الجمعة 05/يوليو/2024

ثلاثون عاماً على محاورة «الداخل الإسرائيلي»!

ثلاثون عاماً على محاورة «الداخل الإسرائيلي»!

صحيفة الحياة اللندنية

في دورته الثالثة عشرة (آذار/ مارس 1977)، أقر المجلس الوطني الفلسطيني بأهمية الحوار والاتصال مع ما سمي بالقوى اليهودية الديموقراطية والتقدمية المناضلة ضد الصهيونية عقيدة وممارسة. حدث ذلك بعد إلحاح من الذين عُرفوا فلسطينياً بتيار اختراق الداخل الإسرائيلي بزعامة محمود عباس (أبو مازن)، وما أن تلقف هذا التيار الإقرار المذكور حتى أوغل في اتصالاته مع هذا الداخل، التي كانت تجري من قبل بدرجة عالية من السرية والكتمان.

وهكذا فإن القضية الفلسطينية تقف راهناً على مسافة ثلاثين عاماً بالتمام من بدايات الاعتماد على نُصرة «عقلاء “إسرائيل” وقواها السلامية». وإلى هذا المدخل يعود الفضل في إبرام اتفاق أوسلو وتوابعه وعدد آخر من الموادعات غير الرسمية ومن أشهرها تفاهمات جنيف 2003. وعليه، نكون مع القضية في وضع يسمح بتبصر مدى فعاليته لجهتي النظرية والتطبيق. وإن عزفنا عن التفاصيل المملة، واضعين أعيننا وأذهاننا على الخط البياني العريض برؤية شمولية (استراتيجية)، فسوف نتوصل إلى أن الحصاد العام كان سلبياً.

فالمحاورون عن الجانب الفلسطيني، أولئك الذين تحولوا من تَفَهُّم الداخل الإسرائيلي، ومعرفة تضاعيفه إلى التفاوض معه، أسرفوا في التخلي عن مواثيق حركتهم الوطنية وثوابتها من حيث الوسائل والأهداف وأنماط التحالف الداخلية والخارجية. هذا في حين ظل شركاؤهم عاكفين على حراسة قضايا الإجماع الصهيوني الإسرائيلي. وليس بلا مغزى على خلاصة كهذه، أن يكون يوسي بيلين كبير عرابي «التسوية التاريخية» وقوى السلام الاسرائيلية، هو الذي ابرم في كانون الثاني (يناير) 1997 وثيقة مع ميخال ايتان ممثلاً عن قطاعات «اليمين» الصهيوني الاسرائيلي، تحددت فيها الخطوط الحمر (الثوابت) التي لا ينبغي لأي كان في “إسرائيل” أن يتخطاها في التسوية الفلسطينية، وفي الوقت الذي نلمس فيه آثار هذا التوافق الاسرائيلي، تثور الشكوك حول ما إن كان المحاورون الفلسطينيون قد أبقوا على أي ثابت عندهم، بل ويسخر البعض من افتقاد الجانب الفلسطيني برمته الى استراتيجية كفاحية يُعقد بها من الأصل، وكذا من غلبة التكتيك على هذه الاستراتيجية إن وجدت، ومن صعوبة اجتراح الوحدة الوطنية.

لقد أرادت مدرسة اختراق الداخل الاسرائيلي الاشتغال على محور ما حسبته حالة تشظ إسرائيلية متعددة المصادر، بين شرقيين وغربيين، دينيين وعلمانيين، أغنياء مترفين وفقراء مضطهدين، مهاجرين قدامى وجدد، يساريين ويمينيين، مدنيين وعسكر، سلاميين وحزبيين وأثناء الايغال في هذه التوصيفات، فاتها التمييز بين الانقسامات المؤذية والمؤدية إلى صراعات أهلية، وبين التنوع الذي يمكن تنفيسه والتعبير عنه عبر آليات العملية السياسية والمشاركة والتزاحم على صناعة القرار، حدثت هذه السقطة على رغم اعتراف شيوخ هذه المدرسة بأن “اسرائيل” «دولة ديموقراطية» يسمح فيها للبعض بالتغريد خارج السرب ولكن في حدود قواسم مشتركة معلومة، كالتي أثبتتها وثيقة بيلين – ايتان ولم تنتهكها قوة حزبية أو حركة حتى الآن.

والشاهد بعد التجربة الممتدة، أن «السلاميين الإسرائيليين» كانوا الأكثر فطنة ووعياً بحدود حركتهم، وبنوازع شركائهم الفلسطينيين. نفهم ذلك من أن الداخل الفلسطيني اليوم هو الأقل اجماعاً على اهدافه ووسائل تحقيقها، أو لعلنا نقول بصيغة أخرى، إن المحاورين الإسرائيليين تمكنوا بدورهم من التلاعب بالداخل الفلسطيني، بحيث بدا هذا الداخل مرشحاً للصدام الأهلي في مناسبات أكثر بكثير مقارنة بما يعتمل في أحشاء “إسرائيل”، هناك شواهد تخرق العين على هذه الحقيقة المؤلمة، أقله خلال العام الأخير.

ويدعو للأسى ان جولات الحوار الفلسطيني مع معسكر السلام الإسرائيلي قد دارت لثلاثة عقود، وتنقلت في جهات الدنيا الأربع، من طوكيو شرقاً الى واشنطن غرباً ومن أوسلو شمالاً الى كيب تاون جنوباً، مروراً بمدريد واستكهولم وباريس وروما وبوخارست ووارسو وموسكو والقاهرة والرباط وطابا وشرم الشيخ ولندن وأشبيلية وجنيف والبحر الميت، يدعو للأسى، أنه مع ذلك كله، هناك من يتنطع بالقول إن هدف هذه الحوارات كان اقناع الجميع، الرأي العام الإسرائيلي بخاصة، بوجود شريك تفاوضي فلسطيني، هل تحتاج هذه الغاية الى كل هذا الجهد والوقت… ومسلسل التنازلات؟!

أدعى للمنطق والإنصاف أن يكف المحاورون الفلسطينيون عن لوم الذات، فالمشكلة لم تكن سابقاً وليست الآن عندهم بل هي عند شركائهم الإسرائيليين، هؤلاء المراوغين الذين لم يبذلوا جهداً حقيقياً في مخاطبة قواعدهم الشعبية، ولا حاولوا أن يستحثوها جدياً وبالقوة اللازمة، كي تهبط الى الشوارع ومواقع التأثير لتعلن براءتها من الدماء الفلسطينية، ولا سيما في لحظات ومناسبات مأسوية (كجريمة اجتياح جنين وكنيسة المهد عام 2002 أو ترميم مخيم رفح 2003 أو أخيراً محاولة تقويض الاقصى) هل هو كثير أو مستحيل الآن على بيلين المحاور المزمن وزملائه من «دعاة السلام» الاسرائيليين، قيادة عشرات الآلاف ممن يزعمون تمثيلهم لعقود الى حيث ورشات بناء سور الاستيطان العنصري، احتجاجاً عليه واستصراخاً لإيقاف زحفه على أراضي الدولة التي ينادون بها بجوار “إسرائيل”؟

لطالما مارست الحكومات الإسرائيلية المتوالية على مدار حقبة الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي ونتائجه الرسمية وغير الرسمية حروبها على الفلسطينيين، محاورين وممانعين، فيما أبى هؤلاء الدعاة إلا السكوت. والأنكى أنهم في مساجلاتهم وحواراتهم وثرثراتهم المملة، غالباً ما اتخذوا من نتائج هذه الحروب وسيلة لليّ الأذرع وحقائق يبنون عليها طروحاتهم. بمعنى أن كل أمر واقع تفرضه الحكومات الاسرائيلية، على صعيد الاستيطان أو تهويد القدس مثلاً، يمسي عندهم توطئة لموقف حواري جديد، فالتوسع الاستيطاني يمكن التغلب عليه بمبادلة الأراضي، وتهويد القدس نقطة إجماع إسرائيلي لا يسعهم معاكستها وإلا فقدوا صدقيتهم الوطنية (صدقيتهم السلامية أمر عرضي وغير مهم في هذه الحالة!)، وقرار اغتيال الفلسطينيين بأيدي الجيش والمستوطنين لا يستحق ثورة منهم ضد المحكمة العليا وحراستها للقتل خارج القانون والمحاكمة!.. هم عموماً، استخدموا مواسم الحوار للمجادلة عن سياسات دولتهم ومواقفها، وتبييض صفحة الاحتلال وإظهار وجه ليبرالي له، واستطلاع ردود الأفعال الفلسطينية وتنفيسها.

لقد مارس المحاورون الاسرائيليون دوراً مذهلاً في تطويع إرادة شركائهم الفلسطينيين، ويمكن تصوير هذا الدور كما يلي: بذريعة المرونة وثمن السلام، يحصل المحاورون الإسرائيليون غير الرسميين على تنازلات من الشركاء الفلسطينيين الذين هم من أصحاب المقامات الرسمية. وفي جولات التفاوض الرسمية ينطلق المفاوض الاسرائيلي من السقف المنخفض الذي أنتهى إليه هؤلاء الأخيرون متوشحين العباءات غير الرسمية، مطالباً إياهم بالمزيد من المرونة (التنازلات). يفعل المفاوض الاسرائيلي ذلك وهو يهجس بأنه إذا كان «دعاة السلام والوئام» حصلوا على مواقف تنازلية بعينها، فكيف الحال بصقور “إسرائيل” وغربانها، ألا يستحقون الطمع فيما هو أكثر!!

وعليه، كان اضطلاع أنصار نظرية اختراق الداخل الإسرائيلي بدور المحاور والمفاوض عيباً جسيماً في تطبيق هذه النظرية. وهناك عيب آخر هو عدم الالتزام بقرار العام 1977، الذي شرَّع الاتصالات مع القوى اليهودية «المناهضة ضد الصهيونية» في حين جرت هذه الاتصالات والحوارات والمناظرات ثم المفاوضات وتوقيع التفاهمات والاتفاقات مع قوى صهيونية قحة. وبسبب التزامها الفكري والحركي، ما كان لهذه القوى أن تغادر خنادق الإجماع الصهيوني، وللسبب ذاته، يصح الاعتقاد بأنها سعت الى العمل بالفكرة الفلسطينية ذاتها عن التلاعب بالداخل الاسرائيلي ولكن بشكل معكوس، ولعلها كانت أكثر حنكة وأسعد حظاً في ذلك.

* كاتب فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

١١ عملاً مقاوماً في الضفة خلال 24 ساعة

١١ عملاً مقاوماً في الضفة خلال 24 ساعة

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام سجل مركز معلومات فلسطين "معطى" 11 عملاً مقاوماً، توزعت بين اشتباكين مسلحين، وتفجير عبوة ناسفة، واندلاع مواجهات...