الأحد 23/يونيو/2024

حماسة أمريكية إسرائيلية مشبوهة

حماسة أمريكية إسرائيلية مشبوهة

صحيفة الخليج الإماراتية

الذي يستمع إلى أحاديث الحماسة الأمريكية المفاجئة للمبادرة العربية، على لسان كوندوليزا رايس في زياراتها المكوكية الأخيرة للمنطقة، والذي يستمع إلى حماسة مماثلة للمبادرة عينها على لسان إيهود أولمرت وهو على شفير الإعلان الرسمي عن إفلاسه السياسي على وقع تداعيات لجنة فينوغراد للتحقيق بأداء “إسرائيل” أثناء العدوان على لبنان في الصيف المنصرم، يكاد يعتقد بأن أبواب الجنة قد فتحت فجأة أمام هبوط حل مفاجئ سحري للقضية الفلسطينية، المنتهكة حقوقها وحقوق شعبها منذ ما يقارب الستين عاماً.

لكن أموراً كثيرة ما تلبث أن تتداعى في الذهن، منبهة من حلم اليقظة هذا:

* يتذكر المرء، مثلاً، أن الإدارة الأمريكية العليا في البيت الأبيض، وتوابعها في وزارتي الدفاع والخارجية، لا يتذكرون القضية الفلسطينية، إلا عندما يكون سيد البيت الأبيض في أزمة، هو وحزبه الحاكم، فيسعى إلى الخروج منها، أو الالتفاف حولها، بحركة استعراضية سياسية، تكون القضية الفلسطينية موضوعاً لها، في بعض الأحيان. لكن هذا المشهد تكرر مراراً عديدة، في العقود المنصرمة، وحال القضية الفلسطينية وشعبها يزداد سوءاً. وآخر هذه الحركات الاستعراضية كان في آخر عهد الرئيس السابق كلينتون، عندما تعرض هو وحزبه لأزمة مفتعلة، أخرجت الديمقراطيين في النهاية من البيت الأبيض، وبقيت السياسة الأمريكية على انحيازها التاريخي ل”إسرائيل”، بل أفرز هذا الانحياز بعد ذلك تجليات جديدة في عهد المحافظين الجدد، فاقت كل ما سبقها.

* يتذكر المرء، مثلاً، أن الرئيس الأمريكي الجديد جورج دبليو بوش، قد وضع ملف القضية الفلسطينية في سلة المهملات منذ بداية عهده (ست سنوات حتى الآن)، بل إنه منع أي تحرك أوروبي فيه شبهة من جدية، باتجاه التحرك نحو البحث عن حل جدي للصراع. ولم تعد الإدارة الأمريكية إلى رفع الملف من سلة المهملات، وبحماسة مشبوهة كأنها تعتبره أول الملفات التي تستحق الاهتمام والتصرف السريع، إلا عندما تفاقمت الأزمات الخارجية والداخلية، جبالاً أمام هذه الإدارة، وأمام فرص الحزب الجمهوري في المعركة الرئاسية في نهاية العام المقبل.

* يتذكر المرء، مثلاً، أن الدبلوماسية الأمريكية لها سوابق، في عهد بوش، في تحريك جزئي لملف القضية الفلسطينية، وأشهرها سابقة “خريطة الطريق” الشهيرة، واللجنة الرباعية الدولية، لكنها أثبتت كلها عملياً صفتها الاستعراضية الفارغة من أي محتوى، بدليل أن واشنطن لم تبذل أي جهد لدفع أي من هذه المشاريع في اتجاه التطبيق الجاد، بل بذلت كل جهد في سبيل تفريغ هذه المشاريع من أي محتوى حقيقي، وإبقائها أشكالاً فارغة، تعود الدبلوماسية الأمريكية إلى تحريكها، كلما أحوجتها مناوراتها في السياسة الدولية إلى ذلك، ثم يؤدي التحرك إلى لا شيء، بعد الانتهاء من الحاجة الاستعراضية له.

* يتذكر المرء، مثلاً، أن المبادرة العربية التي برزت الآن فجأة (على لسان المسؤولين الأمريكيين و”الإسرائيليين”)، وكأنها الحل السحري الذي كان الجميع بانتظاره، هي وثيقة موجودة منذ خمس سنوات، بالتمام والكمال (في مثل هذه الأيام من العام 2002)، وأن “إسرائيل” فعلت (وبتشجيع أمريكي) كل ما بوسعها، في الأيام الأولى لولادة المبادرة في مؤتمر القمة العربية في بيروت، لتثبت للعالم أنها مشروع فارغ، وفاقد لأي قيمة فعلية. وبقي الأمر كذلك، أمريكياً و”إسرائيلياً”، حتى قبل أيام قليلة.

* يذكر المرء، على سبيل المثال، أن كوندوليزا رايس نفسها، جاءت في رحلات مكوكية مشابهة، مع الساعات الأولى لانطلاق حرب “إسرائيل” الثانية على لبنان (على حد التعبير “الإسرائيلي” الرسمي) تبشرنا بأننا أمام مخاض ولادة “الشرق الأوسط الجديد” (أي الموالي كلياً لأمريكا، وليس جزئيا فقط) وأن هذه الولادة تستكمل على وقع ما تفعله “إسرائيل” في لبنان (العدوان)، وليس على وقع المبادرة العربية وأفكارها (لم يكن أحد يجرؤ على التذكير بها في تلك الأيام). وكما طال وقت المخاض عبثاً، والعدوان “الإسرائيلي” لا يحقق أغراضه، وضعت أمريكا كل ثقلها في مجلس الأمن لتمديد فترة العدوان أطول وقت ممكن، لعل وعسى، وهذا ما أعاد بولتون (سفير أمريكا السابق في الأمم المتحدة) تذكيرنا به صراحة، والتباهي به قبل أيام.

ولو اكتفينا بهذا القدر من استعادة الصور السياسية الواقعية تلك، فإن من حقنا (بل واجبنا) البحث عن الأسباب الحقيقية للحماسة الأمريكية و”الإسرائيلية” المفاجئة للمبادرة العربية، لأنها أسباب مشبوهة بالتأكيد.

الملاحظ أولا أنه، بينما تركز الحديث الأمريكي، في أيام متلاحقة، على القضية الفلسطينية، وكأن حل القضية أصبح الشغل الشاغل الأوحد للإدارة الأمريكية، فإن الهم الأمريكي يتركز في موقع آخر هو العراق وإيران، حيث يتم هناك حالياً تحديد مصير هيبة الإدارة الأمريكية الحالية. وأن المؤشر الوحيد إلى ولادة جدية أمريكية باتجاه حل تاريخي عادل للقضية الفلسطينية، هو ظهور بوادر ضغط أمريكي على “إسرائيل” لفرض الحل عليها، ومنعها من التهرب المستمر منه.

فهل نرى حقاً مثل هذه البوادر، أو ما يمت لها بصلة؟

الأمين العام الجديد للأمم المتحدة لم يجرؤ على مقابلة رئيس الحكومة الفلسطينية، مع أنه لم يعد رئيساً لحكومة حماس (كما كانت أمريكا و”إسرائيل” تصر على تسميتها) بل أصبح رئيساً لحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي تضم جميع الشرائح الفلسطينية الموجودة والممثلة في المجلس التشريعي المنتخب، فماذا نتوقع من المسؤولين الأمريكيين أنفسهم؟

نحن أمام احتمالين واقعيين:

* إما أن أمريكا قد شعرت بأن العرب في حالة ضعف استثنائية، يمكن معها، تمرير حل يتنازل فيه العرب، في هذه اللحظة بالذات، عن كل الحقوق الأساسية التاريخية في قضية فلسطين.

* أو أن أمريكا لا تبغي من هذا الضجيج أي توجه جاد باتجاه إيجاد أي حل للقضية الفلسطينية، بل تقصد فقط تقطيع الوقت، وضرب العرب ببعضهم تحت عنوان “الفوضى الخلاقة”، ريثما تجد لها مخرجاً من ورطتها في العراق وإيران.

الأرجح أن تحاول أمريكا النجاح في المسعى الأول، فإذا استحال ذلك، فلا مانع لديها من تقطيع الوقت بما يلهي العرب عن الأخطار الحقيقية التي تهدد مصيرهم وتدخلهم في بلبلة جديدة.

وعندما نجد أمريكا و”إسرائيل” متحمستين فجأة لحل القضية الفلسطينية، فالحكمة تقضي بأن نضع يدنا على قلبنا، ونخشى على مصير القضية الفلسطينية ومصيرنا.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

54 شهيدًا بأربعة مجازر خلال ساعات في غزة

54 شهيدًا بأربعة مجازر خلال ساعات في غزة

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 54 مواطنًا وأصيب العشرات غالبيتهم من الأطفال والنساء، في ثلاثة مجازر ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، السبت،...