حيرة في إسرائيل: نجتاح غزة … لا نجتاح غزة؟!
صحيفة الحياة اللندنية
لن نستغرب كثيراً إذا ما استبدل بعض المسؤولين الإسرائيليين قريباً مصطلح قطاع غزة بـ”صداع غزة”. فاستعاضة كهذه ربما كانت أوفق للتعبير عن مقتضى حال علاقة دولتهم بهذه الرقعة من فلسطين التاريخية، ليس بالنسبة لمرحلتنا الراهنة فقط بل منذ نشأت متزامنة تقريباً العام 1948.
ذاكرة أبناء القطاع مفعمة بالمرارات تجاه “إسرائيل” بشكل فائض قياساً حتى بالذاكرة الفلسطينية الجمعية. ويبدو ذلك مبرراً بالنظر لمحطات مأسوية أساسية في سيرتهم الذاتية مع هذه الدولة، التي انقضت عليهم باحتلال مروع، استباح أرضهم وكل جوانب حياتهم لمرتين خلال عمرها المحدود أصلاً (بين تشرين الأول/ أكتوبر 1956 وآذار/ مارس 1957 ثم بين حزيران/ يونيو 1967 وأيلول/ سبتمبر 2005)، وهي تتولى الآن حصارهم براً وبحراً وجواً على نحو تتخلله غارات دموية وتهديدات متعددة الأنماط وضغوط لا يطيقها سوى أُولي العزم من البشر.
لكن المدهش أن هذا القطاع بجرمه الجغرافي المحدود وموارده الاقتصادية الأكثر محدودية، شبه المنعزل بين صحرائي النقب وسيناء والبحر المتوسط، المتخم بسكانه الأصليين ومواطنيهم من لاجئي عام النكبة، ألحق بدوره آلاماً ب”إسرائيل”، وربما بالمشروع الصهيوني برمته. فهو شهد مولد أول حكومة لـ”عموم فلسطين” في خريف 1948، ودشن أول حرب فدائية منظمة (الكتيبة 141 عامي 1955 و1956)، ومن أبنائه تكونت أولى كتائب جيش التحرير الفلسطيني وأبرز قيادات حركة فتح ثم حركة حماس تالياً، ومن مُدنه وقُراه ومخيماته انطلقت باكورة عمليات مقاومة نتائج نكسة حزيران 1967 صعوداً إلى الانتفاضتين الأولى والثانية على تفاوت الظروف والمعطيات. ثم إن قطاع غزة كان أول منطقة «فلسطينية» تجلو عنها “إسرائيل” وتطوي صفحتها عنوة في المشروع التوسعي الاستيطاني الصهيوني على مدار تاريخه تحت غطاء الخطوات الأحادية، هذا ونحوه من دون الاستطراد إلى أن القطاع ظل طوال عقدي ما بعد النكبة الأولين المنطقة الوحيدة التي نجت باسم فلسطين من الاندثار قبل أن يعوم هذا الاسم مجدداً على سطح الوجود الإقليمي والدولي.
هذا الموجز يُسهل تعليل مقولة إن إسحق رابين المغتاظ ذات حين عن أُمنيته بأن يغور القطاع في البحر. لكن الذي حدث إن “إسرائيل” هلي التي غارت من القطاع ومع ذلك فإنها لم تخلص من الهواجس وعوامل القلق المتأتية من أحواله الفوارة في خاصرتها، فهو اليوم مبسوط في أروقتها السياسية والعسكرية العليا كواحد من الملفات الملتهبة. تماماً كما كان عليه الأمر لعشرات السنين!، وعلى رغم القضايا الملحة الأخرى بسخونة على هذه الأروقة، بما فيها مكتب رئيس الوزراء إيهود أولمرت، فإن ملف غزة يبدو متضخماً وبحاجة إلى قرار استراتيجي.
أصل القضية هنا هو أن الانسحاب الأحادي من القطاع لم يؤت كل ثماره المرجوة، لا سيما على صعيد تقييد نظرية المقاومة المسلحة داخله ولجم العالقين عليها وفي طليعتهم حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والتأسيس لقطيعة جغرافية سياسية بينه وبين الضفة والقدس بما قد ينحدر إلى درك احتمال قيام الدولة الفلسطينية في رحابه لا أكثر… القضية أن هذه الأهداف لم تتحقق بالمطلق، بل وجاء الانسحاب بنتائج معاكسة لبعضها على طول الخط، إذ ازدهرت حماس حتى أكرهت فتح ومدرسة النضال المدني المؤبد على التراجع بقوة الناخبين، وفشلت نظرية المصائر المتعددة للمناطق الفلسطينية المحتلة 1967 والحلول المؤقتة طويلة الأجل، واتخذت الخطوة الإسرائيلية على محمل بشائر هزيمة الاحتلال ودحره بقوة المقاومة، وباتت التهدئة المسلحة بدءاً من غزة وسيلة لمراكمة الخبرات القتالية وتخزين السلاح وتحسين مدبات صواريخ حماس والجهاد وكتائب الأقصى، ودخل العامل الإيراني على المضمار الفلسطيني انطلاقاً من غزة وقواعد حماس وأخواتها هناك.
إلى ذلك، كان من سوء طالع “إسرائيل” غداة إخلائها القطاع خروج أرييل شارون مهندس الإخلاء من حلبة السياسة، الذي أوقع خليفته أولمرت وصحبه في تيه التصرف والبحث عن الخطوة التالية، ووقوع نكسة الدولة الصهيونية وجيشها أمام حزب الله في لبنان، التي جرأت فلسطينيين كثيرين، فصائل خيار المقاومة المسلحة بخاصة على عدم وضع وظيفة السلاح جانباً والاكتفاء بآلية التهدئة المتبادلة، ومع أن الصدامات الداخلية الفلسطينية على خلفية الحصار الخارجي وأزمة التلاقي على برنامج وطني، منحت الإسرائيليين فسحة أمل في دحر رماة الصواريخ على الداخل الإسرائيلي بجوار غزة المشاغبة دوماً، إلا أن هذه البارقة سرعان ما خفتت ثم اختفت إلى حد كبير بفعل المصالحات والحوارات الفصائلية، التي توجت بتفاهمات مكة وحكومة الوحدة أو الائتلاف الوطني.
في مناظراتهم المستعرة منذ مستهل 2007 بشأن كيفية التعامل مع صداع غزة، يستحضر الساسة والعسكريون الاستراتيجيون الإسرائيليون هذه المعطيات، ولا تدور مداولاتهم فقط حول التهديدات الراهنة لصواريخ المقاومة الفلسطينية على المحيط الإسرائيلي القريب من غزة (كمستعمرة سديرون وجوارها) وإنما يمتد هؤلاء ببصرهم إلى الأخطار المستقبلية لهذه «الآفة الفلسطينية» إذا ما تركت لأيدي التطوير والتحسين وتجويد التقني المحلي أو المدعوم بخبرات الآخرين (كحزب الله وطهران…)، وإذا كان البعض منهم يثق في قدرة “إسرائيل” على وقف نمو هذا الاحتمال، مثل أولمرت نفسه، فإن آخرين ومنهم آفي ديختر رئيس جهاز الاستخبارات يعتقدون أن الفرصة قد تكون ضعيفة بهذا الخصوص، يقول ديختر إن «غزة هي المكان الوحيد الذي لم ينجح الجيش الإسرائيلي في ردعه، بدليل استمرار استقبال الصواريخ منه…».
عند التفكير في بدائل التصدي لهذا الصداع المزمن واحتمال تفاقمه، تتبلور بين مختلف الأوساط الإسرائيلية حالة من الإجماع الوطني حول الحل العسكري/ الأمني، وينفتح في هذه الحالة بقصد التأجيج رئيس الأركان الجدير جابي اشكنازي، المتحرق لتوكيد جدارته قياساً بسلفه، وإن حالوتس الذي خاب على الجبهة اللبنانية الصيف الماضي، نفهم ذلك من تصريحات اشكنازي التي لا يمل من تكرارها التي مفادها، «إن الجيش في ولايتي جاهز دوماً للحرب، ولا شك في أن عملية واسعة ضد غزة سنقضي على خطرها الإرهابي» ومن سياق الجدل الإسرائيلي بالخصوص، فضلاً عن مشاهدات الاستعداد اللوجستي العسكري على مشارف القطاع. نفهم أيضاً أنه لا مجال لاستئناس المؤسستين السياسية والعسكرية هناك بغير هذا الطرح المتنمر. وعليه، يكاد انطلاق رئيس الأركان وقواته نحو غزة يرتهن فقط بالتوقيت المناسب سياسياً.
على هذا الصعيد تصطك وجهتا نظر، ترى أولاهما ضرورة التعجيل بضربة اجهاضية قد تكون مكلفة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، لكن ثمن الانتظار سيكون أفدح لأن «حماس باتت تشكل أربعة ألوية مسلحة ومدربة جيداً، وسيؤدي الصبر عليها إلى بث مزيد من العبوات الناسفة حول القطاع على غرار التكتيكات الجارية ضد الأميركيين في العراق التي تأكدت نجاعتها، ويذهب عضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست يوفال ديسكين إلى أبعد من ذلك وهو أن «التنظيمات الفلسطينية تتنافس على من سيطلق أول صاروخ متطور ضد مركز “إسرائيل” من الضفة، ولذا فإن إيذاء غزة سريعاً سيكون عبرة للضفة» أما وجهة النظر الثانية فتتحفظ على هذه المسارعة مفضلة التأجيل بعض الوقت مع تهيئة الأجواء، لا سيما الخارجية، لتقبل «غزوة غزة» بقبول حسن… ذلك لأن الفلسطينيين سيحصدون جراء ضربة عاجلة الآن تعاطفاً كبيراً عربياً وإقليمياً ودولياً بحسبهم يتعرضون لضغوط عسكرية في منطقة مكتظة تعاني أصلاً من حصار مطبق أوردها المجاعة والبؤس الشديد، وستتعزز أكثر شعبية حماس ونظائرها فيما هم الآن موضع شكوك في صلابتهم الأيديولوجية والسياسية بعد شراكتهم مع فتح وفصائل التسوية السلمية المعترفة ب”إسرائيل”، كما أن هناك احتمالاً لا ينبغي استبعاده وهو مباغتة “إسرائيل” من الجبهتين السورية واللبنانية بما يوسع الخرق على الراتق الإسرائيلي، كذلك يخشى أصحاب مدرسة التريث هذه أن تفضي الضربة المزمعة إلى انهيار السلطة الفلسطينية في غزة واضطرار “إسرائيل” إلى تحمل مسؤولية زهاء مليون ونصف من «العاطلين شبه الجياع» الأمر الذي تخلصت منه بشق الأنفس. بدلاً من ذلك ولتحييد هذه المحاذير ومنعاً لتهييج المعتدلين العرب وإحراجاً لنفوذ إيران، يقترح هؤلاء إمكان الاعتماد على عمليات القتل المستهدف وتدعيم جهود الاستخبارات ضد القيادات والمراكز «الإرهابية».
والحال أنه إلى نهاية آذار (مارس) الماضي وبداية نيسان (أبريل) الجاري كان أولمرت من معتنقي هذا التقدير الأخير غير أن هذا الموقف قد لا يطول في ضوء رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي ومعهم أعضاء حكومته، وبخاصة وزير الدفاع عمير بيرتس، الهروب من المطاردات التي تلاحقهم بوصمات الفساد وضعف الخبرة وعدم الصلاحية وقلة الشعبية، وبهذا الشأن يقال إن الإسرائيليين تستروا على فساد أرييل شارون وولده عومري بين يدي الحرب على السلطة الفلسطينية وياسر عرفات، وإن أولمرت وبطانته قد يفعلون الشيء ذاته مع غزة هذه المرة، طمعاً في الإفلات بسيرتهم المتهافتة، هذا أمر جائز حقاً وربما تصاعدت حظوظه إلى مرتبة الخيار الأنسب غداة صدور تقرير لجنة «فنينوجراد» التي تحقق في خيبة “إسرائيل” في لبنان 2006.
على أن هناك بديلاً أقل كلفة من الغزو المباشر بكثير يراود تل أبيب بإلحاح، هو انهيار الوفاق والاحتكام مجدداً للغة السلاح في الداخل الفلسطيني، عندئذ، لن تحتاج “إسرائيل” لغزو غزة بل سيتكفل «أمراء الحرب» الفلسطينيون بذلك، يقيناً يجتهد المسؤولون الإسرائيليون على هذا المضمار، وذلك قدر اجتهادهم الآن لاستدراج الفلسطينيين نحو حادثة تنطلق من غزة، تسمح لهم بافتراسها في مناخ مواتٍ، لكننا بالقدر ذاته من اليقين لا نتوقع لعدوان كهذا أن ينهي المساجلة التاريخية الدموية المريرة بين “إسرائيل” والقطاع الذي طالما استعصى على التطويع، ونقول لأولمرت والذين معه «كان غيركم أشطر».
* كاتب فلسطيني.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
الصحة اللبنانية: 178 شهيدا من الطواقم الطبية و8 مستشفيات خارج الخدمة
بيروت – المركز الفلسطيني للإعلام قال وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض، الخميس، إن بلاده سجلت منذ بداية عدوان الاحتلال الإسرائيلي 172 شهيدا من الطواقم...
25 أسيرًا يتنسمون الحرية وآثار التجويع تغير ملامحهم
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مساء اليوم الخميس، عن نحو 25 أسيراً من الضّفة، ممن أنهوا محكومياتهم، ومن...
الصحة العالمية: الوضع الصحي في شمال غزة مُروّع
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الخميس، إن "الوضع الصحي في شمال قطاع غزة مروع"....
الحوثي: استهدفنا 202 سفينة مرتبطة بالعدو الاسرائيلي والأمريكي والبريطاني
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أكد قائد حركة أنصار الله عبد الملك الحوثي أن إجمالي عدد السفن المستهدفة المرتبطة بالعدو الإسرائيلي وبالأمريكي...
اعتقال المرابطة المقدسية سحر النتشة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الخميس، المرابطة المقدسية سحر النتشة من منزلها في بيت حنينا شمال القدس...
المستشفى المعمداني بغزة يناشد بالإسراع بالتبرع بالدم لإنقاذ حياة المصابين
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ناشد المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في غزة المواطنين "الإسراع بالتبرع بالدم لإنقاذ حياة المصابين". بدوره حمّل...
هكذا حاول الاحتلال تجنيد عملاءٍ له في غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت منصة "المجد الأمني" التابعة للمقاومة في قطاع غزة، عن منصات مشبوهة جديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملت أسماء...