السبت 10/مايو/2025

اتفاق مكة… عمود النار

نور الدين النابلسي

لم أسع للتعليق على اتفاق مكة خلال الفترة الماضية سعياً  للابتعاد عن التلقائية و ردة الفعل العاطفية، واقتراباً من الحد الأقصى للقراءة المنطقية المتزنة المستندة على وقائع ما بعد الاتفاق ، كل ذلك حتى لا يتهم البعض بالمبالغة أو الحزبية في التقييم و التحليل،والآن و بعد ما يزيد عن الأسبوعين، فإن ( رأينا ) يقول،

 أولاً”: اتفاق مكة والامتحان الأول:

قفزاً عن تفاصيل الاتفاق الذي باتت مفرداته معروفة للجميع، فإن هذا الاتفاق وخلال أقل من أسبوع دخل في امتحانه الأول ( الفيرست بلغة الجامعات!!) في لقاء عباس- أولمرت – رايس. وتأسيساً فنحن و برؤية إستراتيجية نفهم هذه اللقاءات في إطار خدمات سياسية مجانية لحكومة صهيونية يقول عنها أصحابها أنها “أم الإخفاقات” و لوزيرة أميركية يعارض سياسات إدارتها كتلة انتخابية أميركية تتحرك ما بين ( 60 -70%).

ورغم الواقع فالسيد عباس لا يريد أن يصدق ذلك ، ولا يريد أن يصدق أيضاً أن الأفق السياسي مغلق حتى إشعار رحيل هذه الإدارة الأميركية الهوجاء، وانفض جمع مكة و بدل الرئيس طاقمه المفاوض في مكة بالطاقم الغني عن التعريف ( د.صائب عريقات، نبيل شعث…الخ)و ذهب إلى القدس المحتلة ليلتقي (الست رايس).

إن اللقاء لم يتعد كونه محاولة أميركية للاستمرار بتخدير المنطقة لحين نشل الذات الأميركية من وحل العراق، و محاولة صهيونية لتكثيف الضغط من أجل فبركة إفشال اتفاق مكة وإعاقة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

ولكن يبدو أن الرئيس الفلسطيني قرر و بامتياز إنجاح اتفاق مكة في أولى امتحاناته، لتستمر حتى اللحظة الخطوات الدستورية المتفق عليها.

ينبغي الحذر جيدا بأن تناسباً عكسياً يطرأ ما بين العملية السياسية الفلسطينية الجارية و ما بين الرؤية الأميركية-الإسرائيلية، بمعنى أن صمود التوافق الداخلي أمام هكذا نوع من الاختبارات يعزز فرصة التحرر من النفوذ الأميركي  و التغول الإسرائيلي على شعبنا، وعكساً فإن نجاح الإدارة الأميركية في فرض شروطها على فريق من الفلسطينيين سيعيد الانقسام حول جوهر فكرة الإذعان للأجنبي.

 ولعل من المشجع قراءة المؤشرات التي باتت أكثر فهماً لعدوانية الدور الأميركي في المنطقة كمثل المقابلة التي أدلى بها السيد أحمد قريع عضو اللجنة المركزية لفتح، ولعلنا نرى يوماً السيد قريع يصل إلى استنتاج مفاده أن المنطقة بمجملها و فلسطين تحديداً تمتلك الفرصة التاريخية للتحول إلى منطقة ” خارج النطاق Off Zone ” فيما يتعلق بالهيمنة الأميركية.

 ثانياً: في إسرائيل يخافون:

أصدر “مركز تراث الاستخبارات”- تل أبيب و معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب دراستي حالة لاتفاق مكة و المستقبل السياسي للصراع مع الفلسطينيين على ضوء المتغيرات المستجدة ، وما يلفت النظر في هذه الدراسات و كل التعليق الإسرائيلي على ما حصل أن النخبة السياسية في إسرائيل تخاف ، ولكن مم يخافون؟؟

– نتيجة ( الكل الرابح) التي خرج بها اتفاق مكة أصبحت تعني للإدارة الأميركية و للقوى الدولية أن سحق الحركة الإسلامية مستحيل، بل والأكثر استحالة منه هو فرض أية حلول على هذه الحركة بالقوة والضغط، وليس أدل على ذلك من هذا الانقسام التلقائي في مواقف الرباعية الدولية و الذي أمسى أكثر وضوحاً، بل وامتد الانقسام إلى الحليفين العربيين “المعتدلين” ( مصر و الأردن). باختصار تحولت حماس من هدف للإقصاء والسحق إلى رقم أثبت واجب حسابه في المعادلة الداخلية و الإقليمية. 

– قرؤوا في إسرائيل هذا الموقف المخيف للسيد ( إسماعيل هنية) بإعلانه دعمه المباشر لثبات الرئيس عباس في وجه الضغوطات الإسرائيلي وكأن الدور الذي كان مفترضاً بأبي مازن تنفيذه عبر تسليط الضغط على حماس انعكس ليقوم هو نفسه برد الضغط الإسرائيلي على أعقابه، إن المخيف هو هذه الثنائية المتلازمة الناشئة ما بين الإجماع الفلسطيني ووحدته على برامج السقف الأدنى المسموح به داخلياً وما بين ارتداد كل هذه المعطيات على الضعف المتنامي في تأثير إسرائيل على فريق محدد من الفلسطينيين.

– لم يسمعوا في إسرائيل حتى الآن حديثاً عن الاعتراف أو نبذ الإرهاب وهما مرتكزا شروط الرباعية الأهم ، والتقدير الذي خرجت به نخبة مفكري الصهيونية في مؤتمر هرتسيليا السابع أن مرور الوقت يمنح حماس الفرصة المتزايدة لرفض هذه الشروط لعاملين، الأول : أن حجم الالتفاف الدولي الذي حشدته إسرائيل في سبيل إحكام الحصار قد تلاشى وتحديدا فيما يتعلق بالدول العربية وأوروبا و روسيا، ويعرفون جيداً في الخارجية الإسرائيلية أن إعادة بناء حصار بهذا الشكل لن يكون ممكناً في المدى المنظور، أما العامل الثاني: فهو وقوف إيران على عتبة التأثير الإقليمي تحت مظلة الردع النووي مما سيصعب على إسرائيل معالجة أي من الملفات الأمنية المحيطة بها ( وتحديداً حماس و حزب الله) دون التفكير ألف مرة في هذا البعبع القابع في طهران.

ثالثاً: الرفاق حائرون يتساءلون…

لسنا ممن يفهم العمل السياسي كمجال للمزايدات التاريخية أو استدعاء ما خطّأ البعض به نفسه من الذاكرة، ولكننا سنلتزم بطرح أسس الفكر السياسي الإسلامي و مبادئ الديمقراطية التي يطالبنا البعض بالتزامها على الدوام.

إن رفض المشاركة في أية حكومة هو حق لأي حزب كبر حجم تمثيله أم صغر، ولكن كما ذلك حق له، فحق لنا أن نناقش في مبررات و مرتكزات هذا الرفض.وفي هذا السياق أثار إعلان البعض في قوى اليسار رفضه المشاركة بالحكومة لأسباب سياسية استغرابنا لمتناقضات هذا القرار التي يحملها في دواخله و أسبقياته التاريخية، والأسئلة التي تحلق في الذهن مباشرة:

-أتطالبوننا الآن برفض كل ما من شأنه أن يشير إلى منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن كنتم قد طالبتمونا قبل سنة من الآن بالاعتراف بمنظمة التحرير ( القائمة بحالها المتهالكة) ممثلاً شرعياً باتفاقاتها و اعترافها بإسرائيل؟؟

– هل الصيغ التي طرحت في اتفاق مكة من ” احترام لقرارات منظمة التحرير..بما يحقق المصلحة العليا للشعب الفلسطيني” تنازل سياسي و بيع لفلسطين.. في حين أن الاعتراف الصريح و المباشر بالقرار 242 هو التحليق السياسي بالقضية الفلسطينية؟؟

لن نطرح هنا أيضاً ما أصبح كليشيهاً مكرراً في خطابات بعض هذه القوى حول المشاركة السياسية لأننا نعتقد أن مرحلة ما بعد اتفاق مكة وبدء تفكك الكتل البرلمانية للجهات التي تدعي تمثيلها للخيار الثالث هو أدل الأدلة على فقدان بعض هذه القوى لحافزية الانحياز لما يريده شعبنا و الاكتفاء بالمشاهدة و التفرج بعيدا عن تحمل أية مسؤولية عن السلوك السياسي في هذه المرحلة التاريخية الحساسة.  

 عمود النار!!!

إن خلاصة الوضع الداخلي و الإقليمي و الدولي جعلت من اتفاق مكة بوصفه محاولة جدية لتأسيس شراكة إستراتيجية و برنامج إجماعي مستند إلى وثيقة الوفاق الوطني، جعلت من هذا الاتفاق عموداً من النار، فإن تخلخلت أساساته على الصعيد الوطني فسيحرق في مدى انهياره كل المنجزات الوطنية الفلسطينية، وإن هو ارتفع و تكبر فسيخرق سقفاً حاول الأجنبي فرضه علينا.

ولعل الأيام القادمة بما تمليه عليها مشيئة رب العرش العظيم ستحمل هذا الاتفاق في باقي امتحاناته لنرى أهو عمود من النار علينا أم نار تفتح أمام مستقبلنا سبلاً؟؟

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات