجون ورثها عن الانتداب البريطاني والحكم الأردني بعد حرب حزيران وتم توسيعها عام 1970م وبظروف أكثر قسوة ، ولجأ إلى اعتقال العديد من المواطنين و الشخصيات الوطنية ، وكل من يشتبه بأن لهم علاقة بالمقاومة من قريب أو من بعيد .
وفي وقت لاحق بنى الاحتلال الإسرائيلي عدداً من السجون والمعتقلات بمواصفاته الخاصة الأكثر قمعية والأشد قسوة وحراسة ، كسجن بئر السبع ونفحة الصحراوي ومعتقل أنصار3 في النقب وسجني جلبوع و ريمون حتى وصل عدد تلك السجون والمعتقلات إلى ما يقارب من ثلاثين سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف .
ومنذ ” نكسة ” حزيران عام سبعة وستين ولغاية اليوم ، أي بعد مرورً أربعين عاماً لم تتوقف الاعتقالات ، ولكن خطها البياني سار بشكل متعرج ، إلاَّ أنها لم تقتصر على فئة أو شريحة محددة ، فاستهدفت كل ما هو فلسطيني بدءاً من الطفل ذوى الثانية عشر من عمره والشاب و الفتاة ومروراً بالمرأة الحامل والطبيب، بالمحامي والعامل ، بالطالب والنائب والوزير ، وصولاً للشيخ العجوز ذي الخامسة والسبعين عاماً ، وليس انتهاء بالمعاق جسدياً ونفسياً و مرضى القلب والسرطان ..
الأسـرى بالأرقـام
وبالأرقام وحسب تقديراتنا اعتقلت قوات الاحتلال منذ العام 1967 وحتى الآن قرابة سبعمائة ألف مواطن بالإضافة لآلاف المواطنين العرب ، منهم قرابة ستمائة وثلاثين ألف منذ حزيران 1967 وحتى أيار 1994 ( بمعدل 1950 شهرياً ) ، لكن نسبة الاعتقالات انخفضت بشكل ملحوظ بعد قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية في أيار 1994 وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في بعض المناطق الفلسطينية ، إلى قرابة عشرة آلاف مواطن ( بمعدل 160 شهرياً ) ، لكنها عادت وارتفعت بشكل كبير خلال انتفاضة الأقصى ( 28 سبتمبر 2000 – 28 مايو 2007 ) حيث سُجل خلالها اعتقال ستين ألف مواطن ( بمعدل 750 شهرياً ) لاسيما من الضفة الغربية حيث يتواجد في بعض مناطقها الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر والبعض الآخر يمكنه اجتياحها في أي وقت ، في حين أنهى وجوده العسكري في قطاع غزة أواخر عام 2005 ، لذلك فإن الغالبية العظمى من المعتقلين الموجودين الآن ( 85.1 % ) هم من الضفة الغربية .
و يوجد الآن قرابة ( 10500 ) أسير في سجون الاحتلال منهم 310 طفلاً و116 أسيرة ، ومن هؤلاء ( 65 ) أسيراً أمضوا أكثر من عشرين عاماً ولا زالوا في الأسر وأقدمهم الأسير سعيد العتبة المعتقل منذ ثلاثين عاماً .
وخلال العقود الأربعة الماضية لم تتوقف الاعتقالات ، كما لم يطرأ أي تحسن جوهري على طبيعة السجون وظروفها أو طبيعة معاملة السجانين للسجناء والمعتقلين وفق ما تنص عليه كافة المواثيق الدولية وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة الأسرى أو تلك الخاصة بمعاملة الأشخاص المدنيين وقت الحرب ، بل بالعكس كلما بني سجن جديد تجده أكثر قسوة من سابقيه ، ومع مرور السنين تتصاعد الهجمة الشرسة ضد الأسرى لتطال حياتهم الخاصة و تمس بكرامة وشرف الأسير وأهله .
لكن هذا كله لم ولن يساهم في تحقيق أهداف الاحتلال المرجوة من وراء الاعتقالات والمتمثلة في القضاء على وطنية الأسرى وثوريتهم ، وتحويلهم إلى عالة على ذويهم وشعبهم ، فالشعب الفلسطيني لم يعد يخيفه الاعتقال ولا كثرة السجون ، وللدلالة على ذلك فإن عشرات الآلاف من الفلسطينيين اعتقلوا عدة مرات .
الأسـرى.. معاناة متواصلة
أربعون عاماً مضت على ” النكسة ” واحتلال إسرائيل لباقي فلسطين ، والاعتقالات لا زالت مستمرة .. وقضية الأسرى تكبر وجرح يتسع شرخاً ، وأرقام تتصاعد وتتفاقم ، وتجارب وحكايات تتراكم ، وأطفال تكبر في السجون ، وأمهات تلد وشيوخ وشبان تتوفى خلف القضبان .
أربعون عاماً مضت والأسرى مستهدفون من إدارات مصلحة السجون المتعاقبة فهي تحدد لهم النوم وساعاته ، كمية الهواء وساعات التعرض للشمس ، كمية الغذاء وقيمته ، تحدد لكل منهم ماذا ومتى يقرأ ، ومتى وكيف يمكن أن يرى أهله ، كما تحدد لهم طبيعة العلاج وتوقيته ، ولون الملابس ونوعيتها و … إلخ .
أربعون عاماً مضت تعالت خلالها أصوات لخفقات قلوب أدماها الحرمان والقهر، وذُرفت فيها دموع الحزن من عيون أمهات وزوجات وأطفال الأسرى لتغرق الأرض وتصنع أنهاراً وتروي عشباً أخضراً نبت وترعرع بين شقوق الصخور .
أربعون عاماً مضت تعمدت ” إسرائيل ” خلالها بمعاقبة ذوي الأسرى و الشهداء ، فاعتقلت أمهاتهم وزوجاتهم وهدمت بيوت عائلاتهم ، وعاقبت الإنسان بعد موته فاحتجزت المئات من جثامين الشهداء في مقابر الأرقام ، وحرمت ذويهم من إكرامهم ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية.
أربعون عاماً مضت وقوات الاحتلال مستمرة في توسيع سجونها ومعتقلاتها ، مستمرة في انتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان الفلسطيني الأسير ضاربة بعرض الحائط اتفاقيات جنيف وكل المواثيق الدولية بعرض الحائط مستغلة الصمت العربي الرسمي والتخاذل الدولي .
أربعون عاماً مضت نجح خلالها الشعب الفلسطيني في أسر عددٍ من الجنود الصهاينة ومبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب ، وحاول مراراً أسر واختطاف آخرين … لكنه فشل في تحويل ذلك ليصبح ظاهرة مستمرة ، وبالتالي فشل من الحد من عدد السنوات التي يمكن أن يمضيها الأسرى داخل سجون الاحتلال ، كما وفشل في تبييض السجون ولو مرة واحدة ، ولهذا هناك أسرى معتقلون منذ أكثر من ربع قرن .
أربعون عاماً مضت والقدس لا زالت محتلة ، وأبناؤها الأسرى لا زالوا مهمشين ، فاستثنتهم صفقات التبادل المختلفة وتجاهلتهم الاتفاقيات العديدة ، والأمر نفسه ينطبق على الأسرى من المناطق التي احتلت عام 1948 .
الأسـرى .. تاريخ مبعثر وقضية تتأرجح
أربعون عاماً مضت ، فشل خلالها الشعب الفلسطيني بمؤسساته المختلفة في امتلاك سجلٍ كاملٍ لمجمل أو معظم حالات الاعتقال ، أو سجلٍ دقيقٍ لشهداء الحركة الوطنية الأسيرة ، كما فشل ولحتى اللحظة في اعتماد خطة استراتيجية تعتمد على العمل التراكمي التكاملي لتوثيق تاريخ الحركة الأسيرة ، هذا التاريخ الذي حمل في طياته آلاف التجارب والقصص والحكايات ومئات من معارك الأمعاء الخاوية والخطوات النضالية ، وجزء منه أسير في ذاكرة الأسرى المحررين القدامى ، الذي أخشى برحيلهم عن الدنيا أن يرحل معهم جزءٌ من ذاك التاريخ الهام.
أربعون عاماً مضت وأجيال الأسرى المتعاقبة تضحي بسنوات أعمارهم وزهرات شبابهم وتقدم الغالي والنفيس من أجل فلسطين كل فلسطين باعتبارها قضية عربية إسلامية مقدسة ، وتناضل من أجل تشييد مجتمع فلسطيني يسوده المحبة والتسامح والتكافل الاجتماعي والوحدة الوطنية ، باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من شعبهم ، وقضيتهم تقف على سلم أولوياته و تعتبر قضية مركزية بالنسبة لشعبهم الفلسطيني ، لكنها أحياناً تهبط بضعة درجات ، و تُستبعد من على أجندة فصائله وقادته السياسيين ومؤسساته الحقوقية والإنسانية ، وأحياناً أخرى تغيب بالكامل من اهتمامات الأمتين العربية والإسلامية .
الأسـرى .. و الاقتتال الداخلي
أربعون عاماً مضت ، كان يعتبر خلالها الشعب الفلسطيني الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني خطاً أحمر ، لكن وللأسف لم يعد كذلك ليصبح خطاً أبيض أو خط مشاة ، وبالتالي فان ما حدث في قطاع غزة ، كان مؤلماً لعموم الشعب الفلسطيني ، والذي نأمل أن يكون عابراً ولن يتكرر ، لكنه بكل الأحوال أثر سلباً على الأسرى ومعنوياتهم وفاقم من معاناتهم ، فهم لم يضحوا من أجل وطن يتشاجر فيه الإخوة ويتقاتل فيه المقاتلون .
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...

السفير الأمريكي في إسرائيل يجدد دعم واشنطن لتهجير الفلسطينيين من غزة
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام جدد السفير الأمريكي لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي مايك هاكابي، دعم واشنطن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، رغم...

جيش الاحتلال يعلن استعادة رفات جندي قٌتل في اجتياح لبنان 1982
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، استعادة رفات جندي إسرائيلي من الأراضي السورية في عملية وصفة بالخاصة....

مسيرة احتجاجية في ستوكهولم تنديدا بالإبادة الإسرائيلية في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام انطلقت في العاصمة السويدية ستوكهولم، السبت، مسيرة احتجاجية تنديدا بقرار إسرائيل توسيع الإبادة على قطاع غزة. ووفق الأناضول؛...

1500 مواطن فقدوا بصرهم جراء الإبادة في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام كشفت وزارة الصحة الفلسطينية أن نحو 1500 مواطن فقدوا البصر جراء حرب الإبادة، و 4000 آخرون مهددون بفقدانه؛ مع نقص...

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، حملة دهم واعتقالات في عدة مناطق في الضفة الغربية المحتلة، تخللها...

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...