الأحد 06/أكتوبر/2024

التهدئة ومعادلة القوة

عبد الرحمن فرحانة

 

سؤال كبير ..!!

لماذا قبلت “إسرائيل” للتهدئة المتبادلة ؟ وماذا يعني ذلك؟

وبداية دعونا نتجاوز المحاججات السياسية ولنقرأ معادلة القوة في الميدان على ضفتي الصراع كما هي دون أي رتوش ، طازجة ومعبرة كمعيار عفوي لقياس درجة الإرادة لدى الطرفين ، وهي -الإرادة- كما تعرفون المفردة الأولى ذات السيادة في نسيج استراتيجية المواجهة بين أي طرفين.

مرة أخرى ، دعونا مع الصورة طازجة بدون أي ديكورات سياسية :

على الضفة الفلسطينية الاستشهادية المسنة “الحاجة فاطمة النجار” تقدم نموذجاً يصور مستوى الإرادة لدى الطرف الفلسطيني ، وهي في خريف العمر الذي يكون فيه المرء عادة ملتصقاً بالحياة أكثر، تقول الشهيدة الحاجة فاطمة “أم الفدائيات”:” أنا مشروع شهادة .. ترددها .. أنا مشروع شهادة”. وتقول زوجة ابنها نهاد “كانت تبكي كثيرا عند سماعها لأخبار قتل إسرائيل لأطفال فلسطين وتتوعد بالانتقام”. أبنتها الكبرى تروي فاصلاً – بتحدٍ عالى التردد- من حكايتها إذ تقول ابنتها بحسب إسلام أون لاين نت ” عندما كنا نطالبها أن تكف عن أنشطتها المساعدة للمقاومين، ونقول لها إن الشباب يقوم بالواجب كانت ترفض، فتقول لماذا نجلس في البيت؟ ما الذي ينقصنا لنضحي بأرواحنا فداء للوطن؟!”.

تضيف أبنتها قائلة : “يوم الحصار – في بيت حانون- كانت أمي في المقدمة كانت تجري وتكبر الله أكبر.. الله أكبر، واقتربت من الدبابة الإسرائيلية حتى اضطرت أن تنادي عليها النائبة جميلة الشنطي، وتناشدها ألا تقترب أكثر”. إذا كانت “البطارية” الفلسطينية مشحونة لهذه الدرجة في “خريف العمر” فكيف مع من يعيشون ربيع الحياة.

هذه هي ضفة المقاومة وصورة الإرادة في كنف “مواسير” القسام بحسب سخرية بعضنا. وهي نتيجة ليست مفاجئة لأن كل تجارب التاريخ تؤكد أنه لم يسبق لمستعمر تمكن من قهر إرادة مقاوميه مهما كان تفوقه النوعي ، وبحسب نماذج التاريخ المكرورة فقد كان المستعمر دوما متفوقاً على صعيد القوة المجردة ، ورغم ذلك كانت عاقبته الإنكفاء.

وحتى يكتمل سياق المقاربة فإليكم صورة من الضفة الصهيونية تعبر عن درجة الإرادة للطرف الآخر، وانظروا إلى مشهد الإرادة في كنف نظرية فرط القوة المتكئة إلى خرافة تفوق التكنولوجيا ، وأترككم مع المستوطن “حاجي كوتسر” من سكان “كيبوتس غبيم” ليحدثكم بنفسه.

يقول المستوطن عفواً المغتصب “كوتسر” :

“أنا من سكان احدى البلدات الـمجاورة لسديروت (“غلاف غزة”)، ومتزوج ولي ابنان في الثانية والرابعة. منذ فترة طويلة (ست سنين) ونحن نعاني اطلاق صواريخ القسام، وأردت إشراككم بمشاعري وبعجزي عن الدفاع عن أبنائي … نُسمع أكثر من مرة في اليوم صفارة “لون احمر”- صفارة الإنذار-، وبعدها ندعو الله ألاّ يسقط صاروخ القسام فوقنا … التأثير الـمتراكم للانفجارات والصفارات فظيع .. وعندما يستيقظ أبنائي في منتصف الليل مع الـمخاوف فان ذلك وضع فظيع .. الخوف من الـمشي في الشارع، في حين يمكن أن تُسمع الصفارة في كل لحظة، فظيع. النظر الى الجوانب، من اجل البحث عن مخبأ في كل لحظة، فظيع. لكن أصعب إحساس في الوضع الحالي هو بسبب تجاهل الحكومة الوضع وعدم قدرة الجيش الاسرائيلي… ضقت ذرعا بأن أجلس ساكنا ولا أفعل شيئا. ضقت ذرعا بعدم اهتمام الحكومة. ضقت ذرعا بعجز الجيش .. لا يهمني شخصيا طريق الحل. لـم ينتخبني أحد لترؤس الحكومة، أو لأكون وزيرا للدفاع أو رئيسا للاركان. يهمني فقط أن تهتم حكومة اسرائيل ومفوضوها بالهدوء، لي ولعائلتي”.

وعودة إلى سؤال المقال ، فبرغم أن صورة النموذجين الذين يصوران معادلة القوة لدى الطرفين تجيب بكل وضوح ، فربما تثور خلافات في قراءة هذه المعادلة المعبرة ، وما يمكن أن يثيره البعض من جدل حول صلاحية الصورة والمقاربة كمعيار أساسا.

ومع حضور ذلك في المناقشة أثناء قراءة المعادلة ، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر ؛ أنه رغم فائض القوة لدى الطرف الصهيوني فإن الوجع على ضفتهم أعلى وتيرة وله مفاعيل على القرار السياسي ؛ وقرار القبول بالتهدئة المتبادلة ترجمة لذلك. والإعلام العبري شاهد على هذا الاستخلاص.

والترجمة السياسية لذلك ، “أولمرت” و”بيرتس” يبحثان الآن عن مخرجٍ سياسي في أتون الأزمة السياسية التي يعيشها الكيان ، ويتخوفان من فشل عسكري في الجنوب “غزة” على نسق فشل الشمال “جنوب لبنان”. فعقدة الخوف من الفشل تطاردهما ، وتضغط عليهما في ذات الوقت كماشة ؛ طرفها الأول مستوطنات “غلاف غزة” التي تصرخ طلباً لحلٍ لصواريخ القسام ، وطرفها الثاني النخب السياسية التي بدأت تتحدث عن الأزمة الاستراتيجية – سياسيا- بحسب زئيف شيف الخبير الصهيوني الذي يعترف بتغير البيئة السياسية بالمنطقة بعد الهزيمة في لبنان وأزمة أمريكا في العراق ومجيء الديمقراطيين في الكونجرس، وهي أطراف تطالب بضرورة الحل السياسي ، لأن الحل العسكري ليس بمقدروه الحسم منفردا.

بلغة “استراتيجية” ، الكيان الصهيوني في أزمة استراتيجية ، يعبر عنها ، أزمة القيادة ، وتآكل المؤسسة العسكرية – نواة القوة في المشروع الصهيوني– وتفكك نظريتها الأمنية ، وسياقات المواجهات مع المقاومة التي أفشلت مفعول “القوة النوعية” وأبدت عجز الأخيرة عن التأثير وفرض الحلول بالقسر، وفي محصلة ذلك فقدان الكيان الصهيوني مكانته في العين الغربية على أن يكون دولة المركز بالمنطقة. والاهم من ذلك استجابة الكيان ذاته لحالة الضعف وترجمتها بمواقف سياسية باعتبار التهدئة أحدى تجليات هذه الحالة.

أما ماذا تعني التهدئة المتكافئة؟

فالصورة مؤشر على أن المشروع الوطني الفلسطيني في سياق التقدم برغم ضخامة الوجع وبدائية مفردات قوته ، والمشروع الصهيوني في درك التراجع برغم غلاف “القوة النوعية” الذي يتدثر بها.

والرسالة الاستراتيجية التي ينبغي أن يعيها الفلسطينيون في الوقت الراهن وفي ظلال هذه التهدئة المتكافئة أن يدركوا مفردتين ويعضوا عليهما بالنواجذ وهما :

وحدة الأجندة السياسية الفلسطينية على قاعدة القواسم المشتركة ، وحكومة الوحدة الوطنية فرصة لذلك

  الإدراك بأن معادلة الميدان تؤكد أن الشراكة قدر فلسطيني ، واحتكار القرار الفلسطيني ولى زمنه

يبقى أن نقولً لمن استيأس، دعونا نتهجى فقه الانتصار ، ونتمنى على البعض منا أن لا يسخر بأدوات قوتنا مهما كانت أجندته السياسية ، لأن “مواسير” القسام هي التي فرضت التهدئة المتكافئة ، وهي التي كسرت غطرسة العدو.

ونبضة أخيرة ، ليحذر كل من يناور ويستخدم الحوار لشراء الوقت ويظهر أجندة ويبطن غيرها ، لأن الوطن أغلى من كل الأجندات ، ولأن المقاومة الفلسطينية ليست “الثورة الساندنستية”، وهي عصية على “الإنقلاب الأمريكي المأمول” الذي يتناغم مع أحلام “الثوار المتقاعدين”.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات