الثلاثاء 06/مايو/2025

مثقفو بريطانيا والدعوة لمقاطعة إسرائيل

مثقفو بريطانيا والدعوة لمقاطعة إسرائيل

صحيفة البيان الإماراتية

في الأيام القليلة التي شهدت نهاية العام الماضي تلقت صحيفة «الغارديان» البريطانية رسالة أفردت لها مساحة بارزة في صدر صفحاتها وكان أن حظيت الرسالة بقدر كبير من اهتمام الأوساط السياسية والأدبية في المملكة المتحدة .

ترجع أهمية الرسالة إلى عوامل عدة من أهمها ما يلي :

أنها موّقعة من عدد كبير من أبرز وأهم المبدعين الإنجليز، سواء في مجال الفن الروائي (ون بيرغر مثلاً) أو التأليف الموسيقي (بريان إينو مثلاً) أو الفن التشكيلي (كورنيليا باركر مثلاً) هذا بالإضافة إلى كوكبة من الكاتبين والمفكرين منهم الروائية المصرية – العربية الأصل أهداف سويف التي تتمتع بمكانة شديد التميز بين مبدعي الآداب الإنجليزية المعاصرين .

إن الرسالة تحمل في صدرها توقيع ون بيرغر وهو في طليعة الروائيين والنقاد والفنانين الإنجليز وهو الناطق باسم هذه المجموعة من صفوة المثقفين في إنجلترا .

إن الرسالة تعرض لموضوع بالغ الحساسية في الغرب الأوروبي – الأميركي لأنها تتناول “إسرائيل” وسياساتها وسلوكياتها، لا من باب الإطراء أو المجاملة دع عنك الموافقة أو المساندة على نحو ما يفعل «أكثر من لوبي» في الغرب مؤيد للحركة الصهيونية سواء بصورة سافرة لزوم نيل «بركات» اليهود في مجال الانتخابات أو مداراة لهم أو اتقاء شرور آلاتهم الدعائية التي لا تتورع عن أن تشهر سلاح معاداة السامية بوجه كل من ينتقد “إسرائيل” أو يقول كلمة إنصاف بحق العرب أو المسلمين .

في كل حال تناقلت الأوساط الإعلامية رسالة «الغارديان» وكان أن نشرت الكاتبة الإنجليزية شارلوت هيجنز مقالاً استرعت فيه الأنظار إلى مضمون الرسالة التي ألمحنا إليها. ويتلخص هذا المضمون في دعوة جادة إلى «مقاطعة ثقافية» ضد “إسرائيل” بمعنى عدم تقديم أعمال المبدعين الإنجليز الكبار وكتابُهم الثقات لكي ينشرها الإسرائيليون (مهما كانت المغريات) .

ويمضي الروائي الإنجليزي الكبير قائلاً في رسالته :

– هذه المقاطعة (الثقافية) يمكن أن تكون عاملاً يؤدي إلى تغيير السياسة (العنصرية) التي تتبعها “إسرائيل”. صحيح أنها لن تخلّف آثاراً عملاقة ولكنها في كل حال سبيل يعبر عن عدم سكوتنا على ما يجري.. إنها دعوة شخصية (بمعنى غير حكومية) ومن شأنها مساندة الإسرائيليين الذين يعارضون حكومتهم، كما أنها تشجع الفلسطينيين على أن يواصلوا حياتهم بصورة أو بأخرى (الترجمة الأدق هنا هي أنها تشجع الفلسطينيين على أن يظلوا على قيد الحياة) .

الكاتب الناقد ون بيرغر يبلغ الآن من العمر 80 عاماً وقد خدم في سلك الجندية خلال الحرب العالمية الثانية ودرس في أكسفورد ثم في مدرسة الفنون الجميلة بلندن .. وحين اختار العمل بالصحافة أمضى سنوات في موقع الناقد الفني لعدد من الدوريات الإنجليزية داعياً إلى اتبّاع المدرسة الواقعية في الفن حيث كان يذيع آراءه اليسارية التي لم تنطلق من أسس الفكر الماركسي بقدر ما كانت تصدر عن مبادئ الاشتراكية الإنسانية.. بعدها تحول بيرغر إلى فن الرواية حيث تبدت مواهبه الإبداعية ممزوجة بنزعته في رفض الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي .

ويمكن القول بأن هذا النفر من مثقفي الإنجليز ساءتهم بالتحديد تلك النزعة العنصرية السافرة الصارخة التي تتعامل بها دولة الاحتلال الصهيوني مع السكان من عرب فلسطين ..

في هذا السياق تشير الرسالة البريطانية إلى نجاح العالم (خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي) في إنهاء ظاهرة الابارثيد العرقية وكانت الأمم المتحدة تمثل إبان تلك الفترة ضمير العالم المؤسسي كما قد نصفها بمعنى أنها تصدرت حركات المقاومة السلمية .

وتمضي سطور الرسالة قائلة :

– إن تحدي الابارثيد العنصري أمكن محاربته بقدر أفضل من النجاح حيث جاءت الاستجابة الدولية غير العنيفة بمثابة حملة للمقاطعة ثم واكبتها الدعوات إلى عدم توظيف استثمارات لدى النظام العنصري (في جنوب أفريقيا) إلى أن استكملتها العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة مما أدى إلى تغيير النظام العنصري دون إراقة الدماء .

ثم تضيف رسالة المثقفين والمبدعين الإنجليز :

وها نحن نشهد اليوم كيف أن جموعاً من مثقفي فلسطين من أساتذة ومعلمين ومؤلفين وسينمائيين وأعضاء المنظمات الأهلية وقد دعوا إلى مقاطعة ثقافية – أكاديمية (جامعية) مماثلة ضد “إسرائيل” مما قد يرسم مساراً جديداً أمام تحقيق السلام .

والحاصل أن هذه لم تكن الدعوة الأولى في الغرب إلى مقاطعة “إسرائيل” أو التصدي لسياستها العدوانية أو العنصرية.. لقد سبقتها دعوات أخرى في جامعات أميركا على مدار السنوات القليلة الماضية .. وسبقها في ربيع العام الماضي بالذات نشر الدراسة الشهيرة بعنوان «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة» التي كتبها اثنان من كبار الأكاديميين الأميركيين هما ستيفن والت الأستاذ في جامعة هارفارد وجون ميرشماير الأستاذ بجامعة شيكاغو.. وقد أثارت الدراسة عواصف من النقد والتجريح ضد كاتبيْها (رغم أن أحدهما – بالمصادفة – يهودي الديانة) بقدر ما أثارت ولعلها ما برحت تثير اهتمام المحللين والدارسين .

مع ذلك يسترعي النظر في هذا السياق أن من مثقفي إنجلترا من نبّه إلى خطورة الاسترسال في مقاطعة “إسرائيل” ثقافياً.. ولم يكن هذا التنبيه راجعاً إلى الرفض المبدئي لمقاطعة السياسات الصهيونية العنصرية.. بقدر ما كان نابعاً من رغبة التواصل مع عناصر داخلية في “إسرائيل” ذاتها ترفض هذه السياسات المقيتة وتدعو إلى تغييرها .

تنقل الكاتبة شارلوت هيجنز عبارات تعبر عن رأي الفنان الإنجليزي نيكولاي هيتز مدير المسرح القومي في إنجلترا يقول فيها :

إن الطرف العربي سوف يفيد في تصديه للكيان العنصري المغتصب في فلسطين- من رصد مثل هذه الظواهر التي ترفض سياسات “إسرائيل” وتعمل على مقاطعتها أو تغييرها سواء داخل “إسرائيل” أو خارجها .

ثم تنشر الهيرالد تربيون (عدد 22/11/2006) تحقيقاً مسهباً وبالغ الأهمية (بقلم ستيفن ايرلانغر) يتابع فيه نشاط جماعة إسرائيلية تتبنى قضايا الدعوة السياسية، وتستخدم – كما يقول – خرائط وأرقاماً مستقاة من ملفات ومستندات الحكومة الإسرائيلية ذاتها وتشهد بالوثائق الدامغة أن نحو 40 في المائة من الأراضي التي استباحتها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة هي أراض مملوكة ملكية خاصة وموثقة للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال .

تلك طروحات تتناقض بداهة مع ادعاءات “إسرائيل” أمام محافل دولية شتى بأنها تتوخى حكم القانون والمشروعية في تصرفاتها. وسواء اعتمدنا هذه الأرقام أو تحفظنا عليها أو حتى رفضناها فجوهر المسألة هنا يتمثل في أن ثمة حركات ودعوات من داخل الكيان الصهيوني المغتصب ذاته بدأت تنشط وشرعت ترفض أو تعارض أو تتمرد .

والمطلوب من الجانب العربي رصد هذه التحركات ومتابعة هذه الطروحات، ومن ثم يكون النظر موضوعياً في كيفية تحويلها إلى ما يفيد الحق العربي في قضية فلسطين باعتبارها في العالم العربي قضية المستقبل ومحور المصير .

  كاتب مصري

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات