قراءة في اتفاق مكة

رغم صعوبة التعويل على استمرار نجاح اتفاق أم القرى – بالنظر الى مؤامرات الانقلابيين التي تكررت لتخريب التوافق الفلسطيني – فان الحدث الجلل يستدعي قراءة عاجلة في معاني ومضامين هذا الاتفاق لما له من انعكاسات خطيرة على فلسطين والفلسطينيين والمشروع المقاوم.
يمكن لبعض الحالمين من أنصار المقاومة التعبير عن ضيقهم وضجرهم باتفاق أعاد اسباغ الشرعية على تعددية فلسطينية تسمح حتى لأمثال محمد دحلان بالعمل السياسي؛ ويمكن للكثير من المأزومين من أعداء المشروع الاسلامي الوسطي الحماسي الاستمرار في هوايتهم الأزلية في الطعن في حماس وتنفيس أحقادهم وحسدهم وأمراض قلوبهم فيها؛ بسبب الاتفاق أو حتى بدون أي سبب! كذلك يمكن للبعض الحالم الآخر في سياق ثان تصور أن كل المتاعب قد انقضت وأن الأيام المقبلة هي أيام سعادة وهناء؛ وأن ما جرى كان نهاية سعيدة لحكاية تربوية؛ أو كان مشابها لفقرة اسدال ستارة النهاية على مسرحية عربية يخرج بعدها الممثلون كلهم من أصحاب أدوار البر والفاجر؛ والناسكة والساقطة؛ والأسود والأبيض وقد شابكوا أيديهم جميعا سعداء بانتهاء الدراما يحيون الجمهور!
كلا نوعي الأحلام أعلاه يجب تنحيته لدى دراسة ما جرى؛ ويجب التركيز على قراءة الحدث وفق منظور مشبع بالشرعية الدينية والمستندات العقلية والوعي والادراك والحذر في تفسير التطورات؛ مع التعامل مع الأحداث حسب طبيعتها وحسب ما تحتاج له من تراخ زمني وسنن كونية لا تتبدل لتتطور للنتائج المرجوة؛ أو لتنتكس لا سمح الله الى المحذور والمخيف منه.
بهذه الروحية وبعقل مفتوح يمكن قراءة أبرز نتائج الاتفاق موزعة تحت عنوانين: الأول يخص نتائج الاتفاق نفسه وهي النتائج التي لا تعتمد على تطورات الأحداث التي ستلي ولم يعد بالامكان نقضها. أما النوع الثاني للنتائج فسيحتاج جهدا ومتابعة من حماس لضمان تحقيقه وسيعتمد على طريقة سريان الأحداث.
فمن القسم الأول يمكن القول أن اتفاق “مكة فلسطين” قد حقق ما نادت به حماس من اليوم الأول لفوزها الانتخابي؛ فقد جاءت فتح أخيرا بعد نحو العام لتقبل ولو من حيث المبدأ بما كانت ترفضه بشدة؛ بل ان القائد الفتحاوي الذي كان قد عد العمل في حكومة حماس عارا وصغارا كان أكثر من يبالغ في الثناء على الاتفاق. حصل هذا دون دفع أي ثمن سياسي ودون الخضوع لشروط حلفاء أمريكا بخصوص الاعتراف باسرائيل والتنازل عن ثوابت القضية الفلسطينية وفق تخريجة لفظية ذكية ومحسوبة.
كذلك رسخ الاتفاق بين أكبر كتلتين في فلسطين – والذي حظي بتأييد باقي الكتل قاطبة – مباديء هامة جدا؛ تجعل من وثيقة مكة سقفا حاميا لفلسطين تماما كما كان اتفاق الطائف للبنان. فاتفاق مكة يرسخ فكرة التعددية السياسية وانتهاء حالة الفصيل الفتحاوي المستولي على الحكومة والمنظمة والدولة حتى قبل أن تقوم؛ ويتبني فكرة اصلاح المنظمة كجزء من عقيدة الوفاق الفلسطيني.
وأحد أهم نتائج هذا الاتفاق أنه أظهر أن فتح لديها ما تخاف عليه وما تقبل من أجله الجلوس مع الآخر الذي تبغض. بالنسبة لحماس فقد كان واضحا على الدوام أن هناك ما تقبل من أجله الانحناء؛ وهو مصالح الناس وحقوقهم والتي في سبيلها قبلت حماس أن تضام في دمائها وكوادرها ووجودها عام ١٩٩٦؛ ونامت على جراح نازفة لمطاعن غائرة في جسدها. أما فتح فقد كان انفلات عناصرها الانقلابية وقواها المرتبطة بالصهاينة والأمريكان يوحي للوهلة الأولى أن القوم قادرون على المضي في التخريب للنهاية ولو انقلبت حياة فلسطين رأسا على عقب؛ فجاء الاتفاق يوضح أنه حتى بالنسبة للانقلابيين والزعران هناك سقف؛ وفتح جاءت بقضها وقضيضها – بين انقلابيين وغيرهم – لتتصرف بمسؤولية الى حد ما. هذا في حد ذاته يؤشر الى اداء صحي وسليم من حماس في المواجهة الأخيرة أجبر فتح على الاقتناع بضرورة الاصغاء لصوت العقل؛ ولعل هذا يعزز نظرية أن الجهاز العسكري لحماس قد لقن الانقلابيين درسا عسكريا قاسيا كشف لهم ضعف قدرتهم على تحقيق نصر عسكري على المقاومة وأعادهم الى أرض الواقع.
اما باقي النتائج التي يمكن دفع الاتفاق لتحقيقها؛ فتحتاج من حماس فطنة المؤمن ودهاء السياسي من ناحية؛ وتجرد المؤمن وقوته واخلاصه وتفانيه من ناحية أخرى؛ وهذه تقع في نقاط عدة منها:
– قبل كل شيء فان الاتفاق سينهي الحصار على فلسطين ان تشكلت الحكومة فعلا؛ لأن الحصار المالي لم يمتلك قوة وطاقة وأفقا لولا أن فئة من الفلسطينيين شاركت المحاصرين – بكسر الراء – أجنداتهم وساعدتهم على النيل من الشعب الفلسطيني. بدون هذا الطابور الخامس فان الحصار يصبح غير ذي معنى وسيصبح أصحابه من عرب رعى بعضهم الاتفاق؛ ودوليين آخرين يراقبون عن بعد – سيصبحون خلوا من الأوراق التي تسوغ استمرار الحصار.
– على حماس وجمهورها دفع حكومة الوحدة القادمة للقيام بنشاط يلبي طموحات الشعب المضحي والفدائي؛ وعلى رأس هذه الأنشطة الدفاع عن المسجد الأقصى على كل الصعد السياسية والاعلامية وحتى العسكرية ان لزم الأمر. لقد حان وقت استغلال الاجماع الشعبي على قضايا هامة مثل الأقصى وحرية الأسرى لفرض الاصلاح على الحكومة الفلسطينية؛ وخلق سابقة لحكومة فلسطينية تضم في جنباتها فتح؛ وتعمل مع ذلك من أجل تحقيق أهداف وطنية خالصة. هذا سيقوي شوكة غير الملوثين في فتح؛ وسيضع الفريق الاستئصالي في الحركة أمام مزاوداته وترهاته عن تمسكه بالمقاومة والحقوق على المحك وأمام تحد شعبي؛ سيقيس كلام هؤلاء المزاودين ضد حماس أيام أدارت حكومتها الخالصة؛ مع عملهم حين جد الجد وعادوا لموقع المسؤولية.
– كذلك يجب اجبار حكومة الوحدة على تبني المقاومة وتحريم التعرض لسلاح المقاومة ويجب اجبارها على دعم المقاومة؛ تماما كما فعلت حماس حين أدارت حكومتها منفردة ورعت عملية “الوهم المتبدد” ولم يوضع في عهدها سلاح ولم يغمد في وقتها سيف.
– علاوة على ذلك؛ يجب الزام حكومة الوحدة بفرض انهاء الانفلات الأمني وضرب عناصره والأسباب الداعية له؛ من تسرب الأسلحة للمشبوهين والأوغاد الصغار وقادتهم ومحركيهم؛ ومن تستر بعض الساسة على عتاة الانفلات الأمني من خاطفين للصحافيين وقاتلين للمجاهدين. بهذا المعنى يمكن وللمرة الأولى اعطاء فرصة لبعض فتح لتطهير فتح من خبثها ونجسها؛ هذا مع عدم استثناء أي مسلح كان من أي جهة كانت ان هو قرر أن السلاح في يده يخوله فرض قواعد اللعب الخاصة به.
– ثم هنالك ملفات الفساد التي يجب أن لا يكون بعد الآن حجة لعدم دفعها؛ ولتلزم حماس حكومة الوحدة والمدعي العام بما ألزم به نفسه حين تحدث عن قضايا فساد بحجم سبعمائة مليون دولار – كجزء من دعاية فتح الانتخابية – ثم لاذ بعدها بالصمت لمدة عام الا من التعرض الرخيص لحماس!
هذه إذا بعض الآفاق التي يمكن للمقاومة الاستثمار فيها وكما قلنا في البداية؛ فان من المبكر التفاؤل بما جرى وبنتائجه؛ لكن الأكيد أن الأوطان وحركة الواقع والتاريخ لن تنتظر المترددين والعاجزين والتائهين؛ وأن المؤمن وصاحب القضية وابن المشروع المقاوم مطالب باستمرار العطاء في كل أوضاع وأشكال الصراع؛ ومطالب بالجاهزية للعمل والتضحية بكل الأدوات المادية والعقلية في هذا التدافع الأزلي بين طريقين؛ والذي لن يوقفه اتفاق ولن تعطله معاهدة! ويجب أن يبقى في الذهن أن ما حدث هو ليس الا حلقة في مسلسل سيستمر بين مشروع المقاومة ومشروع المساومة!
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...

حماس: المؤسسات الأممية هي الوحيدة المختصة بتوزيع المساعدات بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة حماس، إن المجاعة في قطاع غزة تشتدّ بشكل كارثي وسط استمرار الحصار ومنع دخول الغذاء والدواء. وأكدت في بيان...

إطلاق الأسير ألكسندر يفجر غضب عائلات باقي الأسرى على نتنياهو
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام فجّر قرار حركة حماس إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر من قطاع غزة غضب عائلات باقي الأسرى...

حرّاس الأقصى يحبطون محاولة ذبح “قربان تلمودي” في باحات المسجد
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام أحبط حُرّاس المسجد الأقصى المبارك، صباح اليوم الاثنين، محاولة مستوطنين إدخال "قربان حي" إلى باحاته عبر باب...

مرصد عالمي: نصف مليون شخص يواجهون خطر الموت جوعًا بغزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام قال مرصد عالمي لمراقبة الجوع الاثنين إن سكان قطاع غزة بأكمله لا يزالون يواجهون خطر المجاعة الشديد وإن نصف مليون شخص...

تحذير من انهيار القطاع الصحي بغزة مع تعمق النقص الحاد بالتجهيزات الطبية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة في غزة، أن أقسام العمليات والعناية المركزة والطوارئ باتت تعمل بأدوات طبية مستهلكة وفي ظل غياب أصناف...

سجن جندي احتياط إسرائيلي لرفضه القتال في الضفة الغربية
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت هيئة البث الإسرائيلية إن جندي احتياط إسرائيليا سجن 5 أيام بعد رفضه المشاركة في القتال في الضفة الغربية...