السبت 10/مايو/2025

الأدبُ حينما يُسيء الأدبَ!

جواد بحر النتشة

لم أستطع كتابة سطر واحد حتى رأيتُ ما يريد البعض تصويره كتراث يجب تعليمُه لأطفالنا، ذلك الذي تمثّل عند هؤلاء فيما تمثّل بمجموعة: قول يا طير، التي تتضمن خمسة وأربعين رواية شعبية.

ولأول وهلة، قد يحسب الناظر إلى العنوان الذي يتوسّط غلاف المجموعة، أن ثمة طيرا يتحدّث، إذ اسم المجموعة: قول يا طير، ولا عَيْب في الطير إذا تحدّث، ونحن نطرب كغيرنا من الناس، وحديث الطير تغريد وغناء يريح النفس، ويتناغم مع ما في الأذن من تلاقي داخلها بما هو من العالم الخارجي؛ أقول: لأول وهلة يحسب أن طيرا يتحدّث، وفق ذلك النمط الخرافي الذي كنا نسمعه من جدّاتنا وأمهاتنا، حين يُحَدِّثننا بقصص ما قبل النوم، التي نسمّيها: الحدّوتة، أو وفق النمط الخرافي المنتشر في الصور المتحرّكة الحديثة، التي تعرض الحيوانات وهي تتحدّث. فلا مانع وفق هذين النمطين من حديث الطير، ولم نغضب عليه مرّةً إذ يتحدّث!

غير أن ما تُلقيه روايات قول يا طير، ليست أحاديث الطيور، بل هي أحاديث الناس، كما ذكر المؤلفان في مقدمة تلك الروايات، فهم يتحدّثون ناطقين بما قال المؤلفان إنها حكايات شعبية.

وليس من ضَير على الحكايات الشعبية أن تأخذ مجراها، وأن تُطبع، على قبح بعضها، ليتناولها النقّاد بالدرس والتحليل، لاستخراج طريقة تفكير كثير من الناس، ولاستخراج بعض العادات الكامنة أسبابها في بعض هذه الحكايات؛ ليس من ضَير في ذلك، رغم قبح بعضها، وإنما الضَّير أن تكون هذه الحكايات مصدرا لثقافة أطفالنا، يتعاطَونها في المدارس، تلك التي لم تقدر إلى الآن أن تعلّمهم بعض أبجديات الانتماء إلى الوطن، وإلى ثقافته الحضارية المرتبطة بالإسلام؛ وكذلك الضّير يكمن في نقل هذا التراث إلى الغرب، ليتعرّف الغرب علينا؛ فلم يكْفنا أن الغرب تعرّف على هزال حكوماتنا، وولاء حكامنا له، وارتفاع نسبة الأمية فينا، وعلى مجموعات بيّاعات الجسد، وذئاب القنص من الشباب، الذي يُسمّى جميعه فنّا راقيا؛ لم يكْفنا كلّ ذلك وغيره، حتى كان لا بد من إصدار قول يا طير أولا بالإنجليزية، عام 1989م، وثانيا بترجمته إلى الفرنسية، عام 1997م، كما في تقديم المؤلّفَين إبراهيم مهوّي وشريف كناعنة في الصفحة XV من تقديمهما لكتابهما.

على كل حال: لن يستغرب الغرب كثيرا إذا رأى بعض قصص قول يا طير، تلك التي تجعل الأم تعاشر ولدها وتحبل منه، كما في الصفحة 70 من قُول يا طير؛ فالغرب الذي ينتشر فيه الشذوذ الجنسي، لن يستغرب من مثل هذه القراءات، وكل ما سيكتشفه أن الشذوذ ليس حكرا عليه، بل تشاركه فيه أمة تغذّى كثير من شبابها من ثقافته وفنّه!

لقد ظلموا الطير، إذ سمَّوْا تلك المجموعة القاذفة بكثير من القرف: قول يا طير، وكأن ذلك الغِرِّيد يلقي بدل تغريده صديدا تنفر منه النفوس.

لو كان للطير دولة، لقام وحرّك أسرابه من جميع أجناسه، ولاصطَفّ في أطراف الكون ليقول: أنا بريء من ذلك الطير الذي صدّرتم الروايات باسمه، ولأعلن الطير براءته من مُسيّري المظاهرات، المتباكين، لا على الطير الملتزم بسربه، السائر في قانونه، بل على فردٍ من الطّير، لم يُسمع الناس تغريدا وهديلا، وإنما انحطاطاتٍ عن الأدب الراقي، تسمّت باسم الفن، والتراث الإنساني.
هذا إن كان الطير هو القائل، فما بالك أن القائل بشر، والكاتبان من عقلاء البشر؟

ماذا يعني دفاع وزير ثقافة سابق، وشاعر عملاق، وكاتب تولّى مكانا مرموقا في مؤسّسة تتخصّص بالكتاب والكتابة؛ عن هذه المجموعة التي تكتظّ فيها كلمات يأبى هؤلاء على أبنائهم أن تلوكها ألسنتهم؟! معذرةً، فهذا ظني بهم، فإن كان ظنّي فيهم خاطئا، فأنا أعتذر للقارئ الكريم!

أتريد أن تستوثق عزيزي القارئ مما أقول عما في قول يا طير؟

بإمكانك، فافتح الصفحة 68، واقرأ السطرين 15و16، فستجدهما يقولان عن الطنجرة التي وَلَدَتها امرأة لم تكن تلد فيما مضى: ((هاي كِنها فيها سحر بتظحك عالناس، يلعن أبو اصحابها، والله العظيم لاقعد فيها، قام قعد يا حبيبتي بقلبها))، ولو قام طالب أمام أستاذه وقال بعض هذه الكلمات، لقال له: اقعد وتأدّب! أو لعلّمه درسا في الأدب! وبالمناسبة، ورد مثل هاتين الكلمتين اللتين جعلتُ تحتهما خطا، وردت مكرّرة مراتٍ ثلاثا في الصفحة 201، ضمن القصة رقم 26، والتي عنوانها: منجل.

وافتح صفحة 69-71، لتقرأ قصة المرأة التي نامت مع ابنها حتى حبلت منه، وهو يحسبها امرأته، وهي التي أعدّت الخطّة لينام معها، إذ تزيّنت وصغّرت نفسها، وذلك أثناء غيابه للحجّ، فلما عاد من الحجّ ظنّها امرأته، فسألها عن أمه، فقالت: ماتت، تقول القصة: ((لمّن نامت مع ابنها حبلت وصارت تتوحّم، وقالت لابنها: يا ابن الحلال، جيبلي قطف حصرم من عند الجيران))، وطيلة هذه الفترة لم يستطع أن يكتشف أنها أمه، وأنها ليست امرأته، حتى إذا اكتشف الأمر أخيرا، أمر بجمع الحطب والنار، وها هنا انتهت القصة، التي توحي أنه جلب الحطب لأجل حرق أمه، وإن لم تذكر القصة ذلك.

وافتح صفحة 95-99، لتقرأ قصة البنت الغولة، التي أكلت أمها وأباها وإخوتها وأهل بلدتها، واستولت على أخيها الأخير تريد أن تأكله، فسلّط عليها سبعَين له، فأكلاها، ومرّت قافلة أعجبها شكل السبعَين، فأرادا أخذهما، وعرضا على الأخ أن يحزر ما في القافلة، فإن حزر أخذ ما فيها، وإن لم يحزر أخذت القافلة السبعَين، فلما لم يحزر، أخذت القافلة السبعَين وسارت، وإذا بنقطة من دم أخته التي أكلها السبعان تلفظ وتقول: ((سمّاق يا ابن …. سُمّاق))، فلحق القافلة وقال لها: أنت تحملين السماق، فأعطَوه القافلة بما فيها؛ وتكرّرت كلمة يابن..، مرتين، غير أن المؤلفَين لم يستسيغا ذكرها في عنوان القصة ذاتها، فكتبا عنوانها هكذا: سماق يا ابن […] سمّاق.

لماذا أخفى المؤلفان الكلمة إياها؟ الجواب: إنها لا تليق في عرفهما الأدبي ومقامهما العلمي، فلماذا يراد لهذه القصة أن تنال مقامها بين الأولاد والبنات إذن؟!

وأخيرا، افتح الصفحة 202-204، لتقرأ خرافة عجيبة، جميع ما فيها من مسالك البلَه، وآخرها بلَه وألفاظ في غاية الفحش، لا أستطيع أن أذكرها، لكنّها ذكرت كلاما لو قاله ولد أو بنت أمام أبيه أو أمام أستاذه، لكان ما كان من تُهم لهذا الولد على قبيح كلامه.

والعجيب أنه لا عبرة في القصة أبدا، فلا معنى لها، ولو حكاها إنسانٌ بين الناس، لَما انتبهوا لغير الفحش الذي فيها، ولتعجّبوا من مغزاها، ومن الهبل الذي يكتنفها، ومن انقطاع القصة دون بيان تمامها؛ لأنها هكذا وردت في التراث، على لسان امرأة في السبعين من عمرها، من منطقة الخليل، كما في الصفحة 336 من قول يا طير.

هل هذا أدب، أم هو إساءة للأدب؟

لا أنكر أن في بعض الخرافات المسوقة في قول يا طير بعض المعاني الجميلة، التي تبثّ القيم العالية، وتركّز على التوكّل على الله، والإيمان بالقدر، على المعنى المقبول إجمالا في اعتقادنا، وأوْضَح بعضَ هذه المعاني المؤلفان في تعقيبهما على إحدى مجموعات قول يا طير، في الصفحة 290-292.

لكن، هل أهميّة التراث في مجرّد أن يعرفه طلابنا، أو في تمحيص الخير من الشرّ منه؟

وهؤلاء الظلاميون الذين صوّروا سحب الرواية من المدارس بأنه إعدام للتراث، وصوّروا الأمر كما لو أن محاكم التفتيش عادت أدراجها إلى عصرنا، هل يرضَون بكثير من الأمثال الشعبية التراثية التي فيها امتهان للمرأة، ولكرامة الإنسان، وهي جزء من تراث شعبنا؟

هل كلمة التراث مقدّسة عند هؤلاء إلى هذا الحدّ؟ فلماذا وصف وزير ثقافة سابق، وهو أحد من ضجّوا على قرار سحب قول يا طير من المدارس؛ لماذا وصف هذا الوزير المثقّف جدّاً انتقاد الناس لأوكازيون أريحا أواخر القرن الماضي بأنهم ظلاميون، والحال أن رافضي أوكازيون أريحا يحاولون المحافظ على تراث الحشمة؟!

أهو الانتقاء، فلْنَنْتَقِ إذن ما نشاء؟ أم حلال له الانتقاء، وحرام علينا؛ حلال له أن ينتقي تقليد شعبه للغرب، وحرام علينا العودة إلى تراث الحشمة، عفوا: إلى دين الحشمة، الذي يأنف منه ذلك الرجل؟! إن الأحرى أن نَعرض على طلابنا ما يحفظ انتماءهم الحضاري، لا أن ننفّرهم من هذا الانتماء.

أم: هل كثرت سكاكين الجمل حينما ظنّ الظانّون أنه وقع؟!

الكل يعرف القصة، لكنّ الجمل لن يقع، وإن حسِبت السكاكين أنها تقدر عليه، فلتنظرْ إلى بلادتها بعد أن أخفقت في إسقاط الجمل!
 
* كاتب فلسطيني – الخليل

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات