الإثنين 08/يوليو/2024

قمة صراع الهوية

قمة صراع الهوية

في قمة العقبة جدد الرئيس الأميركي جورج بوش – كشأن غيره من الرؤساء الأميركيين – التزام بلاده بأمن “إسرائيل”. وزاد على ذلك – في تحول أميركي خطير – بامتداد، هذا الأمن إلى يهودية “إسرائيل”. وهو ما يعني أن الاستراتيجية الأميركية لضمان أمن “إسرائيل” تجاوزت الالتزامات المعتادة والمتعارف عليها (العسكرية والسياسية والاقتصادية) إلى ضمان الحفاظ على هوية “إسرائيل” «كدولة يهودية»، وبذلك أصبح البعد الديني أحد المرتكزات المعلنة للعلاقات بين الطرفين.

 

وفي المقابل طلب الرئيس بوش من رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) إنهاء المقاومة الفلسطينية وأشياء أخرى. فقد قال الرئيس بوش في كلمته بمؤتمر العقبة إنه حصل على موافقة أبو مازن بشأن «إنهاء العنف وإزالة كل أشكال الحقد والأذى والتحريض الرسمي في الكتب المدرسية وفي وسائل الإعلام وفي الكلمات التي يستخدمها السياسيون».

 

هذه المفارقة تعني رفع مستوى التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” إلى مستوى الحفاظ على هوية الدولة الصهيونية. وهو تحالف جديد من نوعه في العلاقات الدولية إلى جانب أن خطورته تكمن في أن الولايات المتحدة تلتزم دوماً تجاه “إسرائيل” بكل ما يتم الاتفاق عليه أو تقطعه على نفسها من تعهدات. وهو ما يوجب أخذ هذا التعهد بجدية بالغة وشاملة، وليس فقط النظر إليه من باب سد السبل والطرق أمام عودة اللاجئين الفلسطينيين. فالتعهد الأميركي غير محدد الهدف، بل هو التزام عام تجاه الهوية اليهودية لإسرائيل.

 

وهذا يعني أن الولايات المتحدة سوف تلتزم تجاه كل ما ترى “إسرائيل” أنه يحفظ هويتها اليهودية. وسوف تناوئ كل ما ينال من هذه الهوية.

 

ولأن “إسرائيل” تستند إلى أساطير دينية يهودية، ولأنها الممثل وفق استراتيجيتها ووفق الاستراتيجية الأميركية أيضاً – لكل يهود العالم، فإن “إسرائيل” التي تعتبر عودة اللاجئين الفلسطينيين انتقاصاً من هويتها اليهودية، لن تتردد في التمسك بالقدس عاصمة لها كجزء من الهوية اليهودية، ولن تقبل بأي حلول أخرى، وفي ذلك لن تمانع الولايات المتحدة من ضم “إسرائيل” للقدس واعتبارها عاصمتها. وسوف تضغط على العرب بكل قوة لقبول هذا المطلب، مع الوضع في الاعتبار أن هناك قراراً من الكونغرس صدق عليه الرئيس بوش نفسه – كأول رئيس أميركي – باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.

 

وقد يصل الأمر بالولايات المتحدة في إطار الالتزام بيهودية “إسرائيل” بقبول وإقرار أي محاولة لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل (سواء قام بذلك متطرفون يهود أو قامت به الحكومة الإسرائيلية)، فالهيكل وفق رؤى اليهود هو الشرط المتوج – توراتياً – ليهودية “إسرائيل”، وهو أيضاً والمسرّع بعودة المسيح وهو معتقد يؤمن به الرئيس جورج بوش وزمرته من المسيحيين الصهاينة.. لقد باتت القدس والأقصى في خطر حقيقي بسبب هذا الالتزام الأميركي.

 

وربما يمتد الأمر إلى عرب 1948 الموجودين داخل الخط الأخضر فقد يتم طردهم – وفق خطة ترانسفير جديدة – إلى مناطق فلسطينية أو إلى دول عربية، فرغم أنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية إلا أنهم مختلفون في العقيدة (مسلمون ومسيحيون) ومختلفون أيضاً في العرق وفي الثقافة. وهم وفق الشريعة اليهودية ليسوا يهودا ولن يكونوا، ومن ثم فهم عائق أمام نقاء الدولة الصهيونية أو أمام الحفاظ على يهودية الدولة الإسرائيلية إن لم يكن الآن ففي المستقبل حسب المخاوف الديموغرافية الإسرائيلية.

 

وعلى الجانب الفلسطيني فإن قمة العقبة أقرت التزاماً فلسطينياً تجاه المطالب الأميركية الإسرائيلية، فإنهاء العنف يعني التزاماً بإنهاء المقاومة الفلسطينية المسلحة. أما وقف التحريض الرسمي دراسياً وإعلامياً – وفق التجارب العربية للسلام مع “إسرائيل” – فيعني حذف كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن صفات اليهود من الكتب المدرسية. وصفات اليهود بالطبع في القرآن غير حميدة.

 

ويعني إنهاء التحريض أيضاً حذف كل آيات الجهاد كفريضة إسلامية ضد كل عدو معتد ومغتصب ومحارب للمسلمين. وهذا الحذف لن يكون فقط من الكتب المدرسية ولكن أيضاً من الصحف والإذاعات والتلفزيون، بل وفي المؤتمرات والندوات العامة والمنتديات العلمية التي تبحث في أفكار وعقائد اليهود.

 

كما أن تقييم أي مسئول – وفق الالتزام الفلسطيني – لن يتحدد فقط بمدى كفاءته في إدارة العمل والمهام الموكولة إليه وإنما أيضاً بمدى اقترابه وابتعاده عن التصريحات المعادية لإسرائيل وفي الالتزامات الفلسطينية المزيد من المساوئ.

 

وفي المحصلة فإن الالتزامات الفلسطينية تعني في جوهرها إعادة تشكيل العقل الفلسطيني لنقله من عقلية أو «ثقافة المقاومة» إلى «ثقافة السلام». أو بمعنى أدق إحداث تغيير في الهوية الفلسطينية.

 

فتلك الالتزامات تنزع من الفلسطينيين كل أشكال المقاومة بداية من المقاومة بالسلاح إلى المقاومة بالكلام. وهو ما يعني نزع أظافر وألسنة الفلسطينيين (سلطة وشعباً). كما يعني تخريب الهوية الفلسطينية – على المدى البعيد – في إطار إعادة التشكيل. وهذا يجرى في نفس التوقيت الذي تلتزم فيه الولايات المتحدة بتعزيز الهوية اليهودية للدولة الإسرائيلية. وإذا وضعنا في الاعتبار أن “إسرائيل” ليست فقط دولة يهودية بل دولة صهيونية بالفكر والنشأة والتطور فإن هذا معناه التبني الأميركي المطلق لكل الأطماع الإسرائيلية التوسعية، بل وتبني الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني بشكل مطلق، وبذلك يكون المشروع الصهيوني قد انتقل إلى مرحلة جديدة بضمان ومشاركة أميركية مباشرة، وهي مرحلة تلعب فيها القوة العسكرية الأميركية بشكل مباشر لحساب “إسرائيل”، وهو ما كان في العراق ثم قنن وأعلن في قمة العقبة ومن قبلها قمة شرم الشيخ.

 

ومن المتوقع ألا تنجح الولايات المتحدة و”إسرائيل” في تحقيق جل أهدافها. فالعقل الفلسطيني والهوية الفلسطينية استعصيا دوماً على التغييب والنفي والإضعاف. ومن أجل ذلك فسوف تتصاعد الضغوط الأميركية بأقصى قوتها ضد الفلسطينيين وضد العرب الذين شاركوا في قمتي شرم الشيخ والعقبة. فكلما جوبهت المخططات الأميركية الإسرائيلية بمقاومة فلسطينية كلما ازداد استخدام القمتين في تحقيق المزيد من الضغوط.

 

ومن أجل دفاع الولايات المتحدة عن اليهودية الإسرائيلية سوف يزداد الطعن في العروبة والإسلام بمزيد من الاتهام بالإرهاب. ولن تتسامح الولايات المتحدة مع الحكومات العربية التي تراها متقاعسة مما يؤدي إلى تشديد قبضة الحكومات على الرافضين للسياسات الأميركية بما يزيد من حدة التوترات الداخلية في أغلب الدول على أرضية اتساع الهوة بين الرسمي والشعبي، وذلك في ظل إحجام أكثر الدول عن الإصلاح السياسي وإشاعة الديمقراطية الحقة. وقد لا تستثنى من ذلك الأرض الفلسطينية، وهو ما يجعل المستقبل العربي مشرعاً على العدم ما لم تحدث معجزات.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات