الثلاثاء 06/مايو/2025

من ما بعد الصهيونيـة إلى ما بعد الدولـة اليهوديـة

من ما بعد الصهيونيـة إلى ما بعد الدولـة اليهوديـة

كيف يُفكرون وكيف نفكر؟

وماذا لو تقاطعت الأفكار رغم الاختلاف اللانهائي سواء في المنطلق والمبتغى؟

الموضوع المقصود هذه المرة هو التصريح الذي أفضى به مؤخراً المستوطن الصهيوني المتطرف (ليبرمان)، بعد أن دخل حكومة (إيهود أولمرت)، وكلاهما من “الإتحاد السوفييتي” السابق.

قال (ليبرمان) قبل أيام: “أن على (إسرائيل) أن تُقلد النموذج القبرصي، بأن يتم فصل السكان العرب واليهود عن بعضهما فصلاً تاماً”.

(ليبرمان) اليهودي الروسي، يُمثل كما يُشاع الآن، النخبة الجديدة التي تصعد لتحكم هذا الكيان الصهيوني، بعد أن شاخت النخبة الإشكنازية ـ اليهود من أصول أوروبية ـ وطبعت الدولة بطابعها. أما اليهود الشرقيون، أو اليهود العرب، فلم يكن، ولن يكون، لهم أن يولدوا نخبة تقود.

إذا صح الاعتقاد بأن النخبة الإشكنازية “إشتراكية” الهوى، وبأنها أقامت هذه المستوطنة البيضاء على هذا الأساس، وهي الوحيدة من بين المستوطنات البيضاء التي استخدمت “الإشتراكية” في احتلالها لفلسطين، وجذب يهود العالم إليها، فيمكن أن يصح الاستنتاج بأن هذه النخبة تعيش اليوم مأزقها الحقيقي بمعنى إخلاء السبيل للمرة الثانية. أما المرة الأولى، فقد أخلت هذه النخبة السبيل لصالح جناحه “اليمين” الليكودي، الذي بدا يُنافسها ويتجاوزها منذ الربع الأخير من سبعينات القرن الماضي مستفيداً من امتطاء اليهود الشرقيين كفقراء وكيمينيين أيضاً. فقد أثبتت قيادة الليكود أنها هي الأقرب إلى رأسمالية المركز، لاسيما حينما بدأت هذه الرأسمالية عبور حقبة العولمة بما انطوت عليه تلك الحقبة من دفن الكينـزية واعتماد الليبرالية الجديدة، والنقودية والخصخصة على مستوى المركز وإعادة التصحيح الهيكلي على مستوى المحيط.

الذي يبدو أن “إشتراكية” الصهيونية لم تعد تنفع مع بلد يجلس في مركز الرأسمالية في حقبة العولمة. ولأن العولمة متوحشة وفاشية بامتياز، ولو كان اسمها “الليبرالية الجديدة”، فإن ما يُناسبها هو فكر فاشي عنصري سياسياً، و(مافيا) اقتصادياً. ومن هنا، نجد أن الكيان ينقل الخطى لترقص على الإيقاع الجديد.

كانت آخر صيحات النخبة الإشكنازية هي مجموعة مؤرخي ما بعد الصهيونية، والتي اكتسبت وهجاً ما لبث أن اختفى، حيث لم تكن نقدية لهذا الكيان بمقدار ما كانت حركة إحياء ثقافي له.

لفت نظري الصديق د. مفيد قسوم، وهو العارف الجيد بالكيان الصهيوني من مدخل عروبي إشتراكي، إلى أن وراء (ليبرمان) رجل آخر يُحركه، هو (اركادي جايدماك). و(جايدماك) هذا مستوطن روسي غزا فلسطين منذ عامين، أما (ليبرمان) فغزاها منذ عام 1978. المهم أن (جايدماك) رجل (مافيا) لديه كما يقدرون هناك 40 مليار دولار، وهو مطلوب للسجن في مختلف دول العالم، باستثناء روسيا والكيان الصهيوني. لذا، فهو يتنقل بين المكانين فقط.

أثناء العدوان على لبنان قام (جايدماك) بتوفير عشرة آلاف خيمة فارهة ومجهزة بكل اللوازم في منطقة بئر السبع ليسكن فيها الهاربون من صواريخ “حزب الله”. هل فعلها “لوجه الله”؟ كما أنه يرعى نوادٍ عربية ويهودية، ويُقيم علاقات مع عرب فلسطين 1948، وقبل أيام عرض شراء مسيرة مثليي الجنس بالإنفاق عليها كلياً شريطة أن تنتقل إلى مدينة غير القدس. وهكذا، يتحول رجل (المافيا) إلى “محسن كريم” وإلى إقامة علاقات متوازية بين العرب واليهود.

برأي د. مفيد، فإن هذا الرجل كما يبدو، ليس معنياً بالصهيونية، وأنه يعمل باتجاه شراء رئاسة هذا الكيان. ربما، ولكن ما أود الكتابة فيه هنا، هو ما قاله (ليبرمان) عن فصل اليهود والعرب كلياً.

في حديث لي في مؤتمر حركة أبناء البلد في الناصرة، عام 1998 (نشر في كنعان العدد 93، 1998، تفكيك الدولة الإشكنازية بالمشروع القومي ص ص 9-47)، قدمت خطوطاً عريضة لاستراتيجية مفادها، أنه طالما لا سبيل إلى دولة واحدة في فلسطين كجزء من الدولة العربية الاشتراكية الموحدة، وطالما قاد اتفاق (أوسلو) إلى حكم ذاتي، فلماذا لا تُعتمد استراتيجية فك الجليل والمثلث عن الكيان والمطالبة باستقلالهما. أو باختصار، تفكيك الكيان لإعادة توحيد فلسطين.
 
واستندت في مطالبة العالم بهذا الحق على ما قدمته دول المركز الرأسمالي من دعم مشبوه لاستقلال الكثير من الدويلات عن الاتحاد السوفييتي وعن يوغسلافيا. وهي المسألة التي وصفتها بأنها الموجة القومية الثالثة، أو المشبوهة. فالموجة القومية الأولى في العالم كانت موجة الدولة القومية في أوروبا الغربية وخاصة في القرن التاسع عشر. وكانت الموجة القومية الثانية هي موجة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث في القرن العشرين، والتي جاءت تقليداً للموجة الأوروبية، ولكن المركز الرأسمالي الغربي المسكون بالاستقطاب حال دون تنمية العالم الثالث، فانعطفت ثوراته، بل انحطت، لتقودها طبقة الرأسمالية الكمبرادورية ولتصبح النخب الطبقية فيه مجرد مساعد لرأسمالية المركز في حقبة العولمة، وهي الرأسمالية التي جعلت من كل العالم مساحة لقطاع عام رأسمالي معولم
هو في خدمة الطبقة الرأسمالية العالمية في طور التكوين، مركزه الغرب ومحيطه المحيط الواسع من فقراء العالم. أما الموجة الثالثة، فهي موجة الاستقبالات التي صنعتها أو دعمتها رأسمالية المركز في حقبة العولمة إي نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحالي الواحد والعشرين.

كانت محاججتي ولا تزال، أنه إذا كان لهاتيك الكيانات حق الانفصال، فلماذا لا يكون لنا كفلسطينيين مثل هذا الحق؟ وكنت إضافة إلى ذلك أرد على أطروحة جعل الكيان “دولة لكل مواطنيها” ، وبالطبع على الداعين للمشاركة في انتخابات الكنيست.

بعض الفلسطينيين في احتلال 1948، اعتقدوا أن هذا الطرح ربما معقول، وإن كان بعيد التطبيق، ولكن مجرد طرحه سيقود إلى عواقب أمنية. ولا أشك في هذا. ولكن، هل يمكن الإرتكاز في حق الطرح على سابقة فعلها وزير في الحكومة الحالية؟ وقد عدت وكتبت التحليل نفسه بشيء من التوسع في كتابي “وباء العولمة” بالإنجليزية.

وكما هو بادٍ للعيان اليوم، فإن حل الدولتين أصبح مستحيلاً، هذا إذا كان ممكناً، على ضوء تجربة (أوسلو) سواء من حيث عدم إلتزام الكيان بما مهره بتوقيعه، أو من حيث قِصَر قامة البرجوازية الفلسطينية حتى عن حكم ذاتي، فما بالك باستقلال، وهو ما تجلى في الفساد، والمساومة، والتمسك بالسلطة على حساب الوطن، وأخيراً احتمال الحرب “الأهلية”. أن ما هو مطروح من الكيان الصهيوني ليس إلا دولة يهودية نقية في كل فلسطين، مع حل مؤقت وهو حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، إلى أن ينـزحوا كلياً من فلسطين. وإذا كان هناك تيار النخبة الجديدة في الكيان هو الذي يطرح هذا الانفصال، فهل أصبح معقول طرحه من مدخل عرب فلسطين في المحتل عام 1948؟

لو قرأنا هذا الاقتراح على ضوء تجربة حرب لبنان الأخيرة، وتراجع قوة الكيان، واتضاح دوره الوظيفي، وما يتردد أن الولايات المتحدة تُعاني هزائم في الوطن العربي ويتراجع دورها الاستعماري، وبالتالي فإن هذا يُقلل من شدة اهتمامها بالكيان، ووجود يهود يطرحون الفصل الكلي بينهم وبين العرب، وحتى وجود يهود يطرحون ضرورة عودة اليهود إلى المنفى، كما يطرح د. (غيلان غورـ زئيف) الذي يدفع باتجاه إعادة تربية اليهود في فلسطين على المنفوية تمهيداً لإعادة الانتشار في العالم وتلافياً لتحول الكيان إلى “إسبرطة شريرة”.

على ضوء هذه التطورات، هل يمكن مراجعة أطروحة مشروع الإنفصال لفلسطينيي 1948، أومناقشتها على الأقل؟ أم أن في الأمر تجديد يرتقي إلى درجة التجديف، وهو ما لم تتعوده أساطين السياسة والفكر في الوطن العربي؟

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات