السبت 10/مايو/2025

عذراً للسيد جمال نزال ولكن..استقصاف ليست إلا قصفاً للعقول

نور الدين النابلسي

التقطت مقالة السيد جمال نزال الأخيرة بعنوان  استقصاف” العدو لإسكات الصديق و قد أدهشني منهجها و كيفية تعاطيها مع وقائع الأمور و مجرياتها، و لعلني أحتسب له أولاً تسجيل فتح جديد في العربية باشتقاقه للفعل (استقصاف) …وهنا لم أقف عند حدود الدهشة بل وجدتني أتعداها إلى الرد ومحاورة كاتبها في المحاور التالية مع الاحترام له طبعاً.

  “استفعال .. استقصاف …استعطاف”.

علمنا أساتذة العربية في الزمن الأول أن الأفعال المتعدية على وزن استفعل تجيء في سياق استجلاب الفعل من فاعل آخر، فاستعطاف هي استجلاب العطف من الآخر، وكأني أرى جل ما يريده السيد نزال من أدوات النضال الفلسطيني أن تكون استعطافاً للآخر و استجلاباً لنوايا سلامه التي لا تأتي!!

وقبل الخوض فيما توارد إلى الخاطر في باب محاورة الدكتور نزال بالكلمات والأفكار كما يحب دائماً أن يفعل، أجد من الحيوي أن أمر على منهجية السيد نزال في مجمل عمله الإعلامي ومن ضمنها مقاله الأخير، وفي ذلك يجدر ملاحظة الآتي:

1- التصوير المسطح في المفاهيم و الإستراتيجية و التكتيك الذي يطرحه الدكتور نزال فيبدو أن السياسة لديه ثنائية الأبعاد ليس فيها بعد ثالث و لا رابع، فالانتخابات التشريعية 2006 أفرزت نتائج تتعلق بفشل و انشغال فتح فقط، وكأنها (أي فتح ) لم تواجه إلا أشباحا أو سراباً لا منهج ولا برنامج لديه، لدرجة أنه قولب الناخب الفلسطيني في إحدى المرات ( بإم مسعود وقد تركت لقن العجين وذهبت لتصوت!!) فكل ما يحويه الشعب الفلسطيني من طلبة و أطباء و أساتذة ..الخ أصبحوا في الانتخابات أم مسعود!! ولن أسترجع من السابق أكثر من ترداد الأستاذ الكريم لتكتيك (السلام الجالب لوجع الرأس لإسرائيل) وأنا أتمنى منه أن يفهمنا و يتحفنا ما وجع الرأس الذي أصاب مستوطنات إسرائيل في سنوات أوسلو و ما وجع الرأس الذي أصاب تهويد القدس في سنوات أوسلو وما وجع الرأس الذي أصاب قتلة إسرائيل في سنوات أوسلو؟؟؟؟

2- يعجبني السيد نزال في تفننه بإدراج الافتراضات و التكهنات (بل و لعلها الإشاعات) في سيل حديثه وكأنها حقائق واضحة لا غبار على سندها ولا نقاش في صحتها ، والأنكى أن مجمل المنطق التالي بعد ذلك يبنى على هذه ( سنسميها توافقاً الأشياء)!!

وقبل دخولي إلى صلب الموضوع وفي سبيل استدلالي على النقطة السابقة ولا أزال هنا أكتب من وقع الاندهاش من ذكر السيد نزال أولاً للضفة الغربية باعتبارها ساحة هادئة داخلياً بفعل سيطرة فتح النسبية عليها، وفي ذلك يؤلمني أن أعيد إلى الزمن الحاضر أحداثاً ( ما صدقنا متى نسينا ألمها و ووقعها)

في بدايات العام و ما قبل اتفاق مكة سجل في الضفة الغربية 168 اعتداءً متنوعاً على مؤسسات و شخصيات الحركة الإسلامية ، وعلى رأسها أربعة حوادث اغتيال مدبرة  منها(اغتيال عمار الطاهر في نابلس ليلة القدر أمام مسجد معزوز، اغتيال محمد عودة وهو ذاهب لصلاة الفجر في قلقيلية) ومعها حوادث حرق طالت 25 مؤسسة منها  مكاتب نواب التشريعي في الخليل الذي أغلقه الاحتلال مؤخراً و 26 حادثة اختطاف أخرى. وليس فيما سبق اختلاق أو تهويل بل هي بمجملها حوادث سجلت ونشرت ووصلت حد القتل … وأضيف لذلك وببالغ خجلي سلسلة حوادث أخرى تجددت مع آخر أيام الاقتتال الأخير في غزة التي اتخذت هذه المرة موضة الإحراق لتطال رابطة أدباء بيت المقدس وجمعية التطوير و الازدهار في نابلس. فهل يعتقد الكاتب المحترم أن الأربعة المغدورين إذا صفحت أجواء الوحدة و الوفاق عن دمائهم فستطوي ذكراهم؟؟

وأكرر هنا أسفي للسيد نزال بأن أنحدر في حوار الأفكار إلى سياق التعداد و التسجيل ولكن فلينصفني في هذه للتدليل على الخلل المنهجي في طرحه للوقائع.

وعود على بدء بعيداً عن العربية واشتقاقاتها “النزالية” وولوجاً إلى جوهر الموضوع ، فيجب أن نفرق و يفرق معنا السيد جمال ما بين وسائل المقاومة وأدوات النضال الوطني المختلفة والمتنوعة وما بين توقيتات استخدام كل منها.

وفي ذلك يجب التأسيس بأن مسألة الحق في استخدام كل الوسائل بما فيها الصواريخ هي مسألة إستراتيجية جوهرية لا مجال للمساس بها أو انتزاعها ليس لأن ذلك مساس بحماس أو غيرها وإنما لما يشكله هذا من مساس بجوهر النضال الوطني و موروثه التاريخي، فإذا قلنا اليوم أن الصواريخ مشكلة فهذا يعني أن كاتيوشا م.ت.ف في القرن الماضي  كانت أيضاً مشكلة، وإذا قلنا غدا أن العمل الاستشهادي مشكلة فهذا معناه أن كل شهداء فلسطين كانوا مشكلة. إذن الحق الجوهري مسألة إستراتيجية تصب في خانة ضمان استمرارية الكفاح و النضال الوطني وحيويته و اتساع أفقه.

وبناءً على ما سبق تبقى مسألة التوقيتات مسألة تكتيكية تتعلق بمدى تلبية هذه الوسيلة أو تلك للمصلحة الوطنية، ومن هذا الباب لا نقبل من السيد نزال أن يزج بالمقاومة كمشروع في معرض حديثه عن المقاومة كتوقيت.

وبالانتقال إلى جزئية التوقيتات، أعتقد أن الدكتور جمال لم يكن مقنعاً إطلاقاً في تسخيره لهذا الجزئية في سبيل الهجوم الحزبي و التنظيمي على حماس، فأصلاً موجة التصعيد الأخيرة ( التي لن أرجعها للاحتلال الصهيوني فهذه ليست حجة في نظر البعض!!) كانت قد بدأتها كتائب الأقصى – أحمد أبو الريش و كتيبة المجاهدين وسرايا القدس، ولا أقول ذلك هنا بهدف تسجيل المواقف عليهم ، بل تسجيلها  لهم ولنرفع القبعة احتراماً و تقديراً لدورهم في توجيه البوصلة دوماً نحو المحتل. فإذا كانت تهمتهم هنا أنهم خرقوا إجماع القاهرة ، فالإجماع الميداني ماثل أمام الجميع ومفحم للجميع فلم ينفرد أحد هذه المرة بمسألة الصواريخ، بل إنها من المرات المعدودة التي يتشارك فيها الطيف السياسي اللوني الفلسطيني عبء الرد على تصعيد العدو، وذلك أيضاً يحسب لهم ويا ليتهم يكررونه.

وما هو المنطق هنا؟؟؟ ما هو المنطق بأن تستقصف حماس إسرائيل لتفقد خيرة كوادرها و قياداتها؟؟ ما هو المنطق في أن تخسر حماس ثمانية شهداء من عائلة واحدة؟؟ ما هو المنطق في أن تنزل كل قيادات الحركة الميدانية والسياسية ( أو مثل ما يقول المثل الشعبي الكبير و الصغير و المقمط في السرير) إلى تحت الأرض؟؟؟ أكل ذاك من أجل الحسابات الضيقة…طيب ( لاحق العيار لباب الدار) وما هو منطق الحسابات الضيقة التي لا يدركها بسطاء مثلنا؟؟؟  

ويعود السيد نزال هنا ويسطح من التكهنات ما شاء حقائق… فموقف الفصائل اختزله بأنه ضد خرق اتفاق القاهرة…ولعله من البديهي أن يعي أن لا جزئيات منفصلة في التكتيك السياسي، فليس اتفاق القاهرة ببعيد عن التهدئة الفلسطينية الإسرائيلية، بل إنه يذكر في أحد بنوده أن للمقاومة الحق المطلق في الرد على العدوان الإسرائيلي، وأعود لأكرر أن موقف الفصائل قد تحدث عن نفسه فيما نشهده في الميدان من تقاسم لعبء المقاومة وليس تقاتلاً لتزيد أعباء المواطن.

( السرد و ذاكرة لا تنسى!!)

أكثر ما يزعجني هذه الأيام سعي البعض لترداد وسرد أحداث الفترة الماضية ، ويا ليت ذلك من باب استلهام العبرة ووعي العظة،وإنما من قبيل استدخال حلقة الاتهامات المفرغة التي لا تجلب إلا توتيراً و احتقاناً  مقيتاً. والكثيرون ممن أراهم يردون على هذه السرديات بأن دعونا مما مضى ولنحقن الدماء ولنصفح و لنتجاوز.

وأنا من باب خالف تعرف سأقول للسيد نزال بأن دعنا نكمل معك طريقك في نكء الجراح و إعادة إنتاج الأحداث، ولكن ( ويا لهذه اللكن!!).. ولكن فليكن كل ذاك أمام لجان تحقيق رسمية مسؤولة تخرجنا من سياق هذا الشحن المتكرر الذي لا يرد الضحايا و لا يكشف الحقائق، ولكن فليكن كل ذاك أمام لجان تحقيق رسمية مسؤولة تفتح كل المغلق و تكشف كل المستور ، ولا تقف عند آخر الأحداث فقط….فلتقل من قتل اللواء موسى عرفات وسحل جثته في الشارع منتصف الظهيرة ، فلتقل من أفرغ الرصاص في جثتي د.حسين أبو عجوة و الداعية ناهض النمر، ولتقل من قتل الصحفيين سليمان العشي ومحمد عبده وأولاً لأكون منصفاً فلتقل من قتل الضحية بهاء أبو جراد الذي حتى الآن لم أسمع من السيد نزال ذاته مطالبة بتحقيق رسمي في حادثة مقتله.

لم تترك العرب شيئاُ إلا وتمثلت به ، وقد قالوا في المثل ( قالوه غافيلك …قالوه صاحيلك) ، ولست بهذا المثل أصف نفسي بل أصف كل أبناء شعبي ممن لا يهضمون الأشياء إلا بعد شمها و ذوقها والتمعن والتفكر فيها فعقولهم حصينة على قصف السيد جمال نزال، و

” استقصاف” ليست إلا قصفاً لم يتعد حدود التحصينات العقلية و المنطقية في القياس.

خلاصتي هي أن الخطاب لا يطلق على عواهنه و مع أن الاختلاف لا يفسد للود قضية إلا أن توهم غياب أية أرضية لدى القارئ تمكنه من التمييز بين الغث و السمين هو خطأ لا ينبغي أن يقع فيه شخص يكتب لأجل الحقيقة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات