الأحد 07/يوليو/2024

الصهيونية والعنصرية مجدداً

الصهيونية والعنصرية مجدداً

صحيفة الخليج الإماراتية

عندما صدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة 3379، وقف مندوب “إسرائيل” لدى المنظمة الدولية إسحاق هيرتزوغ وبيده نسخة من القرار لكي يمزقه ويرميه في سلة المهملات أمام الإعلام العالمي. وبعد القرار شنت “إسرائيل” والمنظمات الصهيونية في العالم حملة عنيفة لا ضد القرار فحسب، وإنما أيضاً ضد هيئة الأمم المتحدة نفسها التي صدر عنها هذا القرار. وبلغت الحملة ذروتها عندما طالب إسحاق شامير، رئيس الحكومة “الإسرائيلي” السابق، بزوال الأمم المتحدة وبإقامة منظمة بديلة تضم دول الغرب فحسب .

وكالعادة، لم تقتصر ردود الفعل على القرار الدولي على “إسرائيل” وحدها، وإنما شاركتها فيها الإدارة الأمريكية التي لم تترك فرصة تمر إلا لكي تندد به وتعمل على شطبه. وظلت الحملة “الإسرائيلية” – الأمريكية على أشدها والحرب ضد القرار مستعرة إلى أن تغيرت موازين القوى الدولية بانهيار الاتحاد السوفييتي والإقليمية بانهزام العراق في الحرب الأمريكية – العراقية عام 1991، عندها انفتح الطريق أمام شطب القرار 3379 بعد أن وصفه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بأنه كان عاراً على المنظمة الدولية .

“الإسرائيليون” والأمريكيون المؤيدون لهم كانوا يملكون كل الأسباب لإعلان الحرب على القرار وعلى أصحابه. ذلك أن القرار كان يضرب “إسرائيل” في الصميم. كان يكشف حقيقة الحركة الصهيونية -كشكل من أشكال العنصرية-، بحيث جاء -ينزع الشرعية عن “إسرائيل”-، كما وصفه أحد المحللين الدوليين البارزين. ولعل “الإسرائيليين” أدركوا أهمية القرار وخطورته أكثر من الذين سعوا إلى إصداره. ف”الإسرائيليون” والأمريكيون يعون أهمية الصراع الفكري والسياسي، ويقدرون حق التقدير أهمية الإطار الدولي والإنساني للصراع. أما العرب، الذين يمتلكون الحقوق التاريخية في صراعهم مع “إسرائيل” ومع الحركة الصهيونية، فإنهم يميلون إلى التقليل من أهمية تلك العوامل في الصراعات التاريخية. فهل من مبرر لهذا النهج؟

الحجة التقليدية التي تساق هنا هي أن العالم لا يفهم إلا لغة القوة. ولكن هذا منطق خاطئ وخاسر. فالسلاح وحده -هذا مع العلم بأن العرب لم يتفوقوا مرة على “إسرائيل” عسكرياً- لا يحسم الصراعات التاريخية. تجربة الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي هي خير دليل على ذلك. أما اليأس من العدالة الدولية ومن الرأي العام الدولي ومما للحقائق من تأثير في الشعوب وفي حكومات العالم، فإنه ليس في محله. نحن بالعكس نشهد كل يوم مبادرات ذات طابع فكري وعلمي وسياسي رفيع تؤكد صواب التقييم الذي تضمنه القرار الدولي 3379 للحركة الصهيونية .

فقبل أيام قليلة وقع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، كتابه الجديد “فلسطين: لا عنصرية بل سلام”. في كتابه هذا وجه كارتر نقداً متكرراً إلى “الإسرائيليين” لأنهم ينتهكون قرارات هيئة الأمم المتحدة ولأنهم يمارسون سياسات أشد عنصرية من السياسات التي مارسها نظم الابارتايد في جنوب أفريقيا.

لقد سارع الصهاينة إلى اتهام مؤلف الكتاب كارتر بأنه مشوب باللاسامية. ولكن هذا الاتهام لن ينال من مصداقية كارتر الدولية. فهو راعي كامب دافيد، الذي قدم ل”إسرائيل” أعظم خدمة عندما مارس ضغطاً شديداً من أجل توقيع معاهدة كامب دافيد، وحامل جائزة نوبل للسلام والذي لم يتخلف عن توجيه النقد إلى العرب عندما اعتبر ذلك ضرورياً. إن الحقائق التي يقدمها في كتابه والتي تدين ممارسات “الإسرائيليين” العنصرية سوف تترك آثارها، بالضرورة، على قسم من الرأي العام الأمريكي. خاصة إذ تأتي متزامنة مع ازدياد النقد ل”إسرائيل” ولمؤيديها في الولايات المتحدة. إنها تعبير وإضافة، في نفس الوقت، للوعي المتزايد على الصلة بين “إسرائيل” والعنصرية .

ومن المبادرات الفكرية والعلمية المهمة أيضاً الكتاب الذي نشر قبل أسابيع لإيلان بابيه، المؤرخ “الإسرائيلي” -التحريفي- بعنوان “التطهير الاثني في فلسطين”. والكتاب شهادة تاريخية دامغة ضد الصهيونية تكشف حقائق جديدة، وأحياناً استناداً إلى الأرشيف الصهيوني نفسه، حول عمليات التهجير القسري التي مارستها منظمتا الهاجانا وشتيرن ضد الفلسطينيين.

ويروي الكتاب كيف أجرت المنظمتان مسحاً شاملاً ودقيقاً عام 1947 للقرى والمناطق الفلسطينية بغرض وضع خطط دقيقة لإجبار الفلسطينيين على الفرار من أراضيهم. وتروي الوثيقة التاريخية كيفية تنفيذ تلك الخطط بما في ذلك تدمير البيوت على ساكنيها والقتل الجماعي وتدمير المنشآت الإنتاجية الفلسطينية. كذلك يدحض الكتاب الزعم الصهيوني الرخيص القائل إن الفلسطينيين تركوا أراضيهم استجابة لنداء الزعماء العرب وليس تحت وطأة الإرهاب الصهيوني .

ردة فعل الصهاينة و”الإسرائيليين” على بابيه وعلى مؤلفاته المشابهة كانت شبيهة بردة الفعل على كتاب كارتر، ولكن مع بعض الاختلاف إذ كانت الحملة ضده أشد وأعنف. ذلك أن بابيه “إسرائيلي” وهو ويدرس في جامعة حيفا. لذلك استحق أن يتهم بأنه -كاره نفسه- وأن يعرض إلى الطرد من الجامعة، وأن تشن حملة عنيفة على سمعته الأكاديمية وعلى مؤلفاته. إلا أن بابيه فتح ملفاً لن يطوى بسهولة إذ إنه لن يكون من السهل طمس الحقائق التي كشفها ولا تجاهل دلالاتها. وأهم هذه الدلالات أنها تؤكد الطابع العنصري للحركة الصهيونية ولمنظماتها. ومن المفارقات أن تكون ردة فعل الصهاينة المتعصبين على بابيه سبباً في تسليط الأنظار على تلك الحقائق والدلالات. ذلك أن التهديد بطرده من الجامعة أدى إلى حملة تضامن عالمية معه، وإلى تعميم المادة التاريخية التي جاء بها على أوسع نطاق عالمي .

الكتابان الجديدان مهمان ليس كعملين منفصلين، وإنما كتعبير عن وعي عالمي متنام على حقيقة الصهيونية وعلى خطرها على الأسرة الإنسانية. هذه الظاهرة جديرة بأن تعيد الصراع العربي – “الإسرائيلي” إلى مجراه الحقيقي باعتبار أنه صراع بين المجتمع الدولي، من جهة، وبين العنصرية المتمثلة بقلعتها الصهيونية الحصينة في الشرق الأوسط، من جهة أخرى، أي تماماً إلى القرار الدولي 3379، ولعله من المناسب البدء بتحرك عربي بهدف إحياء هذا القرار، أو حتى استصدار قرار جديد. والبدء بالتحرك لا يشترط استعجال النتائج، فالمطلوب هو عكس ذلك، أي الإعداد الجيد على كافة المستويات الفكرية والسياسية للحملة ضد العنصرية. والحملة ضد العنصرية لا تقتصر على الموقف من العنصرية الصهيونية فحسب، وإنما حتى على العنصرية التي تبرز أحياناً في ديارنا وفي أفكارنا .

* كاتب لبناني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات