عندما يتصدع جدار الديمقراطية الفلسطينية

لم تكن استقالة الحكومة التي شكلتها حماس برئاسة السيد إسماعيل هنية مفاجأة بعد التداعيات الخطيرة للأزمة الفلسطينية الداخلية، واستمرار الحصار الخانق على الشعب الفلسطيني، بالرغم من أن تشكيل تلك الحكومة كان بأغلبية نيابية واضحة، وبتكليف من رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس. ولم نسمع أي تعقيب على هذه الاستقالة، ولم نلحظ أي موقف يوازن بين الترحيب بحكومة الواحدة والأسف على رحيل الحكومة المستقيلة، على اعتبار أن هذه الاستقالة مثلت استحقاقا وطنيا لحقن الدم الفلسطيني، وخطوة في اتجاه تشكيل حكومة الوحدة، وهو الأمر الذي يتطلع إليه كل مواطن فلسطيني.
ولست أدري إن كانت هذه الاستقالة قد تركت أي أثر في وجدان المواطن الذي يعي معنى الحياة الديمقراطية، والذي يفترض أنه مارسها بوعي وإدراك، وبرغبة عارمة في التغيير والإصلاح، بصرف النظر عما حققته الحكومة من رغباته وتطلعاته. وهكذا، وفي خضم الاحتفاء بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، لم نسمع كلمة أسف على رحيل الحكومة الفلسطينية العاشرة.
الحكومة التي شكلتها حماس استقالت، ومن يدري، هل تعود لتشكيل حكومة لوحدها في المستقبل أم لا. ولكن الأكيد أن حماس ثبتت لنفسها مكانا، ربما ذا شأن كبير، في المعادلة السياسية الفلسطينية. ومن يدري، فربما تعود لتشكيل الحكومة من جديد في المستقبل، ولكن فقط في حال توفر الوعي الكافي للمفاهيم الديمقراطية، ووفق الحق الطبيعي لأي فصيل أو حزب سياسي يحظى بأغلبية برلمانية مطلقة بتشكيل حكومة، وفي ظل مناخ سياسي فلسطيني وإقليمي ودولي ملائم.
ولا بد من الإشارة هنا إلى نقطة هامة، حظيت باهتمام المراقبين ووسائل الإعلام بعد فوز حماس وتشكيلها للحكومة، وهي مسألة مشاركة الإسلاميين في العالم العربي في الانتخابات واحتمالات فوزهم. وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على إمكانية تقبل النظام الدولي، والنظام العربي كذلك، لمثل هذا الأمر الذي يشكل، وفق الرؤية الغربية، تهديدا للاستقرار في المنطقة. فالمخاوف العربية من التجربة الفلسطينية ظاهرة للعيان، ولا تحتاج إلى كثير نقاش. بل ويؤكد مراقبون أن الحصار حدث بمباركة عربية، بل وبمشاركة فاعلة من قبل بعض الدول التي تعتبر نجاح تجربة حماس تهديدا لاستقرارها الداخلي. ويتبادر إلى الذهن تجربة الجزائر التي أسقطها العسكر، بمباركة غربية، وربما عربية، في سابقة بشعة لمحاربة المشاركة الإسلامية في العملية الديمقراطية، وهي الديمقراطية التي يبشر بها الغرب، يجعلها مبررا لحروبه ضد الأنظمة الاستبدادية.
تصدع في جدار الديمقراطية
أن تتوالى الضغوط على حكومة لدفعها إلى الاستقالة، فإن هذا قد يكون مفهوما، ومقبولا في الدول الديمقراطية، فقط في حال لم تقم هذه الحكومة بواجبها، وفي حال حادت عن مصالح شعبها. ولكن في الأحوال الطبيعية، فإن الحزب صاحب الأغلبية يبقى صاحب الحق في الاستمرار في الحكم حتى انتهاء فترته، وبالطريقة التي يراها مناسبة. لا أقول هذا دفاعا عن حزب أو حركة، ولكن في اعتقادي أن العملية الديمقراطية يجب أن تحترم، وأن يعطى الحزب الفائز الفرصة لكي يحكم، وأن يتم الأخذ بمضمون الديمقراطية، لا بقشورها.
ومن البديهي القول أن المعاناة الفلسطينية خلال فترة حكومة حماس بلغت أوجها. واشتد الحصار، وانقطعت الرواتب، وتدهورت الأوضاع الأمنية إلى درجة لم يسبق لها مثيل. وقد وصلت الحكومة بالفعل، تحت وطأة الحصار وتردي الأوضاع، إلى حالة تعجز الكلمات عن وصفها. ووصل الحد أيضا بكثير من الناس إلى درجة يتطلعون فيها إلى حدوث تغيير للخروج من المأزق، رغم قناعة الناس أن ما يحدث ليس خللا في الحكومة أو مواقفها، ولكنه الصلف في مواقف الدول المعادية للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
الحكومة، من جهتها، سعت بكل ما تملك من قوة إلى الصمود في وجه الرياح العواتي، وعملت على توفير الأموال رغم الحصار الخانق، وحاولت إصلاح ما يمكن إصلاحه ضمن الإمكانات المحدودة. وحاولت كذلك التصدي للانفلات الأمني، بالإضافة إلى سد الثغرات التي تسبب بها اعتقال الوزراء والنواب. وباختصار، حاولت ترميم التصدع في الجدار الفلسطيني بكل قوة، ولكن الأوضاع الداخلية كانت الأكثر قساوة في وجه الحكومة.
لا مناص من القول أن الوضع الفلسطيني بشكل عام له خصوصية، ومن الصعب الحكم عليه بالمقاييس الديمقراطية المعروفة. فأي حزب سياسي في العالم يفوز في الانتخابات، وبأغلبية برلمانية، يستطيع أن يحكم ضمن شروط معروفة، أهمها، امتلاك خيوط الحكم، وتحديدا الاقتصاد والأمن. فإذا ما تمكنت الحكومة من توفير الأموال التي يقوم عليها الاقتصاد، وإذا ما تمكنت من السيطرة على الأوضاع الداخلية والحفاظ على الأمن، وامتلاك زمام الأمور الداخلية، فإنها وبلا شك ستتمكن من الاستمرار بإدارة دفة الأمور. وهذا ما لم يتوفر للحكومة التي شكلتها حماس، بل لم يُسمح بتوفره أصلا.
لنضع السؤال مرة أخرى بشكل مباشر، ونقول: إذا حصل حزب ما على أغلبية برلمانية، فلماذا يضطر للاستقالة؟
كان من المفترض أن تتحمل كافة القوى الفلسطينية المسؤولية، وتدافع عن الخيار الديمقراطي بكل قوة، وأن تمنع سقوطه. ولكن الحصار والضغوط الدولية، وجدت شقوقا في الجدار الفلسطيني، استطاعت أن تنفد من خلاله، وأن تثبت أن الموقف الفلسطيني ليس واحدا، وليس متماسكا، وهو بالفعل كذلك.
وحتى تتضح الصورة أكثر، دعونا نفترض حدوث عكس ما حصل تماما. فلو افترضنا أن الحصار الإسرائيلي والدولي على الرئيس الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، امتد ليشمل قطع المساعدات، وبالتالي توقف الرواتب، فمن يمكن أن يقبل تنظيم معارضة داخلية عارمة، ومظاهرات حاشدة ضد الحكومة والقيادة الفلسطينية التي، حسب ادعاء المعارضة، “فشلت في توفير الرواتب”؟
أعتقد أن لسان الحال، وبإجماع فلسطيني سيكون أن حكومة الرئيس عرفات صمدت في وجه الضغوط الدولية، وأن العالم يعاقب الشعب الفلسطيني على صموده ورفضه للإملاءات الدولية. ولن يكون من المقبول على الإطلاق أي خروج عن “الصف الوطني”. بل سيكون الحل المنطقي هو الالتفاف حول الحكومة حتى يتم تجاوز الأزمة.
مسوغات حكومة الوحدة
في الأعراف الدولية تلجأ الأحزاب إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطني، وحكومة وحدة وطنية، في الغالب حينما يعجز الحزب الأكبر عن تشكيل حكومة لوحده والحصول على أغلبية برلمانية. ولا نعرف حكومة في العالم تحظى بأغلبية برلمانية لجأت إلى تشكيل ائتلاف وطني، أو حكومة وحدة، اللهم إلا في حالات استثنائية جدا، مثل حالات الحرب والأزمات الطاحنة. وأعتقد أن هناك من يتفق معنا في أن التجربة الفلسطينية يمكن تصنيفها في هذا الإطار. فقد مر الشعب الفلسطيني خلال عام 2006 بواحدة من أشد الأزمات قساوة في التاريخ المعاصر، من حصار دولي، وسياسة إسرائيلية خانقة، فضلا عن أخطر حالة مرت على الشعب الفلسطيني، ألا وهي الاقتتال الداخلي.
ولكن مع ذلك، فإن السؤال الكبير يتمحور حول مدى تماسك البناء الفلسطيني الداخلي، ودرجة تأهيل هذا البناء لقوى الشعب الفلسطيني السياسية وفصائله المقاومة، لتقديم الدعم الكافي لحكومة فازت في انتخابات ديمقراطية، شهد العالم بأسره بنزاهتها، بالرغم من التفاف كثير من الناس حول الحكومة التي تشكلت وفق شرعية فلسطينية غير منقوصة.
لقد بدا واضحا أن بعض القوى السياسية الفلسطينية وقفت موقف المتفرج في أحلك الظروف تجاه الحكومة التي شكلتها حماس، بل ولم تقدم حتى أدنى مساندة معنوية لها. بل إن الحكومة، ومعها حركة حماس، اتهمت وبكل صراحة ووضوح بعض الجهات باغتنام الفرص لتوجيه السهام عليها عندما كانت الجهود منصبة لإنهاء حالة الحصار. وفي نفس الوقت لم تقدم هذه القوى تصورا لكيفية الخروج من الواقع المتأزم، رغم أنها كانت تكتفي بالقول أن على حماس أن لا تعترف بإسرائيل، دون أن تسهم في إسناد موقف الحكومة. فكانت المصلحة الضيقة في مواقف هذه القوى واضحة. وقد صرحت الحكومة مرارا بأن هناك قوى فلسطينية وقفت وراء ما يسمى بـ”الانفلات الأمني”، وحملة الاعتداءات على المؤسسات الفلسطينية، بما فيها مؤسسات السلطة من تشريعي ومقر رئاسة وزراء وغيرها.
أما مواقف بعض التيارات الإسلامية فقد كان صمتها غريبا، ولا يمكن تفسيره على الإطلاق. فهي لم تتعلم من القوى الوطنية اللبنانية التي ساندت المقاومة وشكلت معها جبهة موحدة.
وهكذا، اضطرت الحكومة إلى خيار تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وهو في اعتقادي خيار رائع بكل المقاييس، ولا أرى من يمكن أن ينتقص من هذا الخيار.
ولكن ما نشير إليه هنا هو المناخ الذي يفترض أن تتشكل فيه حكومة الوحدة الوطنية. فهناك فرق شاسع بين أن يتم تشكيل هذه الحكومة بالتوافق والحوار، وبين أن تشكل بالضغوط الداخلية والخارجية، وبفعل الاحتراب الأهلي. ومع ذلك، فقد رحب الجميع بتشكيل هذه الحكومة، وبضرورة إنجاحها، على اعتبار أنها لا تمثل فقط الإجماع الفلسطيني، بل إنها الوسيلة الأنجع في مواجهة الحصار، فأصبحت مطلبا وطنيا لا خلاف عليه.
وهنا لا بد من التأكيد على أن ترسيخ المفاهيم الديمقراطية يجب أن تسود، والسبب بسيط، وهو أن فوز أي من الفصائل في المستقبل يجب أن لا يكون سببا لأي حالة من عدم الاستقرار السياسي، بل العكس هو الصحيح. فمن المهم جدا أن ندافع عن الخيار الديمقراطي في وجه العالم، ومن المهم كذلك أن نعزز قوة أي حكومة في مواجهة التهديدات الخارجية. وهذا الأمر لا يتعارض مع مفهوم المعارضة السياسية التي يجب أن تنصب على تقديم المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية، وعلى حرمة التعاطي مع أية مواقف سياسية خارجية معادية للوطن.
إنني أعتقد أن من أبرز مهام حكومة الوحدة الوطنية، إن كتب لها التشكل والاستمرار، أن تعمل على ترميم التصدع الذي حدث في شقوق الجدار الديمقراطي الفلسطيني، وأن تعمل على نشر ثقافة الديمقراطية ومفاهيمها، حتى نتمكن من إحاطة العملية الديمقراطية بحماية شعبية وحزبية على السواء، وبقرارات فلسطينية خالصة، ودون الانقياد إلى أجندة خارجية، سواء كانت عربية أم دولية.
وبصراحة أكثر، فإن التجربة التي مر بها الشعب الفلسطيني خلال الفترة المنصرمة تدعو إلى الإشفاق على مستقبل الديمقراطية الفلسطينية، التي تذوقنا طعمها لأول مرة، وبشكل منقطع النظير، في انتخابات الخامس والعشرين من يناير 2006. وهذا الأمر يفرض علينا، وبشكل لا يقبل الجدل، أن نعمق ثقافة الديمقراطية وحرية الاختيار، واحترام هذا الاختيار الذي يعبر في نهاية المطاف عن إرادة الشعب
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...