مصر كم أحبها وكم لا أحب من لا يحبها

عندما كنت طالباً في إحدى سنوات الدكتوراه في فرنسا دعيت إلى حفل، أو مهرجان، نظمه بعض الزملاء العرب من أقطار مختلفة في صالة متواضعة في المدينة التي كنت أسكنها.
بعد الحديث عن ماضي الأمة الإسلامية التليد، شارك بعض المتخصصين بنقاشات حول الطب والرياضيات والفلك عند العرب.
كان اللقاء مثمراً ومتميزاً، ولكنني توقفت خاصة عند حدث معين في ذلك المهرجان. ففي الساعة الأخيرة منه، حيث بدا التعب واضحاً على المشاركين إذ دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً، تكلم مقدم المهرجان عن فقرة فنية يختتم بها هذه ” اللقاء الودي العربي على أرض أوروبية”.
أنشدت فرقة عربية مقطعاً شامياً من سورية الغالية، وباللهجة الدمشقية واشتعلت الصالة تصفيقاً وتفاعلاً مع تلك الأنشودة، ثم قامت فرقة أخرى بتأدية أغنية مغربية وقامت ثالثة بتقديم أغنية خليجية وعراقية وأخرى فلسطينية، وفي كل مرة كان تفاعل الجمهور ملفتاً للنظر. ولا جرم في ذلك فالعرب أمة واحدة يتكلمون لغة واحدة، وإن إحساس المغربي بالشرقي كإحساس الرأس بألم الجسد.
المهم، جاء دور الفرقة المصرية، ومنذ الجملة الأولى، “أحلف بسماها وترابها” التهبت القاعة تعاطفاً وتفاعلاً مع الأغنية، وضاع صوت الفرقة مع صوت الحضور، شعرنا للحظة ما أننا أمام مشاهد انقضاض الطائرات المصرية على العدو الصهيوني في حرب تشرين، وتخيلنا الصور الإعلامية الخاصة بعبور القناة، بل عادت إلينا كل الصور المختزنة عن مصر العروبة، مصر التي يفتخر شعبها بكره”إسرائيل”.
لما انتهت الفرقة من غنائها، طلب الجمهور الذي لم يعد متعباً أن يسمع أغنية” مصر هي أمي، نيلها جُوّا دمّي” وبدأت الأغنية الجديدة، وكان تأثيرها كسابقتها أو أشد. وحاولت الفرقة تحية الحاضرين ومغادرة المكان، إلا أن الزملاء طلبوا إليها أنشودة ثالثة، فشدَت مقطوعة طويلة جمعت فيها عدة أغنيات لمحمد منير”، ” الفجر بيلاقي المغرب وبيجي ويروح…والليل يطل على الشارع شباك مفتوح….زمن ضناهم في المدرسة كنز الأوطان”” كأني فلاح من جيش عرابي مات على الطوابي وراح في بحرك….كأني نسمة فوق الروابي من البحر جاية تغرق في سحرك “. لم يتفاعل الجمهور مع الأغنيات فقط تصفيقاً وترديداً بل واغرورقت العيون بالدمع، كل الصور التي نحبها عن مصر قفزت إلى أذهاننا، الفلاحون الذين يفتخرون بتقديم أبنائهم قرابين في حب مصر، والصعايدة الذين لا يتسامحون في الخيانة ولو كان الخائن ابنهم أو أخوهم. النساء المصريات اللواتي يزغردن لانتصارات تشرين، ويتطوعن في مساعدة الجرحى في المشافي العامة، والبسطاء الذين لا يجدون ما يُحْملوا عليه إلى الجهاد فلا يجدون أغلى من دمهم ليتبرعوا به لجرحى القتال، يصطفون بالعشرات أمام مراكز نقل الدم “وترى أعينهم تفيض من الدمع” إذا لم يسمح لهم الطبيب بالتبرع لضعف أو مرض.
قفزت إلي أذهاننا صور “الكرارين”، الجنود العائدين من ساحات الوغى وهم يقبلون أبنائهم ويحضنون نساءهم بينما ينهال الأرز على رؤوسهم من شرفات المباني. لم تقفز تلك الصور فحسب إلى أذهاننا، بل أحزننا وأبكانا سؤال أين عزك يا مصر؟، أين مجدك يا مصر؟، بل أين أنت يا مصر؟ وبدل أن نخرج من قاعة الاحتفال ضاحكين خرجنا ثكالى بذكريات مصر!!.
قد يكون هذا الحدث بسيطاً ولا يستحق الذكر في مقال صحفي، ولكن محبة الحضور كلهم لتراب مصر، وأهل مصر، وشعورهم بكل مصري هو الحدث الذي لا يستحق الذكر فقط، بل يستحق الوقوف عنده سنوات وسنوات. فهل يجب أن نقف على أطلال مجدك يا مصر؟.
هل أممت القناة يا مصر وهل عبرتِ القناة يا مصر، لتمر فيها بوارج الهمجية الأمريكية فتحتل عاصمة الرشيد؟. هل أصبح فخراً لمصر أن تقول إنها لن تحارب في سبيل غيرها ولا في سبيل أحد؟.
ولماذا لا تحارب مصر في سبيل غيرها، ” لأن في مصر سبعين مليوناً يحتاجون للطعام” ولأن” مصر بحاجة إلى التنمية”. أي تنمية تلك التي يتحدثون عنها؟! فبمجرد أن تسمع العبارة الأولى من خبر تصادم قطارين، تقول من فورك أفي مصر. وإذا سمعت عن عبارة تحترق، قلتَ أليس ذلك في مصر؟. وهل ارتفعت درجات التنمية منذ ثلاثين عاماً أم تراجعت في مصر؟.
المجرم الصهيوني بن أليعازر ، يقتل مائتين وخمسين أسيراً مصرياً عزلاً دون سلاح، فإذا بحكومة مصر، تدرس المسألة وتستدعي السفير الصهيوني في القاهرة، وتطلب نسخة من الفيلم وتفكر وتحك رأسها بإصبعها الخنصر.. أهذه يا قوم مصر؟ لقد شاهدت مصر كما شاهد العالم أجمع كيف أقدمت البربرية الأمريكية على إعدام الشهيد صدام حسين بتهمة قتل بعض سكان الدجيل، وهي تهم كاذبة باطلة، أفلا تقدم مصر على محاكمة بن أليعازر، أفلا تقدم فوراً على قطع العلاقات مع الصهاينة، أفلا تنتقم لهؤلاء الأسرى الذين قضَوا دفاعاً عن كرامة مصر؟ أولا تحرك الجيوش احترماً لأمهات أولئك الأسرى اللواتي زغردن يوماً لاستشهاد أبنائهن من أجل أن تحيا مصر؟؟….أين أنت يا مصر؟ أين أنت يا جيش مصر؟.
فهمنا وقبلنا ألا تحاربوا من أجل غيركم، أفلا تحاربون من أجل أبنائكم، ألا تنتقمون لجنود شجعان ذهبوا إلى القتال كي لا تبكي عيون مصر؟.
واحزناه على أولئك الأسرى، اليوم فقط ضاعت دماؤهم، اليوم فقط عرفنا كم تحترمهم قيادة بلادهم، والمسألة تتعدى حدود ذلك بكثير، ففي الوقت الذي تسكت فيه الحكومة المصرية عن هذه الجريمة البشعة، ولا تنفك تتحدث عن السلام ومعاهدات السلام، واحترام معاهدات السلام، أقول في الوقت نفسه، تضع رجلاً شريفاً في السجن لأنه رفض حراسة السفارة الإسرائيلية في القاهرة. أي أن الحكومة تضع شرفها وعزها، تضع كبريائها خلف القضبان.
حتى ولو عصى الجندي محمد خلف إبراهيم الأوامر العسكرية، كان على الحكومة المصرية أن تفتخر بأن مواطنيها، يرفضون خدمة الصهاينة، كان عليها أن تفرح بذلك وتقول لا يزال أبناء مصر هم أبناء مصر، لم تدجنهم أمريكا ولم يفقدوا عزتهم وكرامتهم أمام الصهاينة. حتى لو ارتبطت الحكومة المصرية بمعاهدات ذل وانكسار مع العدو، فما فعله ذلك الجندي البسيط هو محل افتخار لكل المصريين والعرب. هذا الجندي هو مصر، مصر الحقيقة، وليس الذين يدافعون عن سبقهم في السلام مع الأعداء.
جنود حرب التحرير، وشهداء مصر هم الذين يمثلون مصر، والأسرى الشهداء هم أبناء مجدك يا مصر لا غيرهم ممن يطلبون رضا أعدائهم ويحنون الهامات لغير إلههم.
يا مصر يا عزة العرب، أمعقول من مجد الأحرار إلى ذل الأشرار؟ أمعقول من “خلِّ السلاح صاحي، إلى” أنا بحبك يا حمار”.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....

الجهاد: لن نطلق سراح أسرى الاحتلال ما لم تتوقف الحرب
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمد الهندي، إن المقاومة الفلسطينية لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ما...