الأحد 11/مايو/2025

ما وراء قناة عباس الخلفية

رشيد
لماذا يسعى محمود عباس لانشاء قناة خلفية للمفاوضات؟ ولماذا يتحدث عن هذه القناة بحماس ويريد لها أن تبحث في ملفات قضايا المرحلة النهائية للصراع مع الصهاينة؟

كما هو معلوم فمحمود عباس هو أحد أعلام الدعوة لمفاوضة الصهاينة من أول أيام فتح منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ وفي تلك الأيام يبدو منطقيا أن داعية المفاوضات يجب أن يتخفى ويتستر ويتغطى ويتعامل بالتقية؛ ففتح حينها والعالم العربي كان يعصف بهما مد ثوري؛ وجو العمل الفدائي كان مسيطرا طاغيا؛ وحديث المفاوضات كان وقتها حديث خيانة ومنكر حتى بمقاييس فتح.

وحتى في الجزء الغالب من ثمانينيات القرن الماضي؛ فان أمر التفاوض بقي عارا وسبة وخطرا محدقا غير محسوب على أصحابه؛ ويكفي أي مغامر من طلاب التمسح بالصهاينة أن ينظر لمصائر عصام السرطاوي وسعيد حمامي من قادة فتح – والذين قتلوا في ظل شبهة القنوات التي فتحوها مع الصهاينة – ليخاف ويتحسب ويحذر! وسواء كان هذا القتل السياسي لحمامي والسرطاوي لغاية نبيلة؛ أو مجرد لعبة تصفية حسابات بين أبوات الثورة ونقمة من “أبو نضال” ضد “أبو عمار”؛ أو حتى لو كان هذا الاغتيال عملية موسادية مموهة باحكام؛ فان فكرة القتل والاغتيال للسياسي الذي يقابل الصهاينة كانت مقبولة بشكل عام وكانت ستجد عذرا سياسيا وأخلاقيا مشروعا ومتقبلا في الشارع والجو الفلسطيني الفتحاوي آنذاك – يوم كان في فتح بقية من ممانعة للخيانة؛ وقدر ما من حلاوة الروح.

لكن الآن وعباس صار رئيسا لفتح؛ وفتح صارت حتى بدون عرفات الذي كان يخلط الهزل بالجد والمفاوضات بحروب ومواجهات التحريك؛ فما الحاجة للقناة الخلفية؟ لماذا يحتاج محمود عباس دربا مستترا لانفاذ ما عكف عليه وآمن به منذ نحو الأربعين سنة وهو الآن قائد فتح العام ورئيس السلطة وكل من حوله من زبانية الرئاسة يزاود عليه في الارتماء على أقدام اسرائيل؟ بل يمكن القول – ويا للسخرية المرة – أن عباس متحفظ نسبيا قياسا ببعض من حوله من أمثال ياسر عبدربه ودحلان الذين يبدوان كمن يحركان الرئيس ويقترحان أجنداته ويدفعانه دفعا للتعنت في سبيل قدسية فكرة التواصل مع اسرائيل بغرض منحها كل شيء مقابل اللاشيء؟

يقول عباس “كانت لدينا فكرة منذ فترة تسمى قصة القناة الخلفية حيث تبنى قناة اتصال بيننا وبين الاسرائيليين بمشاركة أحد اعضاء اللجنة الرباعية أو كل الاعضاء لمناقشة قضايا المرحلة النهائية واعتقد انه عندما تأتي رايس للمنطقة فانه آن الاوان للحديث في هذا الموضوع بشكل جدي”. وأشار عباس إلى أن أولمرت وعد بدراسة المقترح.

وهذا الكلام يزيد في تعقيد الطلسم العباسي ويجعله عصيا على الفهم؛ اذ ما معنى أن يلجأ رئيس محب للمفاوضات للحديث مع الطرف الآخر الراغب فيها وغير المعترض عليها والحديث مع راعية المفاوضات للاتفاق على انشاء قناة خلفية للتفاوض؟ وزاد في تعقيد شيفرة هذه الوصفة أن عباس قال أن القناة لن تكون سرية – الأمر الذي لم يقنع كل وسائل الاعلام والتي وصفت القناة بأنها سرية – فان لم تكن سرية ففيم نقلها للغرف المغلقة في الخلف؟ ناهيك هنا طبعا عن البلاغة السحبانية الوائلية التي عدد فيها محمود عباس بوجه انقبضت ملامحه فوائد هذه القناة؛ حين قال أن منافعها أكثر من مضارها! هكذا بايجاز مخل مضطرب وبكل خفة!

للوهلة الأولى؛ أظن أن ما يحدث هو عين حقيقة منهج المفاوضات من أجل المفاوضات؛ وانعكاس لتطبع عباس بطبع ما عاد بوسعه التخلي عنه؛ وهو فكرة العمل في الخفاء ورعاية مفاوضات مستترة عن الاعلام انخرط هو فيها شخصيا لعقود منذ مطلع السبعينيات أيام كان يقابل نشطاء اليسار الاسرائيلي؛ وانتهاء بأم الكبائر التفاوضية أوسلو! الرجل مولع بالآلية في حد ذاتها؛ وصار ولعه بشكل العمل وظروفه وما يكتنفه من نشاط تحت أرضي مقدما عنده على جوهر الفعل وغايته؛ وهو محاولة تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني من خلال التفاوض…على ما في ذلك التفاوض الخفي من ثغرات قادحة؛ من قبيل عدم معرفة ما يجري في هذه القنوات السرية – كما حصل في أوسلو التي فوجيء بها حتى فريق المفاوضين الفلسطينيين المنبثق عن مؤتمر مدريد – وعدم وضوح الأجندة وعدم وجود ضمانة لصياغة أجندة وطنية يراجعها مختصون وخبراء ويحاسب عليها ويراقبها مجلس اشتراعي منتخب ممثل للناس الذين يتم التفاوض باسمهم وعلى حقوقهم!

لكن في حقيقة الأمر أظن أن غرض عباس لا يتقصر على هذا الجانب النفسي الشخصي المهم. محمود عباس بهذه القناة يمارس صراع البقاء تماما كما كان ياسر عرفات يفعل ذلك؛ لكن مع الفارق أن عباس في تنفيذه لاستراتيجية البقاء هذه فهو مؤمن ومعتقد اعتقادا جازما بفكرة التفاوض وعقيدة التفريط؛ في حين أن ياسر عرفات كان يتقلب بين البندقية والطاولة وكل الأوراق الأخرى في سبيل استمرار زعامته واستمرار قبضه على خيوط اللعبة. فبخلاف استحالة ادخال عباس البندقية أو الجرأة على المناكفة السياسية مع يهود أو أمريكا في جعبة الاسلحة الخاصة به – وكما كان عرفات يصنع ويجمع على مفاوضاته وفساده وألاعيبه – فمحمود عباس لا يختلف عن ياسر عرفات في ادارة معركة الاستمرار والبقاء.

فمن ناحية؛ هو بهذه القناة يزاود حتى على اولمرت ورايس في الدفع نحو تحقيق أهداف الصهاينة! فمن المعلوم ان مفاوضات تجري بعيدا عن الأعين وفي جو خال من المتابعة الرقابية الاشتراعية أو الخبراتية المعلوماتية أو حتى الاعلامية هي الوسيلة الأفضل لانتزاع أكبر كم من التنازلات المجانية؛ خصوصا حين يكون المفاوض المختلى به؛ عميلا سابقا او حتى حاليا من ربيبي الشاباك أو غيرها من معاهد تخريج القادة الفتحاويين والسلطويين المعاصرين!

ومن ناحية أخرى خطوة عباس هذه تخلصه من ضغط اللوبي الأكثر صهينة والأكثر أمركة في طاقمه؛ من خلال أنه يستطيع التخلص من منافستهم له أو مزاحمتهم له بنقلهم لمعالجة هذا الملف السري واغراقهم بما يحبونه من الاختلاء باليهود في قصي المنتجعات والسفر لأبعد أركان الأرض من أجل الضحك والسكر والسفر!

اذا يستطيع عباس كنتيجة لذلك أن يرتب أوراقه مع امريكا واسرائيل وحزبهما في رئاسته – أو الجناح الأكثر تطرفا من حزبهما فيها على اعتبار أنه محسوب هو الآخر على تل أبيب وواشنطن – ويستطيع التفرغ للتمتع بمنصب رئيس فلسطين الفخري الذي تجبى له الأموال من الداعمين الأوروبيين والعرب فيما باقي طلاب الزعامة حوله منشغولون بالتعهر السياسي مع اسرائيل من جهة؛ او بمناكفة حماس والحرب عليها من جهة اخرى.

عباس بقناته الخلفية اذا يقفز برأيي للأعلى ويتخلص من بعض الملفات الهامة ليضمن البقاء؛ وهو بذلك يشبه عرفات؛ مع الفارق في أن الرجل يأخذ عقيدة الخيانة على نحو نهائي قاطع لا رجعة عنه؛ ولا محل فيه للبندقية أو الشهادة ولا حتى على سبيل الاستعراض – شهيدا شهيدا شهيدا…

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات