الثلاثاء 06/مايو/2025

الصهيونية… عندما يتحدى الواقع الخريطة الإدراكية

الصهيونية… عندما يتحدى الواقع الخريطة الإدراكية

صحيفة الاتحاد الإماراتية

أثبتت الدراسات اللغوية والنسبية الحديثة أن عقل الإنسان ليس مجرد صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات والأحاسيس المادية كما تعلمنا في المدارس والجامعات؛ فالعقل الإنساني مفطور فيه بعض المفاهيم المجردة، مثل الزمان والسببية، ولذا فهو ليس عقلاً سلبياً متلقياً بل عقلاً هو إيجابي توليدي، وهو ليس عقلاً محايداً، لأنه قد اختزن الكثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية والجمالية والرمزية، وكذلك كثيراً من الذكريات والصور. لكل هذا لا يسلك الإنسان كرد فعل للواقع المادي بشكل مباشر وكأنه كلب “بافلوف” الشهير، المحدود بالإطار المادي، داخل الفعل المنعكس الشرطي، وإنما يسلك كرد فعل للواقع كما يدركه هو من خلال ما يسقِطه على هذا الواقع من معانٍ وذكريات ورموز، وهذا ما نسميه “الخريطة الإدراكية” أي صورة منطبعة في ذهن المرء ولاوعيه يتصور أنها في علاقاتها المتشابكة في الواقع وأنها لهذا صورة طبيعية ومنطقية ولهذا السبب ولا يدرك الواقع إلا من خلالها. وحينما تأتيه المعطيات والأحاسيس المادية، فإنه يركز على بعضها ويهمش البعض الآخر، بل وقد يسقطها تماماً .

ونحن نتحرك في إطار خريطتنا الإدراكية، دون وعي منا. وهذا يظهر في عبارات مثل “أنا لا أصدق عيني” أو “هذا شيء لا يمكن تصديقه” بمعنى أن ما يحدث أمام أعيننا (المعطى المادي المحسوس) يختلف تماماً عن الصورة التي كونتها عن الواقع كما يظهر في عبارة مثل “لقد خاب ظني فيه” أو “كنت أتوقع منه كذا وكذا”، فسلوك فلان يختلف عن توقعاتنا كما حددته خريطتنا الإدراكية .

والصهاينة لا يختلفون من قريب أو من بعيد عن بقية البشر فما يحدد سلوكهم ليس استجاباتهم المباشرة للعناصر والملابسات المادية المختلفة المحيطة بهم، وإنما رؤيتهم وإدراكهم لها. وقد جاء المستوطنون الصهاينة إلى فلسطين، وقد أخبرتهم الدول الأوروبية التي أرادت التخلص منهم وأرادت تصديرهم لنا: “إن فلسطين أرض بلا شعب”، وإنه إن وجد فيها شعب فإنه بوسعهم إبادته أو نقله أو استعباده ببساطة، كما حدث في التجارب الاستيطانية الاحلالية الأخرى في أميركا الشمالية وأستراليا حيث تمت إبادة السكان الأصليين أو في جنوب أفريقيا، حيث تمت إبادة بعضهم واستعباد الباقين .

وفي تصوري أن من أسوأ الأمور التي يمكن أن تحدث للمرء أن يتحدى الواقع خريطته الإدراكية. وهذا بالضبط ما حدث للصهاينة إذ اكتشفوا أن فلسطين ليست أرضاً بلا شعب بل يقطنها شعب عريق متماسك يتزايد كماً وكيفاً على مر الأيام، فاهتزت الخريطة الإدراكية الصهيونية وزادت العصبية بين الصهاينة فلجأوا للعنف حتى يتسق الواقع مع تصورهم له. فالعنف هنا على عكس ما يتصور الكثيرون ليس تعبيراً عن الثقة في الذات، وإنما تعبير عن عدم الطمأنينة والخوف، وكلما ازداد الخوف وازداد عدم الثقة في الذات ازداد البطش والعنف .

والخريطة الإدراكية ليست أمراً حتمياً نهائياً، فهي قد تتغير بفعل ضغط الواقع والمعطيات المادية والحسية على عقل الإنسان. خذ على سبيل المثال هذه القصيدة القصيرة التي خطها أحد الطلبة على حائط في الجامعة العبرية .

ليذهب السفارد إلى أسبانيا

والأشكناز إلى أوروبا

والعرب إلى الصحراء

ولتعد هذه الأرض إلى الخالق

فقد سبب لنا من المتاعب الكفاية

بوعده هذه الأرض لكل الناس .

القصيدة رغم بساطتها ونبرتها الفكاهية، تعبر عن تساقط الخريطة الإدراكية الصهيونية والحديث عن أرض الميعاد، والشعب المختار، وعودة اليهود إلى وطنهم القومي! أي أن كاتب القصيدة تخلى عن خريطته الإدراكية لأنه أدرك أنه لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه .

وتعبر الخريطة الإدراكية عن نفسها من خلال ما يسمى بالإجماع الصهيوني، وهي الرقعة المشتركة بين كل التيارات الصهيونية والإطار الذي يتحرك من خلاله المستوطنون الصهاينة، وهي دليل العمل الذي يتبعونه. ومن أهم بنود هذا الإجماع أن اليهود شعب واحد، وأن طليعته هم المستوطنون الصهاينة، وأن “إسرائيل” هي مركز العالم الذي يجب أن يهاجروا إليه. هذا البند الذي يشكل اللبنة الأساسية للخريطة الإدراكية الصهيونية تساقط إلى حد كبير. فبعد أكثر من مئة سنة من الاستيطان الصهيوني، وأكثر من خمسين عاماً من تأسيس ما يسمى “الدولة اليهودية”، أخفقت هذه الدولة في تعريف من هو اليهودي. كما أن المستوطنين الصهاينة اكتشفوا عدم التجانس الذي يسِمُ الكيان الصهيوني .

ويذهب “آفي ديختر”، رئيس “الشاباك” السابق، إلى أن الصراعات الداخلية بين الإسرائيليين أصبحت كفيلة بالقضاء عليهم جميعاً. وفي مقالة بعنوان “رئيس الشاباك ينظر إلى فك الارتباط بعيون فلسطينية”، يرى “ديختر” أن على الفلسطينيين أن ينتظروا فحسب، “فسرعان ما سيلتهم اليهود بعضهم بعضاً في صراعات داخلية”. ويعرض “ديختر” لهذه الأزمة الإسرائيلية من خلال إحدى النكات الإسرائيلية المتداولة: “هبطت طائرة ركاب أميركية هبوطاً اضطرارياً ناجحاً فوق قطعة أرض جرداء في وسط غابة. ولسوء الحظ، كانت تخضع هذه المنطقة لسيطرة قبيلة من أكلة لحوم البشر. ووجد المسافرون أنفسهم يقتادون إلى خيمة، حيث يأمر رئيس الطباخين أعوانه بإطعام المسافرين مدة أسبوع حتى يتم الاحتفال بالتهامهم بعد ذلك. بعد سنة تهبط في نفس القطعة طائرة فرنسية هبوطاً اضطرارياً ناجحاً، ويقتاد ركابها الـ200 إلى رئيس الطباخين الذي يأمر أعوانه بإطعامهم من خيرة الطعام المتوفر. بعد أسبوع يحتفل أبناء القبيلة بوليمة أخرى ملكية. ومرت سنة أخرى حتى هبطت طائرة “العال” تحمل 450 مسافراً إسرائيلياً في تلك البقعة. وجمع كل المسافرين في الساحة، وأخذ أبناء القبيلة ينتظرون تعليمات رئيسهم المعتادة. قال رئيس الطباخين أعدوا الطناجر، ففي هذا المساء ستقام المأدبة، فقال أحد المواطنين في القبيلة متسائلاً: ألن نقوم هذه المرة بتسمينهم لمدة أسبوع كما هي عادتنا؟ فنظر إليه رئيس الطباخين نظرة احتقار وقال: “هؤلاء إسرائيليون يا عزيزي، فهم سيلتهمون بعضهم بعضاً خلال أسبوع” (يديعوت أحرونوت 26 أغسطس 2005) .

ومسألة أن اليهود شعب واحد وأن “إسرائيل” هي المركز، ولذا عليهم الهجرة إليها، هي الأخرى تساقطت تماماً. فيهود العالم سعداء في بلادهم، مستقرون فيها. فيهود العالم الغربي لا يهاجرون، ويهود شرق أوروبا، المصدر الدائم للهجرة قد تناقص عددهم، وهاجر منهم من يريد الهجرة. ولذا يلجأ المُستوطَن الصهيوني إلى قبول مهاجرين نصف يهود وأشباه يهود، بل ومدّعي اليهودية، بسبب حاجة المستوطن الصهيوني للمادة البشرية الاستيطانية لتدور آلة الصناعة والحرب. وقد أدرك الإسرائيليون هذا الوضع ولذلك فإنهم يطلقون النكات على يهود العالم، وعلى هذا البند من الإجماع الصهيوني. والنكتة هي محاولة للتعبير عن إحساس الفرد بتناقض ما توقعه مع ما يراه. فقد شبه أحدهم صهاينة “الدياسبورا”، أي الصهاينة الذين يدافعون عن الصهيونية ولا يهاجرون إلى الوطن القومي المزعوم، بأنهم مثل فرق موسيقى عسكرية تقف على المسرح وتغنى بكل قوة “إلى الأمام” دون أن تتحرك من مكانها. وهناك من يسميها “صهيونية الصالونات”. وقد عرّف أحدهم صهاينة “الدياسبورا” بأن الشخص منهم هو يهودي يجمع الأموال من يهودي ثانٍ لإرسال يهودي ثالث إلى أرض الميعاد !

والله أعلم .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

غارات إسرائيلية تستهدف اليمن

غارات إسرائيلية تستهدف اليمن

صنعاء- المركز الفلسطيني  للإعلام شنت طائرات حربية إسرائيلية، مساء الإثنين، غارات عنيفة استهدفت مناطق واسعة في اليمن. وذكرت القناة 12...