الانتفاضة والخريطة الإدراكية الإسرائيلية

صحيفة الاتحاد الإماراتية
هل يمكن تغيير الخريطة الإدراكية الصهيونية التي تسيطر على المستوطنين الصهاينة، والتي تضرب بجذورها في المقولة الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”؟
هل مازال المجتمع الإسرائيلي يؤمن بمقولة “موشيه دايان” رئيس الأركان الإسرائيلي السابق بأن “السيف هو الذي يكفل بقاء إسرائيل”؟
هل ما زال يصدق مقولة إيهود باراك رئيس الحكومة السابق أنه “لا مجال لأية تسوية سياسية إلا بحلول عام 2028، عندما يختفي الجيل الفلسطيني الذي ذاق مرارة النكبة في 1948″؟
هل لا يزال الإسرائيليون يؤمنون بمقولة “جابوتنسكي” أن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة، أو مقولة شارون إن ما لم يؤخذ بالقوة يؤخذ بمزيد من القوة؟
للإجابة على كل هذه الأسئلة لابد من إلقاء الضوء على المرجعية النهائية الكامنة وراء الخريطة الإدراكية الصهيونية، فقد اعتقد العديد من الساسة والعسكريين الإسرائيليين لعقود طويلة أن القوة هي الآلية الوحيدة التي يمكن من خلالها وضع نهاية للتاريخ الفلسطيني والذاكرة العربية والإسلامية، ومن ثم القضاء على كافة أشكال المقاومة وتحقيق الحلم الصهيوني بتأسيس دولة إسرائيل الكبرى.
ولكن ما حدث على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان، أثبت فشل هذه الرؤية الصهيونية التوسعية الداروينية، كما أكد فشل القوة العسكرية والحلول الأمنية في القضاء على قدرات المقاومة، وأثبت أن بقاء “إسرائيل” لا يمكن أن يستمر إذا لم تتخل عن سياستها العنصرية وعن افتتانها بطرح الحلول العسكرية والأمنية وبناء الحصون والجدر العازلة. وبعبارة أخرى، لم يعد المجتمع الإسرائيلي متفائلاً، لأنه أدرك أن مستقبل “إسرائيل” أصبح يتحدد بمدى استعدادها لفتح قنوات الحوار مع الفلسطينيين والعرب .
ولقد كشف “آري شافين” عن هذا التحول الإدراكي لدى الإسرائيليين في مقال بعنوان “صندوق الأمل”، إذ نبه إلى ضرورة سعي المسؤولين الإسرائيليين للخروج من حالة “القلق الوجودي” الذي انتاب المجتمع الإسرائيلي من خلال استخدام كافة سبل الحوار ووضع تسوية مناسبة تضمن حقوق الفلسطينيين، وإلا فإن “إسرائيل” سينتهي بها الأمر أن تصل إلى “وضع تنعدم فيه الآفاق”، كما أنها “لن تجد نفسها أمام مستقبل زاهر” وإنما “ستجد نفسها في مركز دائرة قاتمة ومحبطة من الأخطار” (هآرتس
وكلمة “وجودي” هنا تعني أنها تشير إلى وجود الدولة الصهيونية ذاتها، وجود المستوطنين في هذه المنطقة. وحديث الصهاينة عن الخطر المحدق بهم، والذي يتهدد وجودهم يستحضر دائماً الانتفاضة الفلسطينية المباركة وإمكانية تحولها إلى حرب تحرير، بل ونهاية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية. كل هذا جعل الرأي العام الإسرائيلي يتخوف من اندلاع انتفاضة ثالثة تهدد الكيان الصهيوني. ولقد أدى هذا التخوف إلى طرح بعض التساؤلات التي تسعى إلى فهم طبيعة الانتفاضة الفلسطينية وعلاقتها بمفهوم التهدئة. ففي مقال بعنوان: “البعض يرى إرهاصات انتفاضة جديدة، والبعض الآخر يتساءل هل انتهت الانتفاضة الأولى حتى نتحدث عن انتفاضة جديدة؟” قام “جيل سيدان” بمراجعة المفهوم السياسي واللغوي لمصطلح “التهدئة”. وهو يرى أن المجتمع الإسرائيلي قد أدرك أن مصطلح “التهدئة” في اللغة العربية لا يعني نهاية الانتفاضة أو المقاومة الفلسطينية، وأن الواقع التاريخي قد أثبت أن التهدئة من جانب المقاومة الفلسطينية ليست إعلاناً عن نهاية المعركة، وإنما فرصة لإعادة بناء القدرات الشعبية والعسكرية استعداداً للجولة التالية. فالانتفاضة التي بدأت عام 1987 واستمرت لما يقرب من ست سنوات، أي حتى عام 1993، لم تمت وإنما غابت عن المشهد فترة من الوقت كي تستعيد عافيتها وتعود من جديد في نهاية الألفية الثانية عام 2000 وهي “أشد قوة وأكثر تنظيماً وأفضل إعداداً” (جويش تليجرافيك إيجنسي
كما تتبدى التحولات التي طرأت على الخريطة الإدراكية الصهيونية في الموقف من الأرض. في مقال بعنوان “عام تقسيم البلاد” يرى “آري شفيط” أن عام 2005 كان عاماً تاريخياً لأنه يمثل عملية نضوج طويلة للوعي الإسرائيلي وتحول جوهري في الخريطة الإدراكية الصهيونية، فقد أدرك الإسرائيليون أن الصراع لا يدور على قطاع غزة والضفة الغربية وإنما على حق الدولة اليهودية في الوجود في محيط عربي إسلامي. لقد أدركوا أن الصراع لا يدور على القدس وإنما على وجود مجتمع غير عربي في الشرق الأوسط. لقد فهموا وأدركوا أن الصراع يدور “على حق وجود “إسرائيل” في الوجود”. ويضيف “شفيط” أن الأغلبية الإسرائيلية أصبحت تدرك أن هذه الانتفاضة لن تنتهي في المستقبل المنظور، وأن “الاحتلال الإسرائيلي يشكل خطراً أخلاقياً وديموغرافياً وسياسياً على “إسرائيل””، وأنه “لابد من إنهاء الاحتلال بغية ضمان وجود دولة “إسرائيل””. وهنا يشير “شفيط” بصورة غير مباشرة إلى أحد إنجازات الانتفاضة والتي تمثلت في تغيير الخريطة الإدراكية للأغلبية الإسرائيلية، التي باتت تعبر عن رغبتها في التقسيم وقبول واقع يرتكز إلى دولتين.
ويؤكد “شفيط” أن الأغلبية الإسرائيلية أصبحت تدرك أن “إسرائيل” “تحتاج إلى حدود، وتدرك أن “إسرائيل” تحتاج إلى تقسيم، لأن الصراع قد يستمر لوقت طويل، وأن مد خط فاصل بين المجال الإسرائيلي وبين المجال الفلسطيني هو الكفيل فقط بتحرير “إسرائيل” من عقد “الكولونيالية” وتحرير الفلسطينيين من عقدة الضحية. إنها تدرك أن إقامة فصل بين الشعبين هو الكفيل فقط بإنهاء شبكات العلاقات التكافلية المشوهة بينهما ودفعهما نحو اعتراف متبادل حقيقي”.
إن رؤية “شفيط” تكشف نفس المعنى الذي طرحه “جيل سيدان” عندما تناول دلالة مفهوم التهدئة لدى المقاومة حيث يؤكد “شفيط” أيضاً أن التهدئة يمكن أن تنهار في أية لحظة، وأن الهدوء “هدوء سطحي، هدوء مؤقت”. كما يلقي “شفيط” الضوء على أهم الدروس المستفادة من عام 2005، تلك الدروس التي غيرت الخريطة الإدراكية الإسرائيلية: “لقد كانت السنة المنصرمة سنة مهمة ليس فقط لأنها جسدت دروس الإسرائيليين المستخلصة سواء من فشل الاحتلال أو من فشل أوسلو. لقد استيقظ الإسرائيليون وأدركوا أن وعد أرض “إسرائيل” الكاملة والوعد بالسلام الكامل كلها مجرد أوهام”. (هآرتس
لقد أحدثت الانتفاضة الفلسطينية المباركة شرخاً عميقاً في المجتمع الإسرائيلي وفي فكرة وحدة المصير اليهودي والإسرائيلي، ولعل أكبر شرخ في الخريطة الإدراكية الصهيونية ما حدث لأساطير دعاة الصهيونية ذات الديباجات الدينية التي نادت بإرساء دعائمها لجمع شتات وطوائف الشعب اليهودي كشعب موحد ومتكتل. والتي ادعت أن انتصار “إسرائيل” في حرب 1948 عندما قامت “إسرائيل” بطرد معظم السكان المحليين (النكبة أو التطهير العرقي) وأن انتصارها في حرب 1967 يأتي ضمن علامات الخلاص. وذهب هؤلاء الصهاينة يبشرون بأن الدولة اليهودية ستقوم بضم مساحات أكبر من الأراضي لقيام دولة “إسرائيل الكبرى”. لكل هذا يعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة ضربة موجعة للصهيونية ذات الديباجات الدينية التي طالما أكدت على ضرورة التمسك بأرض الآباء (أرض إسرائيل) ووحدتها كإحدى القيم الأساسية للدولة تنفيذاً للمشروع الإلهي الذي يكفل خلاص الشعب اليهودي. وبدا للإسرائيليين أن الإله لا يبالي بمصيرهم، وأنه لم يرسل إليهم الأطباق الطائرة التي تنقذهم، ولم يصنع المعجزات أو يأتي بالآيات من أجل إنقاذ المستوطنات من الهدم والتدمير. وحاول البعض عدم مواجهة الحقيقة وقام بتفسير الانسحاب من غزة باعتباره أحد تجليات الصراع بين الدين والعلمانية.
بيد أن “يوسي كلاين هليفي” يؤكد في مقال بعنوان “وجهة نظر صهيونية- دينية حول اليوم التالي للانفصال”، أن الانسحاب من غزة يمثل ضربة ساحقة للمشروع الجماعي للاستيطان لأن “هدم وتدمير تجمعات يهودية يشكل مأساة قومية”. ويرى “هليفي” أن هذا الانسحاب بداية لتفاقم الصراعات الداخلية وأنه “قد وضع “إسرائيل” في أزمة داخلية هي الأخطر في تاريخها. فالدولة اليهودية، وللمرة الأولى منذ قيامها، ستتخلى طوعاً، بغطاء ودعم أغلبية كبيرة من ممثليها المنتخبين، عن حقها في جزء من أرض “إسرائيل” التاريخية، وهي ستفعل ذلك بشكل لا نظير لفظاظته وعسفه -عن طريق الاقتلاع الجسدي ليهود من بيوتهم. على مدى التاريخ اليهودي، دوت مراراً وبقوة كارثة نهاية جاليات وطوائف (أي جماعات) يهودية، وهذا من وجهة نظر صهيونية النقيض المأساوي لمبدأ الاستيطان. غير أن الفاجعة المترتبة على إخلاء مستوطنات لا تتلخص بهذه الرمزية، ولا حتى بالمعاناة الشخصية للمستوطنين الذين يتعرضون للإخلاء، بل لأنه وعندما يقوم جزء من الشعب باتهام جزء آخر بالتواطؤ والإسهام في “الخراب”، فإن النتيجة المتوقعة عندئذ هي شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي وفي خريطته الإدراكية”. (16/6/2005 ترجمة مدار عن مجلة تخليت) .
والله أعلم
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

10 شهداء على الأقل في قصف جديد لمدرسة وسط القطاع
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 10 شهداء على الأقل، وأصيب أكثر من 50 مواطنًا بجراح، إثر قصف إسرائيلي جديد، استهدف، مساء الثلاثاء، مدرسة أبو...

الإعلامي الحكومي: مجزرة البريج امتداد مباشر لجرائم الإبادة في غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي إن مجزرة مخيم البريج تُعد جريمة امتداد مباشر لجريمة الإبادة الجماعية التي يواصل جيش...

الهيئات الإسلامية: الاعتداء على ساحة الشهابي سياسة تهويدية لتطويق الأقصى
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام قالت الهيئات الإسلامية في القدس أن اعتداء سلطات الاحتلال الإسرائيلي على ساحة "الشهابي" التاريخية داخل البلدة...

حماس: مجزرة البريج جريمة حرب بشعة تضاف للسجل الأسود للاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن مجزرة مدرسة أبو هميسة في مخيم البريج، والتي كانت تؤوي نازحين، جريمةٍ جديدةٍ...

بلدية جباليا تحذر من كارثة وشيكة لتراكم النفايات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت بلدية جباليا النزلة، يوم الثلاثاء، من انتشار وتراكم كميات النفايات في مناطق نفوذها، مع عدم مقدرة طواقم العمل على...

الاحتلال يشرع بهدم منازل في مخيم نور شمس شمال الضفة
طولكرم – المركز الفلسطيني للإعلام شرعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، الثلاثاء، بهدم عدد من المباني السكنية في مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم شمال الضفة...

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...