الإثنين 08/يوليو/2024

من يسعى إلى تفجير الوضع الفلسطيني الداخلي؟

من يسعى إلى تفجير الوضع الفلسطيني الداخلي؟

صحيفة القدس العربي اللندنية

ما كان لأحد أن يشهد حديث د. صائب عريقات للصحافة ظهر يوم الجمعة الماضي (15 كانون الأول/ ديسمبر الحالي) إلا ويستشعر أجواء حرب. ثم جاء خطاب الرئيس محمود عباس في اليوم التالي ليؤكد عزم الطبقة الفلسطينية الحاكمة شن الحرب على الحكومة المنتخبة التي تقودها حركة حماس. في خلفية الخطابين، تداعت أحداث الصدام والنزاع الفلسطيني السياسي، الواحد منها تلو الآخر، من محاولة فاشلة لاغتيال ضابط مخابرات فلسطيني انتهت إلى مقتل أطفاله الثلاثة، إلى اغتيال قاض يعد من قياديي جناح حماس العسكري، إلى الاعتداء المسلح على موكب رئيس الوزراء عند عبوره إلى قطاع قطاع غزة من الجانب المصري للحدود. لم يأت تصاعد هذه الأجواء المسمومة من فراغ؛ فمنذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وبعد فترة تفاوض حول تشكيل حكومة وحدة وطنية، أعلن الرئيس عباس فجأة أن المباحثات وصلت إلى طريق مسدود، وأن لابد من النظر في مسار آخر لحل أزمة العلاقة بين الحكومة الفلسطينية والقوى الأورو – أمريكية. هذا بالرغم من أن قيادات حماس، وحتى إعلان عباس، كانت تؤكد على قرب التوصل إلى تفاهم بين الحكومة والرئيس حول تشكيل حكومة وحدة وطنية. فما الذي تعنيه هذه التطورات في الساحة الفلسطينية السياسية؟

طبقاً للدكتور مصطفى البرغوثي، الناشط الفلسطيني المعروف وعضو المجلس التشريعي، والذي لعب الدور الرئيسي في التفاوض حول حكومة الوحدة الوطنية، لم يكن هناك من مبرر ملموس لإعلان الرئيس المتسرع فشل المفاوضات. بل إن البرغوثي ألمح إلى أن إعلان الرئيس ربما جاء نتيجة تدخلات خارجية، لم تكن تريد لحكومة وحدة وطنية تشارك فيها حماس أن تولد.

من ناحيتها، تشير أوساط حماس إلى الاتجاه نفسه وتقول إن الرئيس عباس، الذي كان من طالب أصلاً بحكومة وحدة وطنية، خضع لضغوط من وزيرة الخارجية الأمريكية، استهدفت إفشال التفاهم الفلسطيني الداخلي حول الحكومة المنشودة.

أياً كان السبب المباشر خلف انهيار مباحثات حكومة الوحدة الوطنية، الذي ولد سلسلة التداعيات المتفجرة التالية، فالواضح أن الرئيس أبو مازن والمجموعة الملتفة حوله لم يكونوا بانتظار الضغوط الخارجية لإطلاق حملة إسقاط الحكومة الفلسطينية. ما وفرته الضغوط الخارجية، ربما، كان التوكيد على أن الولايات المتحدة والقوى الأوروبية والعربية المتحالفة معها باتت مستعدة لدعم مشروع إسقاط الحكومة وإخراج حماس نهائياً من جسم السلطة الفلسطينية، مهما كانت تكلفة هذا المشروع.

أثبت الرئيس أبو مازن منذ تسلمه مقاليد الرئاسة أنه غير قادر على تحمل الأعباء الثقيلة وبالغة التعقيد للقضية الفلسطينية. أبو مازن هو بالطبع أحد القادة التاريخيين لحركة التحرر الوطني الفلسطيني في دورها الحديث، ولكن هذا الميراث لا يعني بالضرورة توفر خصائص القيادة وشروطها لديه. ولعل هذا العجز عن القيادة والتصدي لمتطلباتها هو ما أظهر الرئيس بمظهر الضعف والتردد وفقدان الثقة، ليس فقط فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني الداخلي، ولكن أيضاً وأكثر خطراً في التعامل مع قادة الدولة العبرية وفي مواجهة الضغوط الأمريكية والعربية. كلما ازدادت الضغوط الإسرائيلية والدولية والإقليمية، استدار أبو مازن للوم الطرف الأسهل: الشعب الفلسطيني وقوي المقاومة. ولكن أحداً لا يجب أن يخطئ حقيقة أن الرئيس الفلسطيني هو أيضاً صاحب وجهة نظر، ووجهة نظر لا تتفق ورأي أغلبية شعبه وقواه السياسية، بما في ذلك قطاع واسع من حركة فتح التي يفترض أن توفر القاعدة الشعبية المساندة للرئيس. ولهذا السبب، لتكريس وجهة النظر هذه، أحاط عباس نفسه بمجموعة من المستشارين الذين يتفقون ورؤيته للأمور، أو أنه وجد نفسه تلقائياً بحاجة للمعسكر الذي تقف فيه هذه المجموعة الصغيرة من المستشارين.

ما يمثله الرئيس والمجموعة الملتفة حوله هو في أحد أبعاده غضب الطبقة الفلسطينية الحاكمة من نتائج الانتخابات التشريعية التي حققت لحماس الأغلبية البرلمانية وأعطتها حق قيادة الحكومة، ورغبة هذه المجموعة الجامحة في الانقلاب على نتائج الانتخابات. لا يعكس هذا الوضع بالضرورة صراعاً بين حماس وفتح، فعدد كبير من قيادات فتح رحب بنتائج الانتخابات وبما أوحته من حاجة فتح إلى تصحيح المسار، كما أن المجموعة التي تحيط بعباس من الطبقة الحاكمة ليست جميعها من حركة فتح.

لم تبدأ مشكلة هذه المجموعة منذ تولت حماس مقاليد الحكومة الفلسطينية، بل تعود بجذورها إلى صيف العام 2000. فبعد أن رفض الرئيس الشهيد ياسر عرفات القبول بعرض التسوية النهائية الذي تقدم به الإسرائيليون في كامب ديفيد ودعمه الأمريكيون، لم تخف عناصر من هذه المجموعة معارضتها لعرفات، بل واتهمته (في تطابق مع الجانب الإسرائيلي) بإفشال مباحثات الحل النهائي. وما أن انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في نهاية أيلول (سبتمبر) 2000 حتى أعرب عدد من أعضاء هذه المجموعة، بمن في ذلك محمود عباس، خلافه القاطع مع نهج الانتفاضة ومع انحياز الرئيس عرفات لشعبه. عندما فرض على عرفات الحصار، لم يخف هؤلاء سعادتهم من العزلة والمقاطعة التي فرضت عليه، بل وساهموا في تأجيج الاتهامات الموجهة له في دعم النشاط الفلسطيني المسلح. قبل قليل من اغتيال عرفات، عملت هذه المجموعة علي تقويض سلطته بتنظيم مظاهرات مصطنعة ضده في قطاع غزة؛ كما دعموا وشاركوا في الضغوط العربية والأمريكية التي استهدفت تخلي عرفات عن سلطاته لمحمود عباس وتحوله إلى مجرد رمز وطني. وبعد اغتيال عرفات، لم يبذل هؤلاء جهداً حقيقياً للتوصل إلى حقيقة عملية اغتياله. كانت الانتفاضة الخطوة الأولى في طريق إطاحة الفلسطينيين بسلطة هذه المجموعة، بامتيازاتها، وبتحكمها الأهوج بالقرار الفلسطيني. ثم جاءت الانتخابات التشريعية الأخيرة لتضع نهاية شرعية وقاطعة لهذه الامتيازات والتحكم. ومن هنا تأتي محاولة الانقلاب على الحكومة الفلسطينية، المحاولة التي تغذيها شهوة العودة إلى جنة عقد التسعينات المفقودة.

ومن السذاجة القول بأن هذه المجموعة تتحرك بدافع الحرص علي رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، المعاناة التي تفاقمت بفعل الحصار الذي فرضته القوى الأورو – أمريكية والعربية على الحكومة الفلسطينية. فأغلب أعضاء هذه المجموعة لا يتمتع بجذور جماهيرية، ولا هو يطمئن للإرادة الشعبية. أغلب هؤلاء في الحقيقة يحتقر الشعب. عندما كانت السلطة السياسية والأمنية والمالية في أيديهم، لم يكترثوا بالعودة إلى الشعب وهم يأخذون أكثر القرارات خطورة في تأثيرها على الحق الوطني ومستقبل القضية الوطنية. اعتقلوا الفلسطينيين بالآلاف، وأبقوا الناس في السجون بلا محاكمة ولا اكتراث بقرارات القضاة. لم يتورعوا عن تعذيب المئات، ولا حتى عن القتل تحت التعذيب. وربما لم يتعرض هذا الشعب الكريم، المضحي والصابر، لمثل إهدار الكرامة والإهانة التي تعرض لها خلال سنوات التسعينات الست من عهد السلطة الفلسطينية. وكما استبيحت الحقوق الوطنية التاريخية وانتهكت حريات الناس وكرامتهم، اعتدي على المال العام بلا حساب.

بيد أن هذا هو بعد واحد للأزمة؛ بعدها الآخر والأكثر أهمية هو ذلك المتعلق بالقضية الوطنية. مشكلة الحكومة الفلسطينية الحالية مع الأمريكيين والأوروبيين وبعض العرب ليست كفاءة أعضائها أو نزاهتهم؛ فالجميع يعرف أن أي حكومة ستكون أفضل من الكارثة التي فرضت على الشعب الفلسطيني منذ 1994. مشكلة الحكومة هي في موقفها السياسي، في رؤيتها للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والعربي – الإسرائيلي. لو أن الحكومة الفلسطينية أبدت استعداداً لانتهاج الطريق الذي يدعو إليه الرئيس عباس والمجموعة الملتفة حوله لوجدت من القبول الإقليمي والدولي أضعاف ما يجده الآخرون. المسألة محل الخلاف الآن ليست في الجهة التي ينتمي إليها أعضاء الحكومة أو في خلفياتهم، تماماً كما أن المقاطعة الدولية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية من 1968 إلى 1991 لم تكن في خلفياتها التنظيمية، ولكن في النهج السياسي وطريقة التعامل مع الحقوق الفلسطينية التاريخية. كما أن اغلب القضايا التي تثار في وجه الحكومة الحالية على الصعيد الداخلي ليست نتاج سياساتها، بل هي سابقة عليها وذات جذور ممتدة في الحكم الفلسطيني السابق. الانفلات الأمني في قطاع غزة لم يبرز في الشهور القليلة الماضية، بل يعود لسنوات مضت. والصعوبات المالية التي تعاني منها الحكومة ليست وليدة المقاطعة الدولية وحسب، بل هي أصلاً وليدة النهب والتبذير في غير الموضع الحق والتسيب والاختلاسات التي ميزت الحكومات السابقة. مشكلة الحكومة الحالية الوحيدة، إن كان لابد من أن يطلق عليها مشكلة، أنها ترفض الاعتراف بالدولة العبرية، ترفض العودة إلى نهج التفاوض الذي كرسته السلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، وترفض محاصرة قوى المقاومة والتنكر لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم. وهذا النهج هو ما يسعى الرئيس ومعسكره إلى كسره، أو التعاون مع قوى الخارج للانقلاب عليه.

وحتى هذا الانقسام في الساحة الفلسطينية ليس جديداً. فمنذ ما بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 والساحة الفلسطينية السياسية يتنازعها تياران رئيسان: التيار الأول هو ذلك المؤمن بأن التمسك بالثوابت الوطنية والصبر والصمود سيؤدي في النهاية إلى أن يقتنع العالم بالاعتراف ولو بالحد الأدنى من الحق الفلسطيني؛ والاتجاه الثاني هو ذلك الداعي إلى التوائم مع الأمر الواقع وأخذ توازنات القوى الحالية في الاعتبار من أجل الحصول على ما يمكن الحصول عليه من مطالب. حقق الاتجاه الثاني سيطرة تدريجية على سياسات منظمة التحرير الفلسطينية منذ تبني برنامج النقاط العشر في منتصف السبعينات حتى توقيع اتفاق أوسلو في خريف 1993؛ وربما كان رفض عرفات التوقيع في كامب ديفيد 2000 أول انقلاب ملموس على هذه السيطرة. خلال سنوات الانتفاضة، وإلى أن جاءت الانتخابات بحكومة حماس، شارك الفلسطينيون جميعاً في دحر دعاة التنازل عن الحقوق الوطنية وكسر هيمنتهم على القرار الوطني الفلسطيني. وقد رد الأخيرون بالتواطؤ مع القوى الدولية والإقليمية لعزل الحكومة وحصارها وإضعاف قواعدها الشعبية. وقد كان مدهشاً خلال عمر الحكومة الحالية، الذي لم يكمل عاماً حتى الآن، كيف امتنع الرئيس عباس عن الدفاع عن حكومته، حكومة الشعب الفلسطيني، ووقف ينظر بسخرية واستهتار إلى معاناة شعبه، منتظراً إخضاع الحكومة أو سقوطها.

على نحو من الأنحاء يرتبط وجها الأزمة ببعضهما البعض. فالرئيس ومن يلتفون حوله من أبناء الطبقة الحاكمة لا يسعون إلى استعادة سلطة وامتيازات التسعينات وحسب، بل ويرون أيضاً أن نهجهم وتصورهم للقضية الوطنية هو مؤهلهم الأكبر للسلطة والامتيازات. اليوم لم يعد الفلسطينيون مجبرين على نهج واحد، لأن أمامهم أكثر من خيار؛ وإن سمحوا بعودة الساعة إلى الوراء فلا يلومون إلا أنفسهم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات