الأحد 07/يوليو/2024

نحو دورة ثانية لمؤتمر مدريد.. أفكار للتداول

نحو دورة ثانية لمؤتمر مدريد.. أفكار للتداول

صحيفة البيان الإماراتية

هناك ما يؤكد أن خيار عقد مؤتمر دولي للسلام بات هاجساً مشتركاً يراود معظم المنشغلين بتسوية نهائية للصراع الإسرائيلي العربي والقضية الفلسطينية. كل الاجتهادات المحلقة راهناً في الآفاق الإقليمية والدولية بخصوص هذه التسوية، الصادرة عن العرب والفلسطينيين والروس والصينيين ومنظومات العمل المشترك الإسلامية والعالم ثالثية وقوى أوروبية فاعلة، تعطف على هذا الخيار وتستمزجه .

ومع أن تل أبيب وواشنطن تقفان في الاتجاه المعاكس لهذا الإجماع، إلا أن أوساطهما السياسية والفكرية لا تخلو ممن يحاولون مداراة هذه السوءة بالإشارة إلى أن المؤتمر الدولي هو من استحقاقات «خريطة الطريق» ، ولذا لا يجب الجهر دوماً برفضه. لكننا نزعم أن هذا التفسير لا ينسجم وحقيقة مرادات أكثرية المنحازين للمؤتمر .

ذلك لأن خريطة الطريق تعرضت لانتهاكات مروعة من حيث الشكل والمضمون، ولم يتم الالتزام بمواقيتها وخطواتها المتسلسلة، فما الداعي إذاً لاستثناء بند المؤتمر الدولي من هذا الوضع المتردي؟، بل وكيف يمكن القفز إلى هذا البند بدون حرق المراحل أو البنود التي تسبقه، الأمر الذي يمثل وصفة للفشل؟ !.

وهكذا، فإنه من أجل تجنب هذا الأسلوب الالتفافي المجافي لجوهر الفكرة، نتصور أن الداعين للمؤتمر عن إخلاص لتسوية أكثر عدلاً واستقراراً، هم الذين ينشدونه كخيارٍ بديل للتجارب والمحاولات الأخرى بما فيها خريطة الطريق برمتها. ولا مانع في إطار هذه القناعة لديهم ولدينا من أن يأخذ المؤتمر المزمع اسم سابقه في مدريد (أكتوبر 1991) ، فيلتئم على ما يقترح البعض تحت عنوان مدريد2، شريطة تخليصه من العيوب الهيكلية التي لازمت دورته الأولى وأدت إلى تعجيزها .

للإنصاف، لا تعد فكرة المؤتمر الدولي سيئة في حد ذاتها، كما أنها لم تكن من مبتكرات إدارة جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر. إذ إن طبيعة الصراع والقضية بتعقيداتهما وتغلغل قوى لا حصر لها في أحشائهما، كانت ومازالت تقضي بتسويتهما وفقاً لهذه الفكرة، التي تم التداول بشأنها جدياً منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، لكن “إسرائيل” تَمنعَّت في ذلك الوقت عن التعاطي معها .

وكانت ذريعتها أن التوازنات الدولية في مناخ القطبية الثنائية وقتذاك، لن تمكنها من الخروج بمكاسب حقيقية. ثم إن مؤتمراً دولياً فاعلاً تحت رعاية الأمم المتحدة ومقرراتها، سوف «يزنقها» في زاوية ضيقة، وهي التي كانت تعاني من عزلة دولية محكمة، فضلاً عن مخاوفها من حالة الائتلاف العربي التي كانت ما زالت قريبة عهد بحرب أكتوبر 1973 وأجوائها التضامنية .

هذه البيئة الإقليمية والدولية كانت قُبيل مؤتمر مدريد الأول قد انقلبت جذرياً، لتذهب بقدرة قادر بكل المحاذير الإسرائيلية: كان الاتحاد السوفييتي في نزعه الأخير قبل أن ينهار كلياً وتنفرد الولايات المتحدة بقمة النظام الدولي وبتوجيه الأمم المتحدة كيفما تشاء، وكان النظام العربي في أوهن أيامه ومراحله، يلعق جراحه مما ناله في حرب الخليج الثانية .

وكان الفلسطينيون معتصرين في الخارج بتداعيات الوهن والتحارب العربي، وفي الداخل بفعل وحدانية الانتفاضة الأولى وعزلتها وتجفيف مواردها، في مواجهة وحش الإرهاب الإسرائيلي الطليق والمنتشي بالتطورات المذكورة جميعاً ..

وقد التقطت إدارة بوش – بيكر الإشارات التي أعلنت عنها تلك البيئة، فدعت إلى المؤتمر بعد أن ضمنت هندسته بحسب مخططات “إسرائيل” وتصوراتها، فرأينا مؤتمراً شكلانياً لا معنى لوجود معظم المدعوين إليه، سوى تحويلهم إلى شهود زور على الإملاءات الأميركية والإسرائيلية لسير التسوية .

نقول إن خيار المؤتمر الدولي للتسوية كان توجهاً خلاقاً، غير أن الصيغة الإجرائية التنفيذية التي جرى بها في مدريد، هي التي تنطوي على عيوب جوهرية. ومن خبرة السنوات الخمس عشرة العجاف الماضية، التي تكاد تنتكس بأوضاع الصراع إلى مربعات ما قبل كامب ديفيد الأولى وليس مدريد الأولى فقط، بوسعنا أن نشير إلى بعض هذه العيوب.. كغموض مرجعية التسوية (إذ ما معنى الأرض مقابل السلام، أية أرض مقابل أي سلام؟) .

واستبعاد الشرعية الدولية ودور الأمم المتحدة باستثناء أكثر مقرراتها خلافية (القرار 242 المختلف على تفسيره)، والعمل على سوق العرب إلى مسارات تفاوضية متباينة فيما تداخل قضايا الصراع يفرض جدلاً ومنطقاً شمولية تسويته، واختطاف واشنطن لرعاية التسوية وانفرادها بالوساطة بينما هي حليف عضوي للطرف الإسرائيلي، والدأب على اتجاه طي النظام العربي برمته واستبداله بأطرٍ أخرى (شرق أوسطية مثلاً أو متوسطية)، أي قلب البيئة المحيطة بـ”إسرائيل” رأساً على عقب ، كأحد متطلبات عملية التسوية .

كانت دورة مدريد الأولى أقرب إلى المؤتمر المظلة غير الفاعل أو الاحتفالي. ولو أمعن المشاركون العرب يومئذ النظر في جهود الداهية جيمس بيكر، وهو يهيئ الأجواء لذلك المؤتمر عبر جولاته المكوكية، لأدركوا مسبقاً هذه النواقص وغيرها. كان أهم ما عمد إليه المهندس بيكر هو حشر العرب في قاعة المؤتمر في مشهد دولي هوليوودي مؤثر، ثم مغادرتهم إلى حيث تقودهم موازين القوى كلاً على حدة في مواجهة “إسرائيل”. وفى سبيل ذلك نجده أعطى لكل من العرب والإسرائيليين تطمينات وضمانات يناقض بعضها بعضاً ..

الشاهد الآن أننا بصدد بيئة تغيرت ملامحها إلى حد كبير على صعد كثيرة. وعلى من ينادون بمدريد2، أو بالمؤتمر الدولي تحت أي عنوان آخر، أخذ النواقص المذكورة ومثلها بعين الاعتبار. وهذا يستدعي التوافق على قضيه الفعالية والدور وشمولية المعالجة.. فعالية المؤتمر ودوره الرقابي الصارم والمستمر والمحدد بأطر زمنية ومرجعية فقهية وقانونية واضحة لا تقبل الالتباس وتضارب التفسيرات .

إذا تحققت هذه المقتضيات والضمانات، صرنا أقرب إلى التفاؤل بتسوية مرضية عربياً وفلسطينياً، وفى التحليل النهائي أكثر استقراراً.. ولكن أين واشنطن وتل أبيب من هكذا مؤتمر بهكذا شروط وضوابط؟ !..

كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات