الأحد 06/أكتوبر/2024

إسرائيل ودروس التاريخ…غطرسة وتجاهل

إسرائيل ودروس التاريخ…غطرسة وتجاهل

  صحيفة الاتحاد الإماراتية

الأمن المفروض بالقوة العسكرية هو كالوحدة المفروضة بالقبضة الحديدية، ما أن تتراجع أو تخفّ هذه القبضة حتى ينفرط عقد الوحدة وتتناثر حباتها على النحو الذي عرفه الاتحاد السوفييتي والاتحاد اليوغسلافي السابقان.

فالأمن شيء والأمان شيء آخر. يمكن للقوة العسكرية أن تفرض نوعاً من الأمن ولكنه أمن لا يدوم. وبدلاً من أن يسفر عن حالة استقرار واطمئنان، فإنه على العكس من ذلك يزيد الاحتقان شدة ويساعد على تخمير مشاعر الكراهية والغضب المكبوتة بانتظار اللحظة المناسبة للانتقام. وهذا ما حدث مراراً في فلسطين المحتلة، في غزة والضفة الغربية. وهو ما عرفته الدول الديكتاتورية والتوتاليتارية التي ما أن انحسرت آلتها الأمنية حتى وجد الحكام المستبدّون أنفسهم قد انتقلوا من القصور إلى السجون، وأحياناً من قاتلين إلى مقتولين.

ولكن الدول لا تتعلم من تجارب غيرها، ولا حتى من تجاربها أحياناً. فلو أن الإسرائيليين مثلاً يمعنون النظر في تجربة الاضطهاد والمعاناة والتمييز العنصري والديني التي عصفت بهم على مدى أجيال عديدة في أوروبا (من روسيا حتى بريطانيا)، هل كانوا يمارسون بحق الفلسطينيين كل هذا الاضطهاد والتمييز؟

لو أنهم يطرحون على أنفسهم أسئلة من نوع: كيف وحّدتهم المعاناة؟ وكيف هجّرتهم من أوطانهم إلى فلسطين؟ وكيف وظّفوا كل إمكاناتهم وعلاقاتهم ونفوذهم في العالم من أجل إقامة وطن لهم فوق الأرض الفلسطينية، هل كانوا يتجاهلون إلى حد التعامي عن دور المعاناة التي يكابدها الفلسطينيون في صناعة مشاعر الانتقام والتصميم على استعادة الحق المسلوب؟

صحيح أن العالم العربي اليوم مشلول القوى. ولكن إلى متى؟

وصحيح أن العالم الإسلامي كتلة ممزقة. ولكن إلى متى؟

وصحيح أن العالم الغربي لا يزال أسير عقدة اللاسامية التي كانت السبب وراء اضطهاد اليهود. ولكن إلى متى؟

وصحيح أن المنظمة الصهيونية العالمية بامتداداتها وحضورها الفعّال في ميادين المال والإعلام وفي المؤسسات السياسية للعديد من الدول الكبرى قادرة على التأثير على صناعة القرار في هذه الدول. ولكن إلى متى؟

قد تستمر هذه الأوضاع غير الطبيعية، جيلاً آخر. أو جيلين، أو أكثر أو أقل. ولكن لا يعقل أبداً أن تستمر إلى ما لا نهاية. ليس صحيحاً أن التاريخ انتهى بانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة. وهو انتصار شربت “إسرائيل” -بوصفها حليفاً للولايات المتحدة- عصارة نتائجه حتى الثمالة. فالعالم يتحرك. وكل متحرك متغيّر. فأثناء الحرب الباردة هُزمت الولايات المتحدة في فيتنام. وبعد الحرب الباردة لم تنتصر في العراق. ولن تنتصر حتى لو مزقت العراق شر ممزق. كذلك الأمر مع “إسرائيل”. فأثناء الحرب الباردة هُزمت في حرب رمضان 1973 -ولولا الجسر العسكري الأميركي الإنقاذي، لتكرّست الهزيمة سياسياً. وبعد الحرب الباردة لم تنتصر في لبنان. ولن تنتصر حتى لو أثارت المزيد من الفتن الطائفية والمذهبية.

ارتكبت “إسرائيل” في الضفة الغربية جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية كانت موضع إدانة شعوب العالم. ولا يخفف من هذه الإدانة استخدام “الفيتو” الأميركي في مجلس الأمن ضد قرارات الإدانة الرسمية. وتكفي الإشارة إلى ما توصل إليه المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في باريس في منتصف الشهر الماضي، من “أن الحرب على لبنان أدّت إلى تصاعد المشاعر المعادية للسامية ولاسيما في أوروبا”. لقد ارتكبت “إسرائيل” ولم تزل ترتكب في غزة كل أنواع القتل الجماعي والتدمير المبرمج. ولكن ذلك لم يؤدِّ إلا إلى المزيد من الكراهية والحقد. وإلى حقن الأجيال الفلسطينية الجديدة بالمزيد من التحفز للانتقام وللموت استشهاداً. قد تكون “إسرائيل” قد حققت لنفسها الأمن الذي تنشده. وقد تشكل لها ترسانتها النووية مظلة معنوية رادعة. ولكنها لا تزال وستبقى بعيدة جداً عن الأمان. بل إن هذا الأمن هو أمن وهمي، كما أثبتت الحرب الهمجية التي شنّتها على لبنان.. وكما تثبت صواريخ “القسام” المصنوعة في دكاكين الحدادة في قطاع غزة! فالترسانة النووية لم تحمِ “إسرائيل” من صواريخ “حزب الله”. وهي لم تردع صواريخ “القسام” الفلسطينية.

سقى الله الأزمان التي كان اليهود يلجأون فيها إلى الدول العربية (المغرب) والإسلامية (تركيا) هرباً من الاضطهاد الذي كانوا يكابدون منه في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن إذا كان من حقهم أن يكون لهم وطن ذاتي يلجأون إليه ويحتمون فيه، فليس من حقهم سلب الفلسطينيين وطنهم لإقامة هذا الوطن. وليس من حقهم تالياً حرمان الفلسطينيين من حق إقامة دولتهم ولو على جزء من أرضهم.

لقد كان رفض مشروع التقسيم رقم 181 الذي اقترحته الأمم المتحدة في عام 1947 خطأ.

وكان تهجير الفلسطينيين بافتعال المجازر (دير ياسين مثلاً) خطأ.

وكان رفض القرار 194 الذي يعطي الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم خطأ.

وكان رفض مشروع الدولة المتعددة الأديان (على غرار لبنان) الذي اقترحته منظمة التحرير الفلسطينية خطأ.

وكان تعطيل قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967 خطأ.

والآن فإن الرفض العملي لإقامة دولة فلسطينية على البقية الباقية من الأرض الفلسطينية أكثر من خطأ. إنه انتحار. فإذا كان الإنسان الفلسطيني يذهب من شدة يأسه إلى تحويل نفسه إلى قنبلة بشرية، فإن “إسرائيل” بهذا السلوك تحوّل شعبها كله إلى حقل ألغام بشرية. ابحثوا عن روديسيا. وعن النظام العنصري في جنوب أفريقيا. إن التاريخ حيّ، وهو يتحدث بصوت عالٍ. ولكن بعض الشعوب في آذانها وقر وتعميها غطرسة القوة.

من الواضح أن “إسرائيل” تعتمد على ثلاث ركائز في استراتيجيتها الرافضة للسلام:

الركيزة الأولى هي منع الدول العربية من بناء قدرة سياسية- عسكرية- اقتصادية فعّالة ومؤثرة، وذلك بإثارة الفتن والاضطرابات داخل كل دولة، وبإثارة الخلافات بين الدول العربية نفسها، وبينها وبين محيطها غير العربي. أليس غريباً مثلاً أن تفشل كل محاولات إقامة حتى سوق عربية مشتركة رغم أن جامعة الدول العربية أقرّتها منذ حوالي ثلاثة عقود؟

الركيزة الثانية هي الاعتماد على التحالف مع الولايات المتحدة وتعزيز هذا التحالف من خلال التشويه المستمر لصورة العالم العربي خاصة ولصورة الإسلام عامة في الغرب. وتلتقي حركة المسيحانية الصهيونية (الإنجيلية الأميركية) مع اللوبي الصهيوني الأميركي التقليدي ومع حركة “المحافظين الجدد” (ومعظمهم من الصهاينة أيضاً) حول عملية ربط السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط بمواقف معادية للعرب وللمسلمين.

الركيزة الثالثة هي القوة العسكرية الإسرائيلية الذاتية بحيث تبقى “إسرائيل” أقوى من الدول العربية مجتمعة. وفي هذا الإطار تقع الترسانة النووية الإسرائيلية المعززة بصواريخ متطورة متوسطة وبعيدة المدى، وبأسطول عسكري- جوي دائم والتحديث بحيث يبقى وبمساعدة أميركية أكثر تطوراً حتى من الأساطيل الجوية لدول حلف شمال الأطلسي. ف”إسرائيل” أصبحت شريكاً للولايات المتحدة في العديد من الصناعات العسكرية الإلكترونية الحديثة. في الوقت الذي فشل العالم العربي، أو أُفشل في تنفيذ مشروع المؤسسة العربية المشتركة للتصنيع العسكري. غير أن هذه الركائز الثلاث ليست ركائز دائمة. فالمتغيرات قد تعصف بها أو ببعضها، الأمر الذي يؤدي إلى تهاوي الاستراتيجية الإسرائيلية أمام أكثر من ثلاثمائة مليون عربي وأكثر من مليار وربع المليار مسلم ينظرون إلى أول فرصة للانتقام. يومها ستندم “إسرائيل” ولات ساعة ندم .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات