الثلاثاء 01/أكتوبر/2024

رسائل الإعدام المهين

رسائل الإعدام المهين

صحيفة الخليج الإماراتية

لا أفقنا من الصدمة، ولا فارقنا الشعور بالمهانة والخزي، ولا نجحت الأيام العشرة التي مرت في إزالة آثار البصقة التي أ لقيت في وجوهنا صبيحة يوم العيد. لكن ذلك ينبغي ألا يمنعنا من فض حزمة الرسائل التي تلقيناها من العواصم المعنية منذ وقعت الواقعة .

(1)

ثمة حقيقة يتعين الاعتراف بها قبل فض تلك الرسائل، وهي أن الذين أهانوا الرئيس السابق صدام حسين وأرادوا إذلاله والانتقام منه، قدموا له من حيث لا يحتسبون خدمة جليلة لم يحلم بها وهو في محبسه، إذ حولوه من رمز للجبروت والطغيان إلى رمز للكبرياء والشجاعة، حيث رآه الناس في مشهد إعدامه صامداً وثابت الجنان، بينما ظهر جلادوه أقزاماً تخفوا وراء الأقنعة وجرذاناً مذعورة تحاول أن تتخفى من أعين التاريخ .

إن الذين تخيروا ساعة النحر يوم عيد الأضحى موعداً لشنقه، وحرصوا على تصوير ما جرى لحظة بلحظة، كأنما أعمى الله بصيرتهم فأوقعهم في شر أعمالهم. إذ بدا واضحاً أن الغباء وشهوة الانتقام والحقد، هذه العوامل حين اجتمعت فيهم، فإنها غيبت عنهم إدراك جلال مناسبة العيد التي تمس شغاف قلوب مئات الملايين من المسلمين، وعن المعاني السامية والنبيلة التي يستحضرها المسلمون في تلك اللحظات، كما أعمتهم عن تمثل أبسط القيم التي تقرر للناس حق الكرامة في لحظات الموت، ناهيك عن أنهم تخلوا في تلك اللحظات عن مقتضيات المروءة والشهامة التي يجلها العرب والشرفاء في كل مكان .

حين عموا عن ذلك كله وصموا، فإنهم لم يهينوا صدام حسين وحده، وإنما أهانوا عيد المسلمين، وملايين المسلمين، ومشاعر العرب أجمعين. ولأن غباءهم بدا مفرطاً وبلا حدود، فإنهم حولوا مراسم الإعدام إلى طقس مذهبي، فصوبوا سهماً مسموماً إلى العلاقة التي أصابها الوهن في العراق بين الشيعة والسنة، الأمر الذي حول مشهد الإعدام إلى قنبلة ملوثة شديدة الانفجار، انتشرت شظاياها في أنحاء العالم العربي والإسلامي .

بشاعة تصرفهم جعلت كثيرين ينسون سجل صدام حسين وفظائعه، ويتذكرون فقط لحظات الثبات التي وقفها وهو مقبل على حبل المشنقة. ناهيك عن أن منهم من أصبح يترحم على أيامه حين يقارنها بالخراب الذي عم البلاد وأهلك العباد بعد “التحرير”. كما أن التشفي فيه ومحاولة إهانته دفعا الأغلبية الساحقة إلى الانحياز للضحية، ومن ثم الإعجاب بشجاعته والتعاطف معه. وهناك آخرون انضموا إلى صفوف الغاضبين والناقمين، ليس احتجاجاً على ما أصاب الرجل، وإنما غضباً لحرمة عيدهم الذي تم ابتذاله وانتهكت كرامته، ولحرمة انتمائهم العقيدي الذي تعرض للتجريح والإهانة، وغيرة على قيم المروءة والنخوة التي أهدرت في المشهد .

(2)

في العدد الأخير من مجلة “نيوزويك” (9/1) وصف رئيس تحريرها فريد زكريا مشهد الإعدام بأنه “انتقام المنتصرين” ووصف أداء فريق الرئيس بوش في العراق بأنه كان مزيجاً غريباً من “الجهل والسذاجة”. لكني لا أرى في هذه الأوصاف تشخيصاً دقيقاً ولا تفسيراً كافياً لاختيار إعدام الرئيس العراقي السابق بهذه الطريقة في ذلك التوقيت الحساس. أعني في ساعة النحر صبيحة اليوم الأول من عيد الأضحى، علما بأنه تم تجاوز اللغط حول صلة الأمريكيين بتحديد موعد الإعدام، بعدما ثبت أنهم العنصر الأساسي في حسم كافة تفاصيل العملية. وأن كل ما فعلته الحكومة العراقية أنها قامت بالتنفيذ واعتبرته فرصة للانتقام والتشفي .

صحيح أن الانتقام وارد وأن الجهل والسذاجة باتا من السمات الأصيلة لقرارات الإدارة الأمريكية في العراق، لكن إجراء الإعدام وتوقيته صبيحة يوم العيد سلطا الضوء على ما هو أبعد وأعمق من مضمون تلك المصطلحات، الأمر الذي يضعنا بإزاء حالة تجلي فيها الازدراء والاحتقار في أسطع صوره. ذلك أن إلقاء تلك البصقة الجارحة في وجوه مليار و300 مليون مسلم دفعة واحدة في يوم عيدهم لا يمكن الاكتفاء في تفسيره بحسبانه نابعاً من مجرد الجهل والسذاجة. فخطوة بهذه الجسامة لا يمكن لراشد أن يغفل عن تداعياتها في الظروف العادية. ولا يمكن لصاحب القرار أن يقدم عليها في مناسبة عيد ديني هو الأكبر عند المسلمين، إلا إذا كان قد تعامل مع الطرف الآخر فيها (العرب والمسلمون) بحسبانهم كائنات لا قيمة لها ولا كرامة. وليس لديهم ما يستحق الاعتبار، لا العقيدة ولا التقاليد أو الأعراف، وأن ثقافتهم مما يمكن دوسه واستباحته من دون قلق من ردود الفعل .

لو أن الرئيس بوش وفريقه خطر ببالهم للحظة أنهم يتعاملون مع أمة فيها نبض حياة وتخيلوا أن ثقافتها تستحق الاحترام، وأن شعوبها لها شيء من الكرامة وتعرف معنى الغضب لترددوا ألف مرة قبل أن يقدموا على فعلتهم، ولما آوى الرئيس بوش إلى فراشه متهللاً في تلك الليلة، ومحظراً على الجميع إيقاظه تحت أي ظرف، (كما نشرت الصحف) ولم لا يستريح ضميره ويهنأ باله، وهو يعلم أن غاية ما سوف يحدث في الصباح التالي أن تسقط جثة فرد فوق سطح جثة أمة لم يرها إلا فاقدة الحراك ومعدومة الاعتبار؟

تلك هي الرسالة الأهم التي يتعين استلامها مما جرى. ومن يريد منها استزادة أو توثيقاً لخلفيات موقف الازدراء الأمريكي التقليدي بالآخر، فعليه أن يقرأ كتاب الباحث منير العكش: حق التضحية بالآخر أمريكا والإبادات الجماعية. وهو من سجل بتفصيل مثير قصة الوحشية الأمريكية في إبادة الهنود الحمر، أول “آخر” صادفهم الذين كان الأمريكيون يمعنون في إذلالهم وتحقيرهم ويصفونهم بأنهم “عرب” !

(3)

إذا كان الاحتقار هو مفتاح قراءة الموقف الأمريكي، فإن الانتقام الطائفي هو مفتاح موقف السلطة العراقية. ولا يخلو من مبالغة وصفها بأنها “سلطة”، لأنها لا تملك من الأمر شيئاً في حين إن السلطة الفعلية هي للأمريكيين على مستوى، وللإيرانيين على مستوى آخر، وكل الذين يتحركون على مسرح “السلطة” خيوطهم مشدودة إلى هذا الطرف أو ذاك. كما أن كل الذي يشاع عن إقامة الاحتلال لدولة ديمقراطية يسودها القانون ومجتمع مدني تتعدد فيه المؤسسات، هو هراء ومحض أكاذيب. فنحن بإزاء أنقاض وأشلاء دولة تمكنت منها جماعات لها دوافعها الطائفية، التي تريد إعادة صياغة العراق وكتابة تاريخه من هذه الزاوية. وهم في ذلك لم يختلفوا كثيراً عن صدام حسين في تبنيهم للعنف، بل ربما كانوا أسوأ منه. أقله لأن الرجل كان جلاداً لحساب الوطن، بينما هم جلادون لحساب الطائفة. وهذه هي الرسالة الثانية التي تلقيناها في ثنايا مشهد الإعدام المهين. دعك من إهدار القانون في تشكيل المحكمة بواسطة حكومة الاحتلال، وفي إجراءات التحقيق والمرافعة، وفي تنفيذ الإعدام في يوم العيد الكبير (الممنوع بحسب القانون وطبقاً للأعراف السائدة في العالم المتحضر)، وفي شنق الرجل في حين إنه كان ينبغي أن يعدم رمياً بالرصاص باعتباره أسير حرب، إلى غير ذلك من الممارسات التي ندد بها المنصفون والراشدون، وفضحت أكذوبة “دولة القانون”. إذا غضضت الطرف عن ذلك كله وسألت: لماذا أعدم الرجل بتهمة قتل 138 مواطناً عراقياً (هم حصيلة يوم واحد في المقتلة الدائرة حالياً)، ولم يحاسب على قتل خمسة آلاف كردي عراقي بالغاز السام في حلبجة، ولا على غزوه للكويت، أو حربه ضد إيران، أو الجرائم الأخرى التي ارتكبت بحق معارضيه السياسيين؟

ستلوح فكرة الانتقام في الأفق حين تتحرى الإجابة. إذ ستلاحظ أن الذين حاولوا اغتيال الرئيس السابق قبل ربع قرن، أثناء حربه ضد “إيران”، هم من شيعة قرية الدجيل، الذين بطش بهم الرجل إثر فشل المحاولة. ولأن الجماعات الشيعية هي صاحبة السهم المعلي في الوضع الراهن، فإن إشباع رغبتها في الانتقام اقتضى أن يعدم صدام حسين بسبب ما اقترفه بحقهم .

وإذا كان الأبالسة الذين أخرجوا المشهد قد وفروا للمتعصبين فرصتهم في التشفي، إلا أنهم حققوا من وراء الإعدام غرضاً آخر كسبوا به نقطة أراحت خواطرهم. فإلى جانب مجاملتهم للشيعة، فإنهم تخلصوا من الرجل وأسكتوه إلى الأبد. حتى لا يفضي بما لديه من أسرار ويكشف مخزون فضائح الممارسات السياسية التي تمت في عهده، والتي كانت الدول الغربية وبعض العربية ضالعة فيها. ذلك أن الغاز السام الذي قتل به الأكراد في حملة “الأنفال” لم يكن منتجاً عراقياً ولكنه قدم إليه من الدول الغربية “الصديقة”. وحربه ضد إيران كانت مؤيدة بالدعم الأمريكي والعربي، حتى غزوه للكويت لم يسلم من اللغط الذي جرى الزج في ثناياه بدور للدبلوماسية الأمريكية. وخلال سنوات حكمه التي استمرت ربع قرن فإنه لم يكن يتصرف وحده دائماً، وإنما تداخلت مع وتقاطعت أطراف أخرى خارجية بصورة أو أخرى. وذلك كله يمكن أن يفجر ويفضح إذا ما حوكم الرجل عن تلك الجرائم. ولأن إسكاته غدا مطلباً ملحاً لإغلاق الملفات الأخرى، فإن الإعدام كان هو الحل .

(4)

بقيت عندي رسالتان، إحداهما جاءتنا من طهران، والثانية بعثت بها عواصم العرب، الأولى عبرت عنها تصريحات المسؤولين في العاصمة الإيرانية، الذين رحبوا بشنق صدام حسين. واعتبروه “نصرا للعراقيين” (حميد رضا آصفي نائب وزير الخارجية) وهنأوا شعب العراق لأن الرجل ذهب إلى الجحيم (علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن في مجلس الشورى).. وهو ما سوغ لوكالات الأنباء أن تصنف الجمهورية الإسلامية مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، في موقفها من الحفاوة بعملية الإعدام .

لقد شعرت بمرارة في حلقي حين وقعت على ذلك التصنيف. لكن المرارة اقترنت بحزن لم استطع إخفاءه لأن طهران انضمت إلى الشامتين، ولم يستوقفها انتهاك حرمة العيد ولا ما أصاب مشاعر ملايين المسلمين من أذى ومهانة جراء تنفيذ الإعدام صبيحة يومه الأول، ورأيت في تلك التصريحات إيران أخرى غير التي عرفتها أو تمنيتها. غلبت فيها فرحة الانتقام للطائفة على الغضب لما أصاب كرامة عامة المسلمين من انتهاك وازدراء. وهو ما جعلني أتساءل قائلاً: لو أنها كانت إيران الشاهنشاهية، هل كان الأمر يختلف عما عبرت به إيران الإسلامية؟

أما رسالة عواصم العرب فقد عبرت عنها الأصداء القوية لحدث الإعدام في مشرق العالم العربي ومغربه، والتي اختلط فيها الغضب لما أصاب الذات من جرح بمشاعر الإعجاب والافتتان بالصورة التي ظهر بها الرئيس السابق في مشهد الإعدام. حتى الذين آذاهم صدام حسين وأجرم بحقهم نسوا ما أصابهم وأكبروا موقفه، الأمر الذي يشي بحقيقة يتعين الانتباه إليها، وهي أن العالم العربي ضاق ذرعاً بالانكسار والاستخذاء. ومنذ سنوات وهو يبحث جاهداً عن رمز يجسد له الصمود والكبرياء والعزة. ذلك أنه مع كل صفعة نتلقاها، أو مهانة تحل بنا، فإن الناس ما برحوا يهرعون إلى الواجهات باحثين عن قشة كبرياء يتعلقون بها أو رمز للعزة يصطفون وراءه، إلا أنهم في كل مرة يردون إلى

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

3 شهداء و9 جرحى بعدوان إسرائيلي على دمشق

3 شهداء و9 جرحى بعدوان إسرائيلي على دمشق

دمشق - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد ثلاثة مدنيين وأصيب 9 - فجر الثلاثاء- في عدوان إسرائيلي استهدف عدداً من النقاط في العاصمة السورية. ونقلت وكالة...