السبت 10/مايو/2025

اللحن الحزين … صدام شهيداً

زياد أبو شاويش

امتشق الفارس روحه سيفاً فوق هاماتهم ، زغردت النساء ، وارتفعت الأكف كما أصوات الغضب ، وتردد في الفضاء زئير الأسود ، يجوب الدنيا  .  فوق جبينه سكبنا من قلوبنا بقايا النزف الموجع ، ما جادت به مآقينا . وفى الروح اشتد الظمأ ، واشتعل الجمر ليحرق درب الفُجر أضحيةً للوجع الساكن فينا . هذى روح الأمة فماذا يصنعون ؟ يتعالى صوت اللحن الحزين ، فتردده شواطىء دجلة والفرات ، هذا سيد القوم أشاح بوجهه ذي القسمات العربية ، حتى لا يرى دمعة القهر تنزف من قلب الأمة ، فيصير الموت حقيقة ؟ .

تلون أفق بغداد بلون الرماد ، وخيم في فجرها ملاك الصمت ، ليتضاعف صوت مشيته الواثقة فوق رقابهم .

سار القائد كما عهدناه منتصب القامة يبتسم لجلاده ، فالأمة باقية ، ويمد يداً طاهرةً تمسح عن وجه بغداد دموع الحزن ، ويجول بعينيه على كل ذرة رمل في ربوع العراق عزه وفخاره ومجده الباقي بقاء نخيله ومزاراته . وتطرب لابنها الذي يمد يديه ليفتح بوابات بغداد أمام شعاع الشمس فتتجلى حور العين بأبهى صورة . هذى روح الأمة فماذا انتم فاعلون ؟

اقترب يرفل بسلاسله كأسطورة ، ردد المكان الموحش رجع صدى مشيته المتأدة ، وفى جنبات الكون تردد صوت الحب لوطن يستقبل فارسه الذي ما ترجل أبداً ، ويعود مراراً ليلطم وجه الغدر وبوش ، ينقشع الرماد فتشرق أشجار النخيل ويلمع سطح النهر ويبدو اللحن أكثر عذوبة

وحين أشرف الأمر على نهايته ووجفت قلوب الخلق ، أرسل كلماته العظيمة ليبعد عنها الخوف ، وهتف : فلسطين عربية ، فرددت هتافه أرواحنا ، وملائكة السماء ، وبدأ يوم النحر بالشهادة ، فأهدى للشعب وللأمة عهداً جديداً ، وللكرامة المستباحة طوق نجاة .

عدت بخطىً متثاقلة من مقبرة الشهداء بمخيم اليرموك في يوم العيد ، إلى مكتبي ، والألم والإرهاق يلفان جسدي وروحي من كل اتجاه . جلست أفكر بما وقع وأتساءل بيني وبين نفسي : هل يمكن أن يمر المرء بحدث أشد قسوة على النفس من هذا القتل الحاقد بكل دناءته وخسته ؟ هل حقاً كان المنفذون يطبقون العدالة ؟ اجتاحني الغضب واعتصر فؤادي الإحساس بالمهانة ، فأمسكت بالقلم لأكتب ، وبعد أن سطرت جملتين توقف القلم ولم أتمكن من المتابعة ،الأمر الذي استمر لعدة أيام .

كان الحدث رهيباً ، ومشيناً ، وخاطئاً إلى أقصى حد . وبعد أن وضعت القلم جانباً بدأت الأمور ترد إلى ذهني مشوشة ومربكة ، وكلما مر شريط وسيناريو الخطيئة أشعر بالاختناق ، وكم جادت عيني بدمعها دون أن انتبه ، لكن الغصة لم تفارقني حتى الآن .

انتهت الجريمة واكتملت فصولاً فهل انتهى الأمر وحقق الغزاة وحلفائهم أي نتيجة لصالحهم ؟ وهل شفيت صدور الحاقدين بالحق وبالباطل ؟ لم ينته الأمر بل ابتدأ ، وربما يعرف قريباً ألئك الأغبياء كم كانوا على خطأ وأي حماقة صنعوا .

ولأن التناقض أفدح من أن نتجاوزه في موضوع الانقسام الحاد حول شرعية هذا الحدث المروع ، بين الفرحين الشامتين ، وبين الغاضبين المتوعدين ، لابد أن نحاول قدر الامكان فهم خطورتها على العراق ومستقبل الشعب العراقي ، و تبيان أسباب وتداعيات هذه الخطيئة البشعة .

ربما يكون مفهوماً لدى أي كاتب أو متابع حجم الحقد الذي يحمله بعض من تضرر من حكم الرئيس العراقي الراحل ، فالذي قُتل أبوه أو أخوه أو أحد أقربائه وأحبائه في زمن صدام سيكون على الأغلب من الشامتين المؤيدين لإعدامه ، حتى ولو مثل ذلك إهانة لوطنه ، كونه سيختلق المبررات لموقفه في كل اتجاه وعلى كل صعيد ، وقد رأينا نماذج متعددة لهؤلاء سواء في العراق أو بلدان المهجر وسمعنا منهم وممن يمثلهم في حكومة المالكي العميلة كل مبررات اغتيال القائد العربي صدام حسين .  وفى أقوى حججهم وذرائعهم أن العدالة قد تحققت بقتل الرجل وتعليقه على المشنقة بالطريقة المقززة والهمجية كما شاهدنا جميعاً ، وأن صدام حسين أعدم الكثير بهذه الطريقة وبغيرها ، وأن ما جرى معه هو تنفيذ لكلام الله بأن القاتل يقتل ولو بعد حين ، ولا ينسى هؤلاء أن يتحفونا بآيات من كتاب الله للتدليل على وجهة نظرهم .

إن موقف بعض هؤلاء يمكن فهمه ، ولكن من غير اللائق أن نتفهمه وأن نقبل به ، بل لابد من الرد عليهم بالحسنى وبالمنطق الذي نبنيه على أساس مصلحة العراق والشعب العراقي ، وليس من المفيد أن نؤجج الحالة الطائفية المحتقنة أكثر مما هي عليه الآن ، فهذا أمر غير مقبول بالمعنى الوطني ولا القومي وهناك أسباب عديدة لهذا المحظور سنأتي على ذكرها لاحقاً .

وقبل أن أتناول ردى على هؤلاء الأخوة من العراقيين وغيرهم إن وجدوا ، أسمح لنفسي بإيراد مثالين ربما يلقيان الضوء على وجهة نظري الملتقية مع الأكثرية العربية والدولية ممن أدانوا جريمة إعدام القائد الأسير  صدام حسين ، كنتيجة لحكم قضائي عليه ألف علامة استفهام ، هذه الإدانة التي تتناول كل القضية ، منذ أسر صدام وفبركة واقعة الحفرة المعروفة والتي تدل على خسة الاحتلال ، واستهدافاته الشريرة إلى طريقة عرضه السفيهة عبر التلفاز ، مروراً ببدء المحكمة وإجراءاتها الممسرحة وانتهاءً بالحكم والمصادقة والتنفيذ . واليكم الواقعتين :

الأولى سمعتها من صديق عراقي كان تاريخياً من قوى المعارضة العراقية الوطنية ، ثم تحول إلى دعم العراق عبر الوقوف بجانب حكومة بلاده ومع رئيس بلاده في مواجهة الغزو الامريكى الصهيوني ، يقول لي هذا الصديق أن أحد رفاقه من قدامى الحزبيين الذين حكم عليهم صدام بالإعدام ، ونجح في الإفلات من الحكم والهروب خارج البلاد ، وقاسى كل صنوف البعد عن الوطن التقاه عشية تنفيذ الحكم على صدام وكان فزعاً ومتألماً بعكس ما هو متوقع ، فلما سأله صديقي الدكتور جواد فارس ( عضو المؤتمر القومي العربي ) عن أسباب انزعاجه أجاب : كنت أتمنى أن تخرج مظاهرات تندد بقرار الإعدام والنية في تنفيذه لأشارك فيها ، وأنا أشعر أن وطني هو الذي يعدم ، بهذا القرار الامريكى البشع . وقبل أن انتقل إلى الواقعة الثانية أشير إلى أمر لا أحبذ الإشارة له لكنني مضطر لذلك على ضوء ما يجرى وما يتم التخطيط له ، هذا الأمر يتعلق بان هذا الصديق شيعي ، وأيضاً صديقي الدكتور شيعي . والى هنا الأولى .

وفى الثانية وهى واقعة حدثت معي قبل 17 سنة حيث كنت في موسكو بمهمة وكان لدينا مكتب اعلامى به هاتف دولي متميز ، والتقينا في إطار إقامتنا هناك ببعض الرفاق من المعارضة العراقية ، وكان أحدهم لم يكلم زوجته منذ خمسة أعوام وتحدث في الأمر أمامي بحرقة ولوعة آلمتني وطبعاً رافق شكواه صب الغضب على الرئيس العراقي وظُلمه …. الخ من شكاوى من كانوا يقاتلون ضد نظام صدام ، وطبعاً لم يكونوا عملاء لاى دولة خارجية . المهم أنني اصطحبت الرجل إلى المكتب وطلبنا الرقم بمساعدة خاصة من مكتب الهاتف الرئيسي بموسكو ، لان السيدة حرم رفيقنا تقيم في منطقة نائية بالعراق ويحتاج الأمر لأكثر من وصلة للحديث معها ، وهذا ما منع زوجها سابقاً من ذلك . وقد نجح مسعانا وتكلم معها ، وأنا والله لا أستطيع أن أصف لكم طريقة وكلمات هذا الزوج لزوجته ومن يعرف العراق وشاعرية أهله في هذا المقام ربما يستطيع أن يتفهم لماذا انسابت الدموع من عيني وأنا أسمعه يكلم زوجته بعد خمسة أعوام من الفراق المؤلم .

هذا الرجل نفسه ، قابلته بالصدفة في احد شوارع دمشق ، وبعد عناق وحديث المودة المعروف عرجنا على السياسة والوضع العراقي ، وباختصار فقد كان موقف هذا الرفيق السابق مخالفاً أيضاً لتوقعي ، حيث تحدث بغضب عن قضية صدام والمحكمة وقرار الإعدام وطبعاً باتجاه رفض الحكم وإدانة كل إجراءاته المهينة لكل عراقي يحترم بلده وشعبه ، ولعلكم تفهمون سر الاستغراب ، ولكن أضيف معلومة وأيضاً مضطر لقولها وهى أن هذا الرفيق السابق في الحزب الشيوعي العراقي كردي . والى هنا الواقعتين وهما كما ترون توضحان وربما بأكبر قدر من الوضوح ، أسباب رفض الإعدام في ظل الاحتلال وبإرادته باعتباره إعداماً لكل العراق وإهانة وطنية تلحق بشعبه ، وأن قضايا الأوطان لا يتم التعامل معها من منطلقات الرغبة الشخصية ونوازعها العمياء ،  ولا الحقد والرغبة في الانتقام ، وما تلحقه من تدمير للمنطق السديد والرؤية الصادقة والشريفة لمصلحة الوطن والشعب وربما يقول قائل أن موقف الأخوين لا يمثل أغلبية الشيعة أو أغلبية الأكراد وهذا صحيح ، لكن ألا يوضح موقفيهما حقيقة الموقف الوطني الصحيح والمطلوب في هذه المرحلة ؟ وهل هذا إلا دليل على أن هناك نسبة من هؤلاء تدرك الأمور بحسها الوطني وهؤلاء هم من نقصدهم بنداءاتنا للوحدة ولعب الدور الصحيح في وقف تداعيات الخطيئة النكراء بإعدام الأسير القائد صدام حسين رحمه الله . فهل كان إعدام الرئيس الشرعي للعراق بمنطق المصلحة الوطنية والشرف الوطني في مصلحة الوطن العراقي وشعبه الأبي ؟ . وهل ما جرى هو حقاً تنفيذ لحكم قضائي عادل يساهم في تعزيز احترام القانون في دولة الديمقراطية الأمريكية الموعودة والمزعومة ؟ أم أنه قرار سياسي استعماري استهدف ضرب وحدة العراق وإدامة الاحتلال ومصالحه فوق أرضنا العربية ، مستغلاً في هذا أحقاد بعض وكلائه في العراق ، وبصفقة أقل ما يقال عنها أنها صفقة دنيئة وغير إنسانية ، وأن كل من شارك فيها سيدفع الثمن آجلاً أو عاجلاً ، ومن أخذته العزة بالإثم في تبرير الاغتيال إرضاءً لشهوة الانتقام أو حمايةً لمستقبله السياسي ، سيجد في أقرب الآجال شعباً موحداً في مواجهته ومواجهة أسياده بعد أن يتضح للجميع أن الفعل الاجرامى بإعدام صدام حسين وفى يوم العيد لم يكن في مصلحة أي عراقي  ، بل انه جرى ضد مصلحة العراق بشكل متعمد لتسهيل تقسيمه ، ولضمان مصالح أجنبية لا تمت بأي صلة محبة أو حرص على العراق وأهله

ولفهم الأمر بصورة أوضح نذكر من نسى أن الأمريكيين اعتبروا الرئيس الشهيد أسير حرب عندما كانوا يعتقدون أنه يمكنهم مساومته على تسهيل أمرهم في العراق ، مما عنى في حينه عدم تسليمه للحاقدين ، كما عنى عدم تقديمه للمحاكمة ، ثم وبقدرة قادر تحول صدام إلى مجرم عادى ، يتوجب تقديمه للمحكمة بعد أن رفض الرجل كل مغريات السلامة والخروج من العراق على حساب وطنه وكرامته كأسير حرب ورئيس شرعي لبلده  ، وهذا يوضح لمن لا يزال يعتقد بنزاهة الإدارة الأمريكية أو حرصها الكاذب على مصلحة العراق ، بأن حياة أي إنسان عربي أو عراقي هي بلا قيمة إذا لم تكن في خدمة المصلحة الأمريكية ، وهذه ليست المرة الأولى ولا الواقعة الوحيدة التي تثبت هذه النظرية ، ولعل أمثولة شاه إيران البلد المجاور للعراق ابرز هذه الإثباتات وأكثرها فجاجة ووقاحة. وربما يطول الحديث عن هذا الأمر فيما يتعلق بالعراق وطبيعة الأحداث ، والعملية السياسية المتوقفة ، ومعها موضوع المصالحة الوطنية الذي أصبح أمنية صعبة التحقيق إن لم نقل مستحيلة .

أما على الصعيد العرب والاقليمى ، فقد كان الإعدام عملاً أخرق بكل المقاييس سواء لمن وقف يتفرج عليه ولم ينبس ببنت شفة لوقفه ، وأقصد هنا الرؤساء والملوك والسلاطين العرب ، أو من ساهم في دفع الأمر باتجاه التنفيذ مثل إيران والكويت .

ورغم قناعتي الراسخة بأن القرار والتنفيذ هو امريكى ب

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات