الأحد 11/مايو/2025

مصطلحات تغزو الفكر العربي

سوسن البرغوتي

يجري التشويه في موضوع التلاعب بالمصطلحات اللفظية المتعارف عليها الدالّة على التوجهات الوطنية إلى ظاهرة مختلفة لا تخضع في كثير من الأحوال إلى الأنموذج المرجو منها كالتزام أخلاقي وسياسي ووطني، بل هبوطاً إلى مستويات متدنية تمهيداً لمرحلة تقبل احتلالاً شاملاً للفكر العربي. ليصبح التداول في بعض المفردات التطبيعية عادياً ومقبولاً، وكأمثلة على ذلك فقد درج إطلاق تسمية جديدة للوطن العربي بـ “المنطقة العربية”، ورغم بساطة استقبال المفردة فهي تهدف لاختراق العقل، وإلغاء صفة العروبة عن الوطن العربي الكبير، تمهيداً لتقبّّل العودة إلى الوراء آلاف السنين، وأن البلاد العربية ليست أكثر من أحياء ومناطق في منظومة الـ “شرق أوسط جديد”. هذا المصطلح ليس بريئاً، بحيث يدل على أن الوطن العربي الكبير لا يشكل وحدة سياسية وجغرافية وتاريخية وثقافية ودينية، بل هو مجزأ إلى مناطق لا تجمع بينها روابط، مما يقود إلى إلغاء هويتنا كأمّة عربية.
وكذلك مصطلحات كثيرة، كالعنف المتبادل مثلاً، وما يعنيه هذا المصطلح من تصادم بين قوتين متكافئتين، بينما الحقيقة غير ذلك تماماً.

أما إطلاق صفة الدولة على “إسرائيل” أو”الدولة العبرية”، وللأسف الكثير من الكتاب الوطنيين، لا يلاحظون أن هذه المفردات من شأنها أن تدجّن وتطبّع فكر الجيل الصاعد، خاصة وأن القنوات الفضائية العربية، أقرت بـ”إسرائيل” كدولة، معترف بها عالمياً. فاُستبدل الاسم الحقيقي للبلد المغتَصب، وحل مكانه بشكل علني على الخارطة اسم المحتل، ولعل ما يجعلنا نستهجن هذه الظاهرة، شطب فلسطين العربية من أذهان وذاكرة الشباب العربي تدريجياً، وبشكل مدروس، وهي عملية ثقافية تطبيعية لمفهوم التعايش مع سالب الأرض وحقوق شعبها، فهل يمكن إلغاء العراق كعنوان لبلد عربي، وتغيير اسمه ليتوافق مع توجهات الاحتلال الأمريكي؟.

“الإرهاب” كبديل للمقاومة، وحتى هذه اللحظة لم يتم تعريف واضح له، واعتبار كل من يتصدى لقوة أمريكا العظمى هو إرهابي، فهل التفجيرات والجثث المتناثرة في شوارع المدن العراقية عمل مشروع، وهل هي محاربة لظاهرة الإرهاب؟، أم أنها حرب على المقاومة المشروعة، ومتاجرة بالأعضاء البشرية مع ملاحظة وجود آثار لقطب طبية على كثير من الجثث.

أما السباب والشتائم والتي تعبر عن مدى وقاحة تصريحات أمثال جنبلاط، بعد تدريبه في المختبرات السياسية الأمريكية، ووضعه تحت شريحة الضوء، لإجراء تجارب على مدى صدقه وولائه لمستقبل التدويل اللبناني، فهي ليست أكثر من نزع القناع الوطني بالكامل، وارتداء قناع آخر، يوجه الاتهامات يميناً ويساراً. وليس بعد دعوته للنظام الأمريكي، بضرب سوريا كبلد عربي، إلا انتهاء فصول ما يدعيه من عروبية حزبه.
تصريح جنبلاط الأخير، والذي تعرض فيه بالهجوم المباشر على حزب الله المقاوم، وأن على الجيش اللبناني أن يصادر شاحنات الأسلحة، وأن يدخل إلى معسكرات تدريب عناصر حزب الله، ولسان حاله، بادعاء أن تلك المعسكرات والأسلحة من أجل انتقاص سيادة لبنان، وفي الوقت نفسه يتغاضى عن توغل صهيوني داخل لبنان، لم يخرج عن إطار ممارسة المصطلحات المبتذلة كزعيم لحزب تقدمي، فهل نسي أن فضاء لبنان وبحره مسرحاً لتهريب السلاح “الإسرائيلي” إلى رفيق دربه جعجع، وهل يظن أن المواطن العربي واللبناني، لا يعرف عن مخازن الأسلحة في قلاع جبل لبنان؟.

على غرار تلك التصريحات التي تطلق العنان لاتهام ومحاولة الطعن بوطنية الجانب الآخر، اعتمد تيار التفريط الفلسطيني بعض الكلمات، أشبه بلكمات موجهة تحديدا للمقاومة الإسلامية كـ “أخوة الشياطين”، و”محاكم التفتيش”، و”الظلاميين طالبان”!، وغاب عنهم أن طالبان كمقاومة للاحتلال الأمريكي، أشرف بكثير من القبول بتسوية رخيصة لمصير شعب يعاني حصارا جائرا، تحت مسميات وحجج واهية. فما تبرير العالم المتمدن الذي يدعي الحضارة، محاصرة الشعب الفلسطيني وتجويعه، بعد تشكيل حكومة وطنية محلية، تضم كل الأطياف السياسية، إلا إنكار وجوده، وحقه كباقي شعوب الأرض في وطنه؟…

الديموقراطية كذلك مصطلح فضفاض، يخفي تحت قناعه الجميل استباحة الأوطان، وهي في الحقيقة مفصّلة على قدر مصالح الدول الكبرى، وصارت أكثر تبريراً لممارسة الحكام العرب طقوسهم القمعية لشعوبهم، فالديمقراطية مسوّقة فقط للشعوب الغربية والأمريكية، كذريعة للاحتلال، إذ لا مجال لتطبيقها في بلدان تقع تحت سيطرة قوات غازية، فماذا يعني فرض منع التجول، واغتيال الصحفيين في العراق، واغتصاب النساء في حضرة الديمقراطية الأمريكية، وهل يمكن لأي محتل أن يمارس الديمقراطية، وهو ينتزع جهاراً استقلال وسيادة الوطن؟.

وفي سياق المصطلحات نتابع تلبيس جوهر القضايا حللاً أخرى، كـ “التهدئة” و”الخطة الأمنية”، تبريراً صورياً وشكلياً للوجه الحقيقي وللهيمنة ولتخدير الشعوب، باستخدام شعارات لا تمت للواقع بأي صلة.المفاوضات..التسوية..الحوار، وموسم الرباعيات، والمفاجآت الموعودة، والإغراءات الشكلية، وتشكيل محور عربي معتدل،كلها تفتح دروباً للقبول الفكري السهل بشروط القوة، وإنكار حق النضال، واستسهال عملية الانتظار، لخطط تفرضها المتغيرات الدولية، وما يسمى بالشرعية الأممية، وما يفرض على كل ما سبق، ضرورة استمرار المواجهة وطرد الغزاة أولاً وأخيراً، فيستحيل التفاهم بين طرفين غير متكافئين، وكل له هدفه.

ما بين سلوكيات الرضوخ ومصطلحات مبتذلة، ظهور الليبراليون العرب، وليسوا أكثر من مرتزقة، تتغير جلودهم حسب المصالح الشخصية والإملائية ومعطيات أي مرحلة، ولكنهم في الوقت ذاته، يشكلون آفة تستشري في جسد المجتمعات العربية، ولعل كما قيل، أن تقتل فرداً فهذه جريمة، ولكن أن تفتك بالفكر وتشوه ذاكرته وتعصف بمبادئه فهذه كارثة إنسانية،  وهي حقيقة تندرج في فكر ومبادئ الحركة الصهيونية لضمان إشاعة ثقافة تلائم إسقاط القيم الأخلاقية، واستبدال اللسان العربي بآخر لا ينتمي إلى أدبيات الشعوب، وصياغة  فكر عليه أن ينسجم مع إمبراطورية تقوم على اللامبادئ ، وتبيح على جميع الأصعدة باسم “الحداثة” الانفلات من القيم الأخلاقية، وهي القيم الطبيعية التي تعرّي الصهيونية من الصفة الإنسانية.

إن التلاعب المشبوه والمقصود والمدروس بالمصطلحات هو غزو للفكر العربي بكل معنى الكلمة، وهي أكثر من أن تحصى وتعد، مما يفرض علينا الحال وواقع المواجهة الوطنية، أن نكون أكثر حرصاً وحذراً، بالعمل على كشفها ومحاربتها، وهذا الواجب شعبة من شعب النضال السياسي.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات