الإثنين 08/يوليو/2024

انتبهوا أيها السادة.. من وعد بلفور.. إلى وعد بوش!!

انتبهوا أيها السادة.. من وعد بلفور.. إلى وعد بوش!!

جاء الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط عن طريق أوروبا، حيث بدأ جولته لمعالجة آثار حربه في العراق واستثمار نتائجها العسكرية في تثبيت صورته كقائد منتصر، ليبدأ من هنا معركته الانتخابية من أجل الفوز بدورة رئاسية ثانية كحاكم لأميركا والعالم.

في أوروبا شارك الرئيس الأميركي في اجتماعات الدول الثماني الصناعية الكبرى، ولكنه لم يتعامل بجدية مع قضايا العالم النامي التي كانت فرنسا حريصة على تمثيله في الاجتماع، ولم يقدم شيئاً مذكوراً لحل مشاكل الدول الفقيرة، وإنما كان حرصه على شيئين: تخفيف الاحتقان في العلاقات مع أوروبا بسبب حربه في العراق مع كسب الوقت لتثبيت احتلاله وتنفيذ مخططاته في المنطقة، ثم الحرص على تأكيد أن الولايات المتحدة لن تكون مجرد «الشريك الأكبر» في إدارة العالم، وإنما المسيطر على شئونه مع إعطاء أدوار تحددها للمخلصين من الحلفاء كل بقدر إخلاصه لها!

ولم تكن زيارته للشرق الأوسط بعيدة عن هذه الأهداف. فهو لم يأت للحوار في قضايا يجهل معظم تفاصيلها، وإنما جاء بـ «أجندة» أميركية معدة سلفاً بكل تفاصيلها. فالأهداف محددة، والمواقف متفق عليها حتى بما فيها من خلافات، ولا جهد في التفاوض أو محاولة التوصل إلى قناعات مشتركة. ولهذا لم تكن هناك بيانات مشتركة، لا في شرم الشيخ ولا في العقبة، وإنما بيانات منفردة من كل طرف يقدم فيها ما يساعد على «إطلاق تحركات تدعم تطبيق خريطة الطريق» كما قال وزير الخارجية الأميركي كولن باول. وكان الغريب أن كل البيانات التي صدرت هي في الأصل صناعة أميركية!

فقد قدمت واشنطن إلى كل طرف «مسودة» البيان المطلوب منه أن يصدره. صحيح أنه حدثت بعض التعديلات مثل حذف النص على اتخاذ الدول العربية إجراءات لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وهو ما رفضه الجانب السعودي بشدة وهدد ولي العهد السعودي بالانسحاب من القمة إذا أصر الجانب الأميركي على بقاء هذه الفقرة في البيان الصادر عن الدول العربية. ومثل حذف شارون من المسودة الأميركية التي قدمت له ما يتعلق بـ «إنهاء الاحتلال والإيقاف الفوري لكل عمليات الاستيطان».

حدثت بعض التعديلات على البيانات التي كتبها الأميركان للأطراف كلها، ولكن السياق العام جاء كما تم تخطيطه من جانب الإدارة الأميركية، ليعطي الانطباع بأن كل الأطراف قد تم إدخالها في العملية الأميركية لتحقيق التسوية السياسية، وأن قطار الحل قد بدأ السير وفقا لخريطة الطريق والمشكلة الأساسية أن واشنطن لا تريد في هذا المهرجان أن يسأل أحد: إلى أين سيصل القطار؟ ومن سينزع الألغام من طريقه؟ وماذا سيحدث إذا توقف القطار في منتصف الطريق واختلف الركاب على المحطات التالية؟

وبعد انتهاء المهرجان، أعلن بوش أن مهمته انتهت بنجاح، وأن الأمر سيكون بعد ذلك في أيدي مساعديه، وعاد كل طرف ليواجه مسئولياته. أخذ بوش ما يريد وحصل كل طرف على أقصى ما يمكن الحصول عليه من تنازلات. وأعطى وعوداً تنقل الصراع في المنطقة إلى مستوى آخر، وفي الوقت الذي كان الانطباع يسود بأن باباً للسلام قد انفتح، تبدو الحقائق على الأرض وكأن المستقبل قد أصبح مرهوناً برؤية بوش التي تحدد الحل على أساس دولتين: دولة فلسطينية لم تتحدد حدودها وتركت كل القضايا الأساسية المتعلقة بها من السيادة والقدس وحق العودة رهن المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وهي مفاوضات علمتنا التجارب أنها ستستمر سنوات طويلة بلا نتيجة ثم دولة إسرائيلية قطع الرئيس الأميركي وعدا بأنها ستكون دولة للشعب اليهودي وبين الدولتين اللتين تشكلان محور «وعد بوش» الجديد، تبدو الطريق مفروشة بالورد والقنابل الورد الذي تنثره أحلام السلام التي يجري التبشير بها، والقنابل التي يجري زرعها بعناية والتي تهدد بالانفجار في وجوهنا إذا لم يتم التعامل مع الموقف بمنتهى الوعي وبكل الجدية من كل الأطراف العربية.

لقد كان الوعد العربي في قمة شرم الشيخ بخوض المعركة حتى النهاية ضد الإرهاب والعنف دون التفرقة بين هذه المعركة المطلوبة وبين الموقف من المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كان ذلك هو المقدمة الطبيعية لتعهدات أبو مازن بعد ذلك بوقف «الانتفاضة المسلحة» ومواجهة العنف والإرهاب بكل حسم ودون هوادة.. في الوقت الذي أصر شارون في بيانه أن حكومته لن تقبل أي تسوية مع ما أسماه بـ «الإرهاب».

وما نأمله – قبل أي شيء آخر – أن تستمر القيادات الفلسطينية على وعيها بخطورة المرحلة، وألا يتحقق ما يخطط له الجانب الآخر لإشعال حرب أهلية بين منظمات المقاومة، وألا يكون وعد الأطراف العربية بدعم جهود السلطة الفلسطينية في حفظ الأمن ومحاربة ما يسمى بـ «الإرهاب» مدخلا لتوريط الأطراف العربية في هذا الخلاف الفلسطيني الداخلي الذي ينبغي أن يتم حله بالحوار المسئول – وبالحرص الكامل على الوحدة الوطنية. ولعل التوصل لاتفاق حول هدنة تختبر فيها النوايا الأميركية والإسرائيلية، وتمتنع فيها منظمات المقاومة عن ممارسة نشاطها أن يكون حلاً مقبولاً في هذه المرحلة، بشرط التزام “إسرائيل” بوقف عملياتها العسكرية وعمليات اغتيال الكوادر الفلسطينية.

إن هذه الهدنة قد تعطي كل الأطراف الفلسطينية فرصة التقاط الأنفاس، ومواصلة الحوار حول أسس التسوية المطلوبة ووسائل الوصول إليها. وأظن أن منظمات المقاومة سوف تكون مستعدة لذلك، ولكن السؤال هو حول ما تثيره “إسرائيل” من عدم الاكتفاء بالهدنة والإصرار على ما تسميه بـ «تفكيك منظمات المقاومة» التي تلصق بها صفة الإرهاب. وهو مطلب تؤيده بالطبع الولايات المتحدة وترفضه بالطبع منظمات المقاومة التي ترفض التخلي عن السلاح إلا بعد إنهاء الاحتلال، وهو منطق يتعارض مع ما تعهد به أبو مازن من الاكتفاء بالوسائل السلمية لإنهاء الاحتلال والمعاناة، واعتباره أن الهجمات ضد الإسرائيليين (دون تفرقة بين العسكريين والمدنيين) لا تنسجم مع تقاليدنا الدينية والأخلاقية!

هذا هو الخطر العاجل الآن، والذي ينبغي أن تتجه كل الجهود العربية من أجل حصاره قبل أن ينفجر قتال الأشقاء على الأرض الموعودة بالشهداء!

ولن يكون الخروج من هذا المأزق الذي ننساق إليه إلا بالعودة إلى أساس التحرك الفلسطيني والعربي الذي يراد نسفه وفقاً للأجندة الأميركية – الإسرائيلية. فالآن – وأكثر من أي وقت مضى ومع احترام كل الاجتهادات السياسية – لابد من التأكيد على الحقيقة الأساسية في الصراع، وهي أننا لسنا – في الحالة الفلسطينية بالذات – أمام قضية إرهاب تتعرض له “إسرائيل”، وإنما نحن أمام قضية احتلال إسرائيلي لأرض عربية وحرب تحرير مشروعة في مواجهة هذا الاحتلال.

والمشكلة أن كل الحلول المقترحة – بما فيها المقترحات الأميركية – لا تضع نهاية لهذا الاحتلال. وخريطة الطريق إذا ما تم تطبيقها بدقة (وهو أمر مشكوك فيه) لن تصل بعد المرحلتين الأوليين فيها إلا إلى حل مشوه تقوم فيه دولة فلسطينية مؤقتة على 40% من أراضي الضفة وجزء كبير من قطاع غزة، وبدون سيادة حقيقية لتدخل بعد ذلك المفاوضات على كل القضايا الأساسية مثل القدس واللاجئين والحدود النهائية ومصير المستوطنات.. وهي مفاوضات إذا بدأت (وهذا مشكوك فيه مرة أخرى) فلن تنتهي، وإذا انتهت فلن يكون ذلك إلا بالشروط الإسرائيلية.. وأولها وأهمها إسدال الستار على قضايا القدس وحق العودة، وهو ما لا تستطيع أي قيادة فلسطينية أن تقبله مهما كانت الظروف أو الضغوط.. والنتيجة أنه إذا تحققت المعجزة وتم تطبيق المرحلتين الأولى والثانية من خطة الطريق وقامت الدولة الفلسطينية المؤقتة، فسوف يقف الأمر عند هذا الحد لعشرات السنين.

على أن الأخطر الآن هو الجانب الآخر من «وعد بوش» والخاص بالتزام أميركا بـ”إسرائيل” كدولة لليهود!! لقد حاول الرئيس الأميركي فرض هذا الالتزام على القادة العرب الذين اجتمع بهم في شرم الشيخ وفشل في ذلك، وحاول مرة أخرى مع «أبو مازن» وفشل، ومع ذلك أصر الرئيس بوش على أن يعلن التزامه الخطير في كلمته بعد لقاء «العقبة» ليفتح أبواباً جديدة من أبواب الجحيم الأميركي – الإسرائيلي على المنطقة.

إن الالتزام الأميركي الخطير يعني تطويق حق العودة لملايين الفلسطينيين، وهو حق لا يملك أحد إلغاءه ولا حتى التنازل عنه. وإذا كان الفلسطينيون قد أبدوا في مفاوضات سابقة استعدادهم للتعامل مع القضية بما لا يثير مخاوف يهود “إسرائيل”، فإن ذلك لا يعني مطلقاً الموافقة على التنازل عن حقوق ملايين الفلسطينيين في العودة أو التعويض، في الوقت الذي يقر فيه الالتزام الأميركي بحق يهود العالم في العودة إلى أرض فلسطين والاستيطان بها.

والأكثر خطورة أن الالتزام الأميركي الجديد لا تقتصر آثاره على إلغاء حق العودة لملايين الفلسطينيين اللاجئين. ولكنه يفتح الباب لإثارة قضية الوجود العربي داخل “إسرائيل. في حدود 1948.

إن عرب “إسرائيل” يمثلون 20% من مواطنيها فهل يعني الالتزام الأميركي الجديد إقراراً بتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، أم أنه سيكون تصريحاً ليهود “إسرائيل” بأن ينفذوا مخططاتهم العنصرية لإجبار العرب على ترك وطنهم وتحقيق «الترانسفير» الذي يجعل “إسرائيل” «دولة يهودية نابضة بالحياة» كما يبشرنا الرئيس الأميركي في وعده المشئوم الذي ينبغي التعامل معه بكل جدية، حتى لا تتكرر رحلة الضياع التي قطعناها من وعد بلفور إلى وعد بوش.. وما أشبه الليلة بالبارحة!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات