قضية (قول يا طير) هل هي تربوية أم سياسية؟


لا زالت ذيول القضية التي باتت تعرف بقضية (قول يا طير) تتكشف في المحافل السياسية والتربوية الفلسطينية منذ مطلع شهر شباط الجاري، وتتلخص القضية بإقدام وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية بتخليص مكتبات الأطفال المدرسية من كتاب تراثي يتناول الحكايات الشعبية الفلسطينية بلهجتها العامية، والكتاب للفلسطينيَين شريف كناعنة وإبراهيم مهوي.
القضية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد انبرى أقطاب أكبر تنظيمين فلسطينيين للدفاع عن موقفيهما، فقد اتهم جمال نزال-الناطق باسم فتح في الضفة- حكومة حماس “بمحاولة طمس المعالم المميزة للهوية الفلسطينية في مسعى مدروس لطمس المعالم القومية للشعب الفلسطيني، وحشر وجهه تحت برقع يجعل منه رقماً من مجموعة أرقام إسلامية، لا تميز لبعضها عن بعضها الآخر، وبأن حكومة حماس تأخذهم إلى حيث لم يأتوا، وفي مكان مرت منه حركة الطالبان عام 2001عندما قصفت بالمدافع أماكن تاريخية فيها أبنية عمرها 3 آلاف عام”.
بينما أعلن وزير التربية و التعليم الفلسطينية أن وزارته لا تعتدي على التراث الفلسطيني، “وأن هذا الكتاب مكتوب باللهجة العامية، وغير لائق أن يدرّس في المدارس التي تدرس اللغة الفصحى بالإضافة إلى أنه يحمل كلمات نابية لا يجوز أن يقبل في مكتبات المدارس، ويجري الآن استبعاده من مكتبات المدارس فقط”.
ولا زالت حلقات هذا القضية تتواصل، كحلقة من حلقات الاحتدام والنزاع السياسي، فأين السياسي، وأين التربوي الأدبي في هذه القضية؟
من خلال دراستي المستفيضة لأدب الأطفال الفلسطيني لسنوات خلت، أود أن أشير إلى بعض الحقائق في خضم هذا الخلاف، فقد يتوفر هامش –هذه المرة- لكلمة غير السياسيين في الموضوع:
خلفيّة ضبابية
بدايةً أسجل سعادتي الغامرة، بإثارة هذه القضية المتعلقة بأدب الأطفال الفلسطيني، والتي أرجو أن تحرك المياه الآسنة، فقد عانى هذا الأدب من التهميش وعدم الاهتمام في سنوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، ويوم أن أُريد أن تقوم له قائمة، سُلّمَ للأجندة الغربية –بامتياز- من خلال المؤسسات والجمعيات بعد اتفاقية أوسلو، التي تدفع بسخاء لما يتوافق مع هذه الأجندة، مع غياب أدنى رقابة أو محاسبة من المؤسسات الرسمية الفلسطينية، ومن خلال هذه المشاريع دخل كتاب (قول يا طير) المدارس الفلسطينية بدعم (دياكونيا)، فقد اهتمت السلطة الوطنية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بأدب الأطفال، من خلال إقامة (مشروع تطوير أدب الأطفال في المدارس) للصفوف الدراسية من (1-10) وهذا المشروع كان نتيجة جهود أكثر من جهة، منها الوطنية، مثل: وزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم العالي، ومؤسسة تامر، وجامعتي بيت لحم ونابلس، بدعم من جهات أجنبية مثل: الحكومتين السويسرية والسويدية، واليونيسف، ودياكونيا، والوزارة البريطانية للتنمية الدولية ( DFID )، والمؤسسة النرويجية نوراد (1) ، وكانت تهدف هذه القصص إلى” تقبل الاختلافات بين الأجناس أو في الرأي” (2) ، وذلك بحكم الجهات الداعمة لها.
فعلى الرغم من أهميّة (مشروع تطوير أدب الأطفال في المدارس) في توجيه الاهتمام إلى أدب الأطفال، إلا أنه كان -على سبيل المثال- من بين 57 قصة وزّعت في المرحلة الأولى، كان منها 26 قصة مترجمة عن لغات أجنبية، بما تضمنته هذه القصص من مفاهيم وقيم تستحق الدراسة والمراجعة العلمية.
وتضمنت بعض القصص العربية الأخرى المتبقية من المشروع مفاهيم جديدة على الطفل الفلسطيني، فعلى سبيل المثال، قُدّم للأطفال في المدارس قصة (سوا سوا) وهي تدعو إلى (الجندرة) أو (الجنسوية)، وقد جاء في توضيح هذا المفهوم: “نحن لا نولد بناتاً أو صبياناً، إنما يجعلون منا هكذا، ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن الأطفال يُدفعون اعتباراً من يومهم الأول بصورة منتظمة إلى دور جنساني، ويُمسخون إلى كائن نسميه أنثى أو ذكراً” (3) .
وقصة (سوا سوا) تعالج هذه المشكلة بأسلوب صريح ومباشر، حين يبدأ الأطفال بالاستهزاء من فارس لأنه يقوم بأعمال البنات “قال سامي مظهراً الدهشة: تلعب مع البنات!
فكّر فارس: لماذا لا يجب أن ألعب مع البنات، لم يخطر أبداً ببالي أن هناك أعمالاً للبنات لا يقوم بها الأولاد” (4).
ووزارة التربية و التعليم العالي التي تعترض اليوم على هذا الكتاب في ظل حكومة حماس، هي نفس الوزارة التي سمحت له بالانتشار في مدارسها من أبوابها الواسعة بكثير من التهليل ومن دون اعتراض قبل أقل من خمس سنوات، ولكن من حكومة فتح السابقة.
لقد تم التعامل -بعد أوسلو- مع أدب الأطفال الفلسطيني ضمن شروط الجهات الداعمة كمشاريع رصف الطرق وغيرها من مشاريع البنية التحتية، في الوقت الذي تحولت فيه الحياة الفلسطينية إلى مجموعة من المشاريع والقروض، وكأن أدب الأطفال ليس ثقافة تتعلق بمستقبل مجتمع له خصوصياته الأدبية والثقافية، مع أن الدول الغربية نفسها تعلن خوفها على خصوصياتها الثقافية في أكثر من مؤتمر ووثيقة من غول العولمة، “والقائمون على المؤسسات الفلسطينية التي تتلقى مساعدات غربية، يقولون إنه لا توجد أية رقابة على مضامين النشر المدعوم، ولا توجد أيَّة شروط رقابية، ولا يعترض أحد على محتوى الكتب، ولا يوجد اعتراض أيضاً على الأسماء التي ننشر لها” (5).
أكثر من دليل
المعطيات لا تحتاج إلى كثير إثبات للتدليل على ذلك، يقول أحد مؤلفي قصص الأطفال ورئيس أحد المراكز العاملة في أدب الأطفال في الأراضي الفلسطينية عن المواءمة بين المؤسسات الفلسطينية (الممثِلة لأدب الأطفال) وأهداف هذه الجمعيات والمؤسسات الأجنبية: “عندما أخذت بعض الدول مثل السويد والنرويج البحث عن جوانب لتمولها في الأراضي الفلسطينية، ومن خلال التجربة أصبح لهذه الدول أجندة ونوع من التخصص، وفي المقابل عدّلت بعض المراكز الثقافية والجمعيات الفلسطينية من أهدافها وبرامجها بحيث تخصص كل منها في مجال قريب من أجندة الدول المانحة ثقافياً” (6).
فغابت مؤسسات الأطفال الفلسطينية التي تصدر أعمالها برؤية مستقلة بعيداً عن شروط الجهات الداعمة، وندرت القصص التي تصدر من دون شعار أو اسم دولة أو جهة أجنبية مانحة، وفي مقابل هذا الدعم السخي لكل ما يتوافق مع شروط المانحين، نجد تجنب أعمال كتاب أدب الأطفال الفلسطينيين، الذين تتمتع كتاباتهم بالجدة والأصالة، رغم فوز بعضها بجوائز دولية، ومن هؤلاء الكتاب: روضة فرخ الهدهد، ومنير الهور، وأحمد أبو عرقوب، ورشاد أبو شاور، زين العابدين الحسيني، شحادة علي الناطور، مفيد نحلة، وقائمة الحظر طويلة، وإن نُشر لواحد منهم، فليس ذلك إلا لأنه عدّل -بعد اتفاقية أوسلو- من مضامينه القصصية، ليتناول موضوعات (الاستماع إلى الآخر- واحترام الرأي-والحد من العنف) (7) الخ….
ويبدو مقبولاً في هذا السياق أن نشير إلى مضمون قصصي في الطرف النقيض، فقد نجد غلافاً قصصياً فلسطينياً غير موسوم بشعار مؤسسة أجنبية أو مدوناً عليها اسمها، ونقرأ في هذه المجموعة قصصاً للأطفال، تتحدث عن الانتفاضة بعنفوانها الأول، شهداء يحملون على الأكتاف، وحب كبير للوطن الأول (بيت طيما) في فلسطين التاريخية، وهمجية الاحتلال الإسرائيلي، وقتل واعتقالات، ودعوات صريحة لتحرير الوطن (8).
ونقرأ –في الوقت ذاته- بين السطور، في مقدمة المجموعة، ذلك الخلاف الذي دار مع الممولين والناشرين، الذين رفضوا نشر وقائع وأحداث الانتفاضة بغير شروطهم، بينما كان الأمر في نظر من كتبوا، أنه مجرد تعبير تلقائي عما يشاهده الأطفال، وكانت النتيجة أن كتب الأطفال ونشروا قصصهم بأنفسهم من دون الاعتماد على أحد، فجاء في المقدمة:
“هل من الممكن أن يعبِّر الأطفال عن آلامهم وأحلامهم وأفراحهم بطريقتهم؟ أم سيكون الآخرون دائماً من يعبر عن آلامهم وأفراحهم ولا يعطونهم الفرصة للتعبير عن مكنوناتهم وفهمهم الخاص للحياة بالقلم والفرشاة… ويخرج هذا العمل اليوم، مع رغبة شديدة بأن يرى النور إيماناً منا بأن الحق هو شيء لا يعطى ولا يشترى، بل شيء يجب أن نطالب به و نقاتل من أجله، فمن حق الأطفال التعبير بالطريقة التي يرونها مناسبة، سواءً بالكتابة أو بالرقص أو الرسم أو الكلام، فالإنسان أغلى ما نمتلك، لذلك يجب أن يكون الإنسان الفلسطيني هو هدفنا الأول دائماً” (9).
إن تاريخ أدب الأطفال الفلسطيني المبكر يسجل بحروف من نور، محافظته على الشخصية العربية الفلسطينية، فقط، حين كان القرار الفلسطيني مستقلاً في رؤاه وتصرفه المالي، وذلك من خلال مؤسسة (دار الفتى العربي)، التي أُنشئت في أواخر السبعينيات ليشرق نورها على أرجاء الوطن العربي، فأصدرت العديد من الأعمال الفلسطينية وغير الفلسطينية، وأظهرت أدباء فلسطينيين وغير فلسطينيين، ولنتألم جميعاً على هذا الإرث الأدبي الذي فقدناه -من دون عزاء- بعد إغلاق الدار لظروف الاحتلال والتشرد، فتشير إحدى الناقدات العربيات اللواتي شهدن فترة الازدهار الفلسطيني العربي لأدب الأطفال بتأسيس (دار الفتى العربي)، وتقارن بين تلك المرحلة، وما وصل إليه أدب الأطفال اليوم، فتقول بعد خبرة سنوات في تعاملها مع (دار الفتى العربي): “لو قارنا بين إصدارات دار الفتى العربي وإصدارات اليوم، نجد أننا نسير إلى الوراء وليس إلى الأمام” (10).
تقديس التراث:
الذين هاجموا حذف الكتاب من قائمة الكتب من مدارس الأطفال، وصفوا هذا الفعل بأنه “اعتداء على التراث الفلسطيني”، ولا أدري لماذا يخلط هؤلاء –عن عمد- بين المحافظة على التراث ودراسته كواجب وطني على ذوي الاختصاص، وبين تقديم التراث على علاته التربوية واللغوية والأخلاقية للأطفال، وقد أدرك –بتواضع- مؤلف الكتاب (كناعنة) هذه الحقيقة في ردوده قائلاً:” إن هناك سوء تفاهم، فالكتاب بالأساس ليس للأطفال، فهو يدرس على مستوى الماجستير والدكتوراه، وأنا شخصياً درّسته كمساق في الفصل الماضي لطلبة
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...