الخميس 08/مايو/2025

مع صقر فلسطين الخالد

أسامة العربي

(1)

الشهيد عبد العزيز الرنتيسي أمة في رجل ، كرس حياته في سبيل الله فحفظ الله ذكره ورفعه بين الأنام ، سنة الله في الأولين والآخرين وقد مضت على الشهيد الحي ،ما زال وسيبقى اسم الرنتيسي بما يمثل من صلابة رافعة لهذه الأمة ،وستبقى مواقفه الرائدة وفكره الحي الذي يشع بالإيمان معينا لا ينضب لهذه الأمة ،ولن يكون عبد العزيز يوما بالقائد العابر على مسيرة وتاريخ هذه الأمة ، فمواقفه وأصالة أفعاله ستُبقي أفكاره منارة تهتدي بها أمم الأرض كلها ، ورغم الاضطهاد والاستبداد الصهيوني الذي سعى لإجهاض ريادة هذا الفكر ،استطاع الرنتيسي انتزاع هذه الريادة من بين مخالب الصهيونية ،وذلك بما تًمثًلًهُ من فهم لا تشوبه شائبة لدين قيادي لم يوجد للانزواء عن الواقع في كهوف التخلف ،بل ليمد الامة بالطاقات الفاعلة للنهوض والخلاص من كل القيود التي كبلتها ، الرنتيسي قيادة فكرية حددت معالم الطريق بدقة متناهية واستشرفت المستقبل ،وعملت على بناء وعي تام بآفات المجتمع ،وكحال كل القيادات المخلصة والتي تغتنم كل ومضات الوعي وتستثمرها خير استثمار لم يكتف الرنتيسي بتشخيص أمراض المجتمع بل وضع لها الحلول للوصول لنهضة شاملة ،عمل على تعزيز الومضات وتحديد الغايات ودفعها على سكة الوسائل ، استنفار جل الطاقة الفكرية لم يشفع في الإحاطة بفكر القائد من كل الجوانب ، لكن بمجرد الاقتراب من هذا الفكر تنقلك همة القائد الى التحليق بفضاء رحب ،فضاء الرنتيسي الذي لا تحده حدود ، تمتد إليك يداه لترفعك اليه ،انها مهمة القادة العظام .

في كل مرة يجدد المرء التحليق مع افكار الرنتيسي والذي عبر عنها بمواقف او بفكر خطه قلمه قبل ترجله يكتشف أبعادا عميقة لهذا الفكر الرائع وبمجرد العودة يتشوق للاطلاع على هذا الفكر، وتغريه الزهرة التي خرج بها من حديقة افكاره النيرة للعودة اليه مرارا وتكرارا ، ولهذا جمع هذه الأفكار من مقالة وشعر ومواقف في كتاب يعتبر انجازا تربويا للأجيال القادمة ،ورافعة للنفوس تمدها بالعزيمة والأمل للوصول إلى الغايات في كل زمان ،
وأرجو العفو على عدم الإحاطة إلا باليسير من أبعاد هذا الفكر في هذا التحليق .

مزايا قيادية تندفع جملة واحدة مع كل اقترابك من فكرة ما او موقف ما ، واذا ما أخذت بُعد الفكرة الزماني والظروف المكانية في الحسبان لا بد وان تلمس مدى تلبس الحكمة لهذا الموقف او هذه الفكرة ، ببصيرة القيادة الثاقبة الواعية للمحيط وتعقيداته يطرح الرنتيسي _ رحمه الله وأسكنه فسيج جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اؤلئك رفيقا _ الفكرة أو الموقف بطبيعة قيادية تحمل عنوان الفاعلية في هذا الوسط .

لقد انشغل الرنتيسي بالاجابة على سؤال كيف نخرج من تيه الاحتلال الى نور الحرية ؟وكرس طاقاته للاجابة على هذا التساؤل ،ولم يكتف بالاجابة النظرية على هذا السؤال ،بل تعداها الى العملية وغالبا ما كان القائد الميداني في الرد على هذا السؤال، وهنا يكمن الأثر الذي خبره الرنتيسي بين القيادة في بروجها العاجية والقيادة التي تلتصق بالشعب ومتطلباته اليومية حتى يمكن استثمار طاقاته في تحقيق الأهداف ،وكانت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم المشعل الذي حمله الرنتيسي في قيادته ، فاتجه أول ما اتجه الى الذات الفردية يخلصها من قيودها الداخلية اولا ،فجعل الخلاص من الركام الذي خلفه الكيان الصهيوني في المجتمع الفلسطيني اولوية اينما وجدها وفي كل زمان ومكان، الركام الذي خلفه ببطشه وجبروته ،ولنا في الموقف الذي ساقه بمذكراته عن توقيفه في عام 1991 خير مثال ، فقد تخوف الرنتيسي من أن تملأ الرهبة نفوس بعض الأسرى نتيجة لمدى البطش الصهيوني والذي جسده ضابط ويدعى “شلتئيل” ، فلم يقم فيهم خطيبا معنفا ولا منظرا بشعارات رنانة ،بل مع أول فرصة اجتماع بهذا الضابط بناء على طلب الأسرى للمطالبة بحقوقهم عمد الرنتيسي الى التخلص من هذا الركام النفسي ،ومع دخول الضابط امتنع الرنتيسي عن القيام له بموجب ما يقتضيه البروتوكول في السجن ،ومتجاهلا أي عقوبة يمكن أن يوقعها المتغطرس الصهيوني بحقه ،وسارع بحلف يمين مغلظ كي لا يكون هناك مجالا للتراجع ، فكر حمل همّ الآخرين ، جعله يقدم على فعل بدون حسابات شخصية بل سيطر هم المجموع على كيانه فاندفع به لتحقيق هدف سام ، مثال القيادة المدركة للحاجات الملحة في الواقع المحيط به ،وسلوك ينبع من مشكلات المحيط ، ترجمه عملية للمعاني الدقيقة للثقافة ، مثال القيادة المدركة للحاجات الملحة في الواقع المحيط به ،وتجاوز منطق الفكرة التي يعلمها الجميع من حوله ويعلم شعاراتها الى منطق الفاعلية والعمل الذي يؤسس لبناء الفرد ،وللمرء أن يتخيل فيما لو قام الرنتيسي خطيبا بين الأسرى يشد من أزرهم وعلى ارض الواقع وقف الرنتيسي للضابط وامتنع غيره عن القيام بناء على شعاراته ، هوة سحيقة لا بد وأن تقوم بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه ، ستكون على غرار الهوة بين قيادات الأنظمة العربية وشعوبها ، والقيادات التي خلقتها الشعارات الرنانة والتي يفضحها السلوك على ارض الواقع .

ولم يكن الرنتيسي يميل الى التبسيط او الى التعقيد على حساب الحقائق ، ففي قضية الأسرى كان فكره النور الذي قاد الفصائل الفلسطينية الى اعتقال الجندي الصهيوني لمبادلته بأسرى فلسطينيين وفي مقال له عنونه ب (( الأسرى على سلم أولويات المقاومة الإسلامية في فلسطين )) قال فيه لا يوجد من خيار ثالث امام المقاومة للافراج عن الاسرى فاما ان تعتقل جنودا لمبادلتهم او تتركهم يرسفون في القيد إلى الأبد والخيار الثاني لا بد من شطبه من الأجندة ، ومع ذلك لم يقلل الرنتيسي من صعوبة الخيار الأول فلجأ إلى المقارنة بين الحركة الإسلامية والظروف المحيطة بها والتي لم يبق لها سوى خيار واحد هو اعتقال جنود صهاينة وبين الظروف التي تحيط بحزب الله والذي عمل على نفس الاستراتيجية التي يتبناها الرنتيسي في طرحه ، فلم يسقط العامل الجغرافي من الحسابات ،ولا فروقات العامل السياسي والذي حظي بموجبها حزب الله على دعم لوجستي شعبي وحكومي في هذه الاستراتيجية ، وضع الأمور في نصابها الصحيح بداية النجاح في الوصول الى الغايات .

والمطلع على المقال المذكور لا بد له من إدراك مدى استشراف المستقبل من المعطيات الحاضرة في فكر الرنتيسي ،يقول في المقال سيعمد الكيان الصهيوني في حالة اعتقال الحركة الإسلامية لأي جندي صهيوني الى المماطلة ، في صفقة التبادل لحين فقدان الأمل في العثور على الجندي الصهيوني بخلاف حزب الله الذي سيسعى الكيان الصهيوني معه لإتمام صفقة التبادل ،واعتمد في هذا التحليل على معطيات تمت في ذلك الحين أبرزها التعاون الأمني مع الكيان الصهيوني والذي كان سائدا في تلك الفترة ، ورغم طرحة للعوائق وضح الهامش ومقداره الكفيل بإنجاح هذا الخيار الوحيد ، رؤية ثاقبة لمستقبل نعيش فصوله في وقتنا الحاضر .

ونلتقي مع زهرة أخرى من حديقة أفكار الرنتيسي مستقبلا إن شاء الله .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات