السبت 10/مايو/2025

أول الغيث…هايَرْكون

رشيد ثابت

في “هايَرْكون” لا توجد قنوات صرف صحي تتلوى على سطح الأرض كالثعابين كما هو الحال في مخيم “إربد” للاجئين الفلسطينيين في شمال الأردن؛ ولا يسكن الناس في علب من الاسمنت والصفيح بمعدل خمسة أمتار مربعة من المساحة للفرد الواحد كما هو الحال في مخيم البقعة في عمان…

وفي “هايَرْكون” لا أظن أنهم يوزعون أغطية ثقيلة؛ لأننا الآن على أعتاب الصيف؛ وحتى لو كان الوقت شتاءً فلن تكون الأغطية قديمة مهترئة خارجة من مستودعات جيش عربي ما؛ بعد أن انتهب أفراده على الحدود – بمعرفة ضباطهم – الأغطية الجديدة المستوردة القادمة في قوافل المساعدات وأبقوا للاجئين سقط متاعهم…

أيضا في “هايَرْكون” ربما لم تتطور بعد الثقافة التي تجعل هذا المخيم مستودعا للعمالة غير الماهرة كما المخيمات في لبنان؛ أو مكانا لكل الحرف والسلع التي يأنف ميسورو الحال من غير اللاجئين من وجودها بينهم – محلات بيع الدجاج الحي كمثال – كما هو الحال في مخيمات الزرقاء في الأردن؛ ولا يبدو بعد أن السكان في خيام المحسن الصهيوني “غايدا مارك” – هو إن شاء الله من الذين قال الله فيهم “فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة” – يعانون فعلا وفق الفهم النمطي لقالب اللاجئ فلسطينيا؛ المتهم بأنه فقير “مقطَّع” ولا تفرق معه أكل أم لم يأكل؛ سكن أو لم يسكن؛ تزوج أو تبتَّل؛ فقط لأنه لاجئ!

ولم نر هناك بعد عربات الرش والأطفال من حولها يستحمون بالمطهرات حذر القمَّل؛ ولا السكان يتدافعون خلف شاحنة أضحيات أيام التشريق – أيضا بعد أن انتهب أكثرها ضباط الحدود “ما غيرهم” – حتى يصيبوا مضغة لحم؛ أو قطعة عظم عليه لحم يتعرَّقونه مع طبخة “لبن” سئموا من أكلها معدة مع حساء مكعبات الدجاج!

لكنهم وإن كانوا في خيام نظيفة؛ ولو كانوا في منتزه نظيف وسط تل الربيع – أو ما يعرف صهيونيا بتل أبيب – فإن اللاجئين الصهاينة في مخيم “هايَرْكون” يبقون لاجئين نزحوا من ديارهم – عفوا من ديارنا المغتصبة – وفروا بالآلاف من مغتصبة “سيدروت” القائمة على أنقاض قرية “بيت جرجا” العربية الفلسطينية؛ بفعل الصواريخ الفلسطينية؛ ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني المعاصر!

ستون عاما واللاجئ الفلسطيني يترنح تحت ضربات العدو؛ يهدم ملجأه الأول ليفر للآخر وهكذا دواليك…بعض سكان القطاع بدل بيوته بين عسقلان وغزة 56 وغزة 67 وغزة 71-72 – أيام فورة نشاط الهالك شارون – وغزة 2002 مرات ومرات! وإن نسي العدو الصهيوني تدمير بيت اللاجئ للمرة الرابعة أو الخامسة تدخل جيش عربي شقيق لتنفيذ المهمة من الوحدات إلى نهر البارد!

ومع ذلك؛ ومع فرحتنا بأول الغيث لأول مرة؛ ومع تحقق أول نكاية معنوية لنا في عدونا من جنس ما عاقبنا به ستين عاما – واضح أغنية فيروز عن اللاجئ “عشرون عاما وأنا أحترف الحزن والانتظار” قد انتهى أمدها – تجيء أصوات الإرادة المستلبة؛ والهزيمة الحضارية؛ وأزمة الهوية لتصف صاروخ القسام – كأداتنا الأقوى للنيل من العدو – مرة بأنه ماسورة؛ وتارة بأنه عبثي؛ وحينا بأنه أحمق! وتصر على المقاومة أن توقف إطلاق هذه الصواريخ وأن تدع خيار الكفاح المسلح قولا واحدا!

في معرض سخريته بعرض عتبة بن ربيعة المُلك والمال على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليترك الدعوة إلى الله؛ سطر الإمام الداعية المعاصر المرحوم الشيخ محمد الغزالي في مقدمة كتابه “فقه السيرة” أروع رد على هذا التطاول الوقح الذي وزن المال بالكعبة؛ والملك الأرضي بالصلاة؛ ورضا قريش برضا الله؛ فقال: “إن عتبة – باسم قريش – يريد أن يترك محمد عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى الله وإقامة العدالة بين الناس. ماذا تصير إليه الحياة لو أن صخرة من الأرض انخلعت عنها وصعدت إلى دارات الفلك تطلب من الشمس أو أي كوكب آخر أن يقف مسيره وإشعاعه، ويحرم الوجود من ضيائه وحرارته!!؟ ألا ما أغرب هذا الطلب؟ وما أجدر صاحبه أن يرتد إلى مكانته لا يعدوها! ولذلك بعدما استمع عتبة إلى آيات القرآن توقظ ما كان نائماً من فكره، استمع إلى الوعيد يهدر فيحرك ما كان هاجعاً من عاطفته: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}…لقد وضع عتبة يده على جنبه وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمداً وشأنه!!”

انتهى الاقتباس من العلامة الغزالي ولم تنته حسرتنا؛ فاستئصاليو فلسطين يفتقرون لحكمة وضمير عتبة بن ربيعة الجاهلي؛ وهم لا يمكن أن يروا بعين البصر أو عين البصيرة فداحة الجرم الذي يرتكبونه في حق فلسطين وحق شعبها؛ من حيث يصرون على الوقوف في وجه إرادة الصمود الفلسطينية؛ ويصرون على بذل كل الأسباب في وقف صواريخ القسام والنيل منها!

وإن صح ما نقلته صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن المحلل السياسي الصهيوني “إيهود ايعاري” من أن حماس رفضت عرضا فتحويا – كما جاء في نص الخبر – يقوم على منح السيادة على الأجهزة الأمنية والمواقع السيادية في السلطة مقابل وقف قصف سديروت؛ إن صح هذا فقد بلغ بعض ساسة فلسطين نهاية الأرب في الانسلاخ من فلسطين!

يا عارهم إذا يا “إيعاري”! يا عارهم وصغارهم!

هلا استمعوا لرئيس بلدية سيدروت “إيلي مويال” وهو يحذر من سقوط المشروع الصهيوني برمته بفعل صواريخ القسام؟ أم أن “إيلي” إخواني حماسي وعميل لإيران؟ عذرا على هذه السفسطة السوريالية؛ لكن من يرفض أن يمنح “القواسمة” حقه في إدارة أجهزته ووزارته بالمنطق وبحق الديمقراطية والأخوة والوحدة الوطنية؛ ويفكر في ذلك فقط حرصا على “سيدروت” ودوره في التنسيق الأمني – من يفعل ذلك فإنه يمكن أن يقبل عقله أية مقاربات وأية توازنات “خنفشارية” من هذا النوع!

أتمنى للابن الضال أن يعود لأبيه وأمه؛ وللعضو الفاسد المتقيح في الجسد الفلسطيني أن يبرأ من علله الوطنية ويشفى من أسقامه المعادية لثوابت الأمة؛ لكنني بصراحة لست متفائلا أنه سيفعل…أقول ذلك من خلال استقراء المواقف والأفعال؛ ويبدو أنه حتى بعد أن ينفض السامر؛ ويطفئ المجاهدون في فلسطين ريب الاستكبار؛ ويقتلوا وساوس الاحتلال الصهيوني من كل شبر في هذه الأرض؛ ربما سيقف هؤلاء المهزومون؛ معنا على شاطئ البحر في يافا ونحن نحصي حينها – إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا – عشرات أفواج العبارات والسفن والقوارب تنقل شذاذ الآفاق إلى حيث ينتمون من روسيا إلى “بروكلين”؛ ومع ذلك سيجد هؤلاء الحجة تلو الحجة للتمنع والمناكفة والمهاترة الخرقاء بفشل المقاومة وعبثية الصواريخ؛ وأولوية التسوية كخيار نهائي ووحيد لحل مشاكل الشعب الفلسطيني!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات