الأربعاء 07/مايو/2025

ذهب المطبّع واستمر التطبيع

ذهب المطبّع واستمر التطبيع

شهدت العاصمة الموريتانية نواكشوط في أواسط آذار/مارس المنصرم احتجاجات ضد زيارة مسؤول في وزارة الخارجية “الإسرائيلية” لبلاد المليون شاعر، وضد استقباله من طرف العقيد علي ولد محمد فال رئيس “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية”. وتمثلت تلك الاحتجاجات في المظاهرات الطلابية التي اندلعت في الجامعة، وفي الاعتصام الذي جرى تنظيمه أمام السفارة الفلسطينية.

وبالمقارنة مع الاحتجاجات التي تصاعدت في الساحة الموريتانية ضد التطبيع مع “إسرائيل”، ولاسيما بعد إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع هذه الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 1999، فإن المراقب الموضوعي لا يملك إلا أن يسجل التراجع الكبير في قوة الاحتجاجات الأخيرة، وفي نوعية المشاركة الشعبية و الحزبية.

والمثير في الأمر أن المعارضة الموريتانية بتياراتها الوطنية والقومية والأصولية، كانت قد جعلت من إقدام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع على التطبيع الكامل مع “إسرائيل” محركاً لتعبئة وطنية واسعة ضد نظام هذا الأخير، وتمكنت من الزج بفئات شعبية وازنة في المعركة ضد التطبيع والمطبعين، مستفيدة في ذلك من تعلق معظم مكونات الشعب الموريتاني بالقضايا القومية، ومن تصاعد العدوانية “الإسرائيلية” ضد الانتفاضة الفلسطينية.

ولكن المعارضة المذكورة سارعت إلى تأييد الانقلابيين العسكريين الذين استولوا على السلطة في الثالث من آب/أغسطس الماضي، على الرغم من أن هؤلاء الأخيرين بادروا منذ الساعات الأولى لانقلابهم، إلى الإعلان عن أن السياسة الخارجية لبلادهم لن تتغير في عهدهم، وإلى أن الاعتراف بـ”إسرائيل” والتطبيع الكامل معها سيتكرسان. ولقد انتهز العقيد علي ولد محمد فال الفرصة مرة أخرى، خلال القمة الثانية لمجتمع المعلومات التي احتضنتها تونس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حين التقى وزير الخارجية “الإسرائيلي” وأكد له تمسك نواكشوط باستمرار وتطور علاقاتها مع تل أبيب. وجاءت زيارة المدير العام المكلف بقطاع الشرق الأوسط ومسلسل السلام بالخارجية “الإسرائيلية” لتبين أن ما أقدم عليه الرئيس الموريتاني السابق يكرسه ويطوره الذين انقلبوا عليه، وخاصة بعد أن عين هؤلاء مهندس التطبيع الكامل مع تل أبيب، أحمد ولد سيدي أحمد، وزيراً للخارجية في الحكومة التي أقاموها بعد نجاح انقلابهم.

 

 وعلى الرغم من المسؤوليات الشخصية المباشرة التي تحملها الرئيس الموريتاني السابق في توتير العلاقات مع المعارضة، وعلى الرغم من الدور الذي قد يكون لعبه هذا الأخير في أشكال التضييق والقمع التي عانى منها قادة تلك المعارضة، على الرغم من ذلك وغيره، فإن الاعتراض يتوجه إلى المواقف والبرامج والسياسات أكثر مما يتوجه إلى الأشخاص. وتبعاً لذلك، فإن التخلص من معاوية ولد الطايع لا يأخذ دلالته الكاملة إلا بالتخلص من سياسته. وعندما يتم تكريس تلك السياسة، والسعي إلى تطويرها يصبح التساؤل مشروعاً عما إذا كانت “التضحية” بولد الطايع وسيلة لإنقاذ سياسته وخاصة في مجال التطبيع الكامل مع “إسرائيل”.

ولكي يتم الإلمام بكافة جوانب الصورة يتعين التنويه بما قام به الإنقلابيون المنضوون في إطار “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية” من تدابير للعفو على السجناء والمعتقلين والمغتربين لأسباب سياسية، ومن مساع للحوار والتشاور مع قوى المعارضة لوضع الأسس الدستورية والقانونية للمرحلة القادمة التي ينعتونها بالديمقراطية. فهل تعتقد المعارضة الموريتانية أن انفتاح الانقلابيين عليها، وما كسبته من وراء ذلك من تحرير لمعتقليها، وعودة لمغتربيها، وإفساح المجال أمامها للعمل وسط جماهيرها، يبرر لها السكوت عن واقع التطبيع مع “إسرائيل”، أو يسمح لها بإعادة ترتيبه في آخر جدول اهتماماتها؟ أم أن هذه المعارضة تتجه إلى تفهم التبريرات التي استند إليها معاوية ولد الطايع من قبل، ويستند إليها خلفاؤه اليوم، في الاندفاع إلى التطبيع مع “إسرائيل”؟

وللتذكير، فقد عرف النظام الموريتاني، ابتداء من نهاية تسعينات القرن المنصرم على الخصوص، أزمات خانقة هددت وحدة واستقرار البلاد، وعزلت حكامها، وعرضتهم لحملات شرسة بدعوى ممارسة العبودية والتمييز والتعذيب. وهكذا وجدت نواكشوط نفسها في وضعية شديدة الحرج بعد الصدامات الدامية مع السنغال وما تبعها من ضياع للممتلكات، ونزوح في الاتجاهين. وقبل أن تندمل جراح الصدام المذكور، وجدت نواكشوط نفسها ثانية مجبرة على دفع ثمن قاس لمواقفها ومواقف شعبها في الصراع العراقي الكويتي. وخلال هذه المعاناة تضررت نواكشوط من الموقف السلبي الفرنسي الذي وصل أمره إلى حد اعتقال القضاء الفرنسي لأحد الضباط الموريتانيين الذي كان يشارك في دورة تدريبية بفرنسا، وذلك بدعوى ممارسة التعذيب في حق موريتانيين زنوج. ورد الموريتانيون بإبعاد الخبراء العسكريين الفرنسيين وإيقاف التعاون العسكري مع فرنسا. وإلى جانب هذا وغيره. خاضت الدوائر الصهيونية في الولايات المتحدة حملة شديدة الشراسة ضد حكام موريتانيا بدعوى تساهلهم مع ممارسة الرق ضد مواطنيهم. أما المؤسسات المالية، وخاصة منها الدولية. فقد تلكأت في مساعدة نواكشوط.

وفي مواجهة هذه المصاعب اختار نظام معاوية ولد الطايع إغضاب شعبه واسترضاء واشنطن عن طريق استخدام ورقة التطبيع مع “إسرائيل”. وسارع إلى فتح مكتب اتصال بتل أبيب مقابل مكتب اتصال “إسرائيلي” بنواكشوط سنة 1992، وذلك قبل توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي الوقت الذي كانت فيه “عملية السلام” تلفظ أنفاسها الأخيرة، بادر النظام الموريتاني إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع “إسرائيل” في أواخر سنة 1999.

وإذا كان التطبيع مع “إسرائيل” قد ألهب الوضع الداخلي في موريتانيا، فإنه من جانب آخر قد ترافق مع الكرم غير المسبوق للمؤسسات المالية الدولية، وهو كرم لم ينحصر في القروض والمساعدات بل شمل كذلك الشهادات الإيجابية لمصلحة الأداء الاقتصادي الموريتاني. وترافق التطبيع المذكور كذلك مع تراجع الحملات الخارجية ضد حكام نواكشوط، ومع تنامي الاهتمام الأمريكي بموريتانيا وبدورها في مواجهة الإرهاب الذي يقال: إنه يستهدف منطقة الساحل الإفريقي.

وبعد انقلاب الصيف الماضي، سارعت واشنطن إلى ابتلاع اعتراضاتها “الديمقراطية” ضد الانقلابيين مباشرة بعد الاطمئنان على استمرار التطبيع الموريتاني مع تل أبيب.

 

* كاتب مغربي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...