السبت 10/مايو/2025

اتركونا من مقولة السلام خيار استراتيجي.. فلسطين عربية

د. عوض السليمان

كنت أحضر مرة خطبة للشيخ محمد الحبش في مسجد الزهراء، في مدينة دمشق. كان الشيخ على ما يبدو قد حضّر خطبة عن منا سبة دينية لم أعد لأذكرها. لكن الشيخ وفي طريقه إلى المسجد، سمع بمجزرة، من مجازر الصهاينة في فلسطين السليبة. فدخل المسجد حزينا، محمر الوجه، ألف إشارة استفهام على وجهه. وقف الشيخ على المنبر، وبدأ خطبة نارية عن إجرام الصهاينة، وختمها بجملة لا أزال أرددها إلى اليوم، نحن لا نحتاج إلى فقه السلام، نحن بحاجة إلى فقه الحرب.

جملة أخرى كان والدي يقولها وكنت أعتز بترديدها دائماً. إن بعض الدواب لا يفهم إلا بالعصا. ولا أبتعد كثيراً لو ذكرت جملة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال” وما غزي قوم في عقر دارهم إلا وذلوا”.

لما سرق العالم فلسطيننا، عاهد العرب أنفسهم على القتال لاسترجاع أرض البيارات الغالية، وشيئاً فشيئاً. بدأ العرب يتنازلون عن فقه الحرب، من قولهم فلسطين عربية إلى قولهم حدود 1967 حسب قرارات مجلس الأمن الذي يعمل فيه العرب بصفة عبيد. ثم إلى قولهم، شعوب المنطقة، ثم إلى تجريمهم سب إسرائيل. ثم تطالعنا الفضائيات مؤخراً بقول وزيرة العدو الصهيوني لما قالت، يجب ألا يحلم الفلسطينيون بحدود 67.

في ظل هذا الضعف العربي، والانهزامية المطلقة، أمام أمريكا وإسرائيل ومجلس أمنهما، يحق للوزير ليفني أن تقول ما تشاء. فهي تخاطب عبيداً، أكثر شيء يفعلونه للاعتراض على هذا الكلام أن يرسلوا وفداً إلى مجلس الأمن، لعله يعود بفردة واحدة من خفي بوش، فقد تعود سابقاً أن يعود بالفردتين كلتيهما.

الحقيقة أنني لم أكن أفهم معنى عبارة السلام خيارنا الاستراتيجي كما يقصدها أصحابها. وسأقول لكم كيف كنت أفهمها. كنت أظن أن معنى هذه العبارة، أن العرب والمسلمين، بنفطهم، وقوتهم، وعقيدتهم، وشجاعتهم، سينتصرون على العدو الصهيوني، وتعود الحاكمية في فلسطين للعرب. وعليه فلن يكون لدينا حروباً مع هذا العدو وسنعيش بسلام دائم، أي بسلام استراتيجي. فهذا طبيعي إذ لم يعد هناك أي وجود للعدو المحارب في بلادنا. فأفراده إما عادوا من حيث أتوا، أو بقوا في ديارنا، كما يوجد أقليات في أي منطقة في العالم.

ولكنني منذ فترة ليست بالقصيرة، صرت أرى عورة فهمي للمسألة وضياع صوابي في حلها. إذ أن العرب يقصدون بسلام استراتيجي مع الصهاينة أن نعيش نحن والصهاينة جنباً إلى جانب متحابين متعاطفين، نسهر سوياً ونقدم برنامجاً تلفزيونياً ربما يكون اسمه “سوى ربينا”.

فحكامنا يريدون أن يتصالحوا مع العدو الصهيوني على أساس” لك نصف بيتي وأرجو أن تسامحني”.

لا أزال أحاول فهم المسألة، دخل الصهاينة فلسطين. جاءوها من بلاد بعيدة، قتلوا أهلها وشردوا شعبها، وارتكبوا الفظائع التي لا يتصورها العقل في دير ياسين وكفر قاسم. ما تركوا نوعاً من أنواع التعذيب والظلم إلا وألحقوه بالفلسطينيين. وبالنتيجة احتلوا البيوت وطردوا أهلها. ثم قالوا لنا تعالوا إلى محادثات سلام. فقلنا لهم على الرحب والسعة، سامحكم الله على ما بدر منكم، ونحن سامحناكم على بيوتنا التي أخذتم وعلى أهلنا الذين شردتم!!.

أهذا هو السلام الاستراتيجي الذي يطمع فيه العرب. تعالوا ننسى فلسطين، وكلا، قليلاً. ثم نتصور هذه القصة. جاءك رجل قوي إلى بيتك فأخذه منك بالقوة وطردك منه وبعد أيام قال لك تعال نصبح أصدقاءً وسأعطيك من بيتك الذي أخذته عنوة، غرفة صغيرة تعيش فيها بشرط ألا يزورك أحد إلا بإذني ولا تأكل إلا بأمري، ولا تصلي إلا عن قولي. هل توافق على هذا الوضع؟ إن كنا نوافق على هذه المهزلة فلا بارك الله فينا. وحتى إن بلغت منا المهانة حداً نوافق فيه على مثل هذا الذل، فإن ليس لنا أن نوافق على التخلي عن ذرة واحدة من تراب فلسطين، لأنه لا يجوز لأي عربي أو مسلم أن يفرط بترابها فهي ليست ملك لأبيه، بل هي رمز العروبة ورمز الأديان. فلا يحق لحاكم أو سياسي أياً كانت صفته، أن يضع تراب فلسطين على طاولة المفاوضات فيتنازل عن بعضها.

الذي يدهشني، كيف يفرط المفاوضون العرب بأرضهم وحقوقهم الساطعة كالشمس!. إذا كنا متفقين على أن الصهاينة جاءوا إلى بلادنا فانتزعوها رغماً عنا، وإذا كنا متفقين أن الرجل ذو الحد الأدنى من الكرامة لا يتنازل عن بيته البتة. فكيف يريدون أن يتنازلوا عن أرض الإسراء والمعراج.

على ما يبدو فإن السياسيين يتفاوضون باسمهم، وليس باسم المهجرين من فلسطين، ولا يعنيهم أن يعود الفلسطينيون إلى ديارهم التي أخرجوا منها بالقوة.

مدن فلسطين، لم يخلقها الصهاينة لتكون لهم، ولا يملكها حكامنا “الموتى” ليفاوضوا حولها فيبيعوا بعضها.

أصبح اليوم عار علينا أن نتكلم عن حيفا ويافا واللد والرملة ..و..و…، ويقولون لك السلام خيار استراتيجي. بمعنى هيا بنا ننسى حيفا ويافا هي لم تعد لنا، فقد سقطت بالتقادم. فعلاً “من يهن يسهل الهوان عليه”.

لو عدت معكم قليلاً إلى المثال الذي ضربته عن الرجل الذي قهرك واغتصب بيتك. كنت أرى وأنا صغير كيف يتصارع الجيران على ذراع واحدة من الأرض، فيتقاتلون وتتدخل الشرطة لفض النزاع. وقد يذهب الفريقان إلى المحكمة، من أجل تلك الذراع، وكل واحد من الطرفين، يقول هذه أرضي، أ أترك أرضي؟!. أقف اليوم متفكراً بمثل هذه القصص أتسائل أ يترك العرب والمسلمون أرضهم وبيوتهم في فلسطين؟ وليس لجيرانهم، بل لأعدائهم، أ صحيح إذاً أن بأسنا بيننا شديد، وأننا أعزة على بعضنا أذلة على غيرنا.

ولقد بلغ الطمي الرؤوس، فالمسألة لم تعد لتقتصر على السياسيين، بل تبعهم علماء السلطان في محاولة مفضوحة لتقريب العدو إلى قلوبنا، فحثنا بعضهم على السلام معه، وأبدى بعضهم اعترافاً ضمنياً فيه. وسكت بعضهم الآخر عن تقديم مبادرات سلام عربية فضائحية نهدي من خلالها، ونحن أحفاد حاتم، بعض فلسطين للصهاينة. كما تراجع فكر الجهاد ضد العدو. واحتلت كلمة “انتحارية ” مكان كلمة “استشهادية” في وصف العمليات الفدائية في فلسطين. وعرض كثير من الأحزاب استعداده لبدء محادثات مع الصهاينة. ولا نعرف ما تخبئه أيام الذل والمهانة لمستقبل فلسطين.

بالنسبة لي، فأنا لا أزال أعيش في الماضي، أكتب في كل الدفاتر، وعلى أغصان الأشجار التي أراها في الطرقات، وعلى رمال الشواطئ، وأكتب على سبورتي التي أعلّم عليها وبكل اللغات، فلسطين عربية من البحر إلى النهر. سأعلم أولادي ليعلموا أحفادهم أنها عربية، وسأطلب مهر ابنتي حفظَ خارطة فلسطين، ومعرفة تاريخها، ولن أحيد عن هذا ولو غير شيوخنا رأيهم فأصبح فقه السلام بالنسبة لهم أعلى من فقه الحرب. ليتني أراك، يا شيخ محمد حبش، مرة أخرى تقول ما قلته في تلك الخطبة، نحن لا نحتاج إلى فقه السلام، نحن بحاجة إلى فقه الحرب.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات