الأحد 06/أكتوبر/2024

«خريطة الطريق» صفحة جديدة في سجل العبث

«خريطة الطريق» صفحة جديدة في سجل العبث

تمثل «خريطة الطريق» صفحة جديدة في سجل العبث الذي تتوالى موجاته ووقائعه بصورة مدهشة في العالم العربي، فرغم أن أوساطا عربية رسمية، وأبواقا إعلامية بالتالي، ما برحت تطنطن للخطة، وتتعامل معها وكأنها أمل يمكن التعويل عليه للخروج من المأزق، فإن احدا خارج العالم العربي لم يأخذها على محمل الجد، بوجه أخص في الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

ويلاحظ المراقب أن الطرف العربي والفلسطيني صار يؤكد بمناسبة وبغير مناسبة تعلقه والتزامه بالخطة، ويسعى جاهدا للتدليل على حسن النية إزاءها، بل والتأكيد على أن خطوات تنفيذها بدأت بالفعل، وان السلطة الفلسطينية لم تقصر في الوفاء باستحقاقاتها، قدر استطاعتها. يحدث ذلك في الوقت الذي تمهد فيه الإدارة الأمريكية للتراجع عنها، وبينما تهيئ لها “إسرائيل” المكان الذي يناسبها في «أرشيف» مبادرات الشرق الأوسط. ومن ثم تعمل على تجاوزها في هدوء، وهي مطمئنة إلى أن أحداً لن يستطيع أن يضغط عليها لكي تقبلها.

لقد تناقلت بعض الصحف العربية في الأسبوع الماضي تفاصيل الوثيقة التي أعدتها دائرة شؤون المفاوضات في السلطة الفلسطينية حول الكيفية التي نفذت بها أجهزة السلطة غالبية استحقاقات المرحلة الأولى من «الخريطة»، في حين أن “إسرائيل” لم تعلن من حيث المبدأ قبولها للخطة وما برحت تعلن تحفظها عليها، ليس ذلك فحسب، وإنما واصلت سياستها الوحشية المتمثلة في نهب الأراضي والتوسع في الاستيطان واجتياح القرى والمدن الفلسطينية، واستمرار عمليات القتل والاجتياح وتدمير بيوت الفلسطينيين وتجريف زراعاتهم، فضلا عن تدمير البنى التحتية للمجتمع الفلسطيني.

قالت مصادر السلطة إن الوثيقة التي أعدتها قدمت إلى وزير الخارجية الأمريكي كولين باول، أثناء لقاءه محمود عباس (أبو مازن) رئيس الوزراء الفلسطيني، الذي أحيط بها علماً، ودسها بين أوراقه، ربما لكي يضمها إلى «أرشيف» المبادرات.

حسب كلام وزير الإعلام الفلسطيني نبيل عمرو فإن باول «جاء ليطالب الفلسطينيين بتحقيق التزاماتهم، بينما “إسرائيل” تدوس كل يوم على التزاماتها». وأجمعت التقارير الصحفية التي تابعت زيارة وزير الخارجية الأمريكي “لإسرائيل” واجتماعه بقادتها على أمرين; الأول أنه لم يمارس أي ضغط على “إسرائيل” بخصوص الخريطة، وإنما ضغوطه كانت مكثفة في مواجهة الطرف الفلسطيني. أما الثاني فإن شارون لم يهتم بمناقشة الموضوع معه، مؤثراً أن يكون الكلام الجاد والمهم مع رئيسه (بوش)، في اجتماعه المرتقب معه أثناء الزيارة التي سيقوم بها إلى العاصمة الأمريكية غدا، ولكن شارون أعطى لوزير الخارجية الأمريكي «فكرة» عن الصعوبات التي تواجهه في تنفيذ الخطة. في هذا الصدد ذكرت «الشرق الأوسط» (عدد 5/13) انه تعلل في حديثه مع باول بأن قيادة الجيش تضع «شروطا قاسية» يتعذر في ظلها الالتزام بالخطة، لأنها «لم تعد تثق بالفلسطينيين ووعودهم»، وقال صراحة إنه لا يستطيع أن يتعهد بوقف الاغتيالات لقادة المقاومة الفلسطينية.

ومما ذكره مراسل «الشرق الأوسط» في “تل أبيب” بهذا الصدد أن وزير الدفاع شاؤول موفاز حاول إقناع باول بأن «هذه الاغتيالات تصب في مصلحة أبو مازن، لان هؤلاء القادة يريدون التخريب على أبو مازن، ومنعه من النجاح في مهمته كرئيس للوزراء، ونحن نقوم بتخليصه منهم».

ولا أعرف أن كان باول صدق الكذبة أم لا، لكن القدر المتيقن أنه كان في “تل أبيب” مستمعاً أكثر منه متحدثاً، ولكنه في اجتماعه مع أبو مازن في أريحا كان متحدثا أكثر منه مستمعا.

لم يعد سراً أن “لإسرائيل” ما لا يقل عن 14 أو 15 تعديلاً على خريطة الطريق، و أنها ترى أنه يتعذر عليها قبول الخطة ما لم تدخل عليها التعديلات، التي تصب في مجرى واحد هو: تحقيق الأمنية “الإسرائيلية”، وتركيع الفلسطينيين إلى الأبد. وفي مقالة نشرتها «معاريف» للمعلق “الإسرائيلي” حيمي شليف (في 5/12) ذكر صراحة أن احتمال تبني حكومة شارون للخطة ضعيف جدا، لأن كثيراً من بنودها متعارض بشدة مع المبادئ الأساسية، لا الخاصة بوزراء الحكومة من اليمين فقط، وإنما تلك الخاصة برئيس الحكومة ارييل شارون شخصيا. فهو مثلا يشترط للقبول بفكرة الدولة الفلسطينية، حتى وإن كانت «كارتونية» ومنزوعة السيادة، التنازل سلفا عن حق العودة». وبما أن احتمالات حدوث ذلك واهية ـ حيث لا يستطيع ولا يملك أي مسئول فلسطيني أن يقبل بإسقاط 5.4 مليون شخص من بني جلدته مقيمين في المخيمات والمنافي بالخارج ـ فإن ذلك يعد سببا كافيا لطي الخريطة من البداية. من ناحية ثانية، فالخريطة تقرر أن الحدود النهائية للدولة الفلسطينية ستوضع عام 2005، وذلك يتناقض تماما مع مطلب شارون بـ«تسوية بعيدة المدى»…إلخ

الخلاصة أن “إسرائيل” سعيدة بالالتزامات الفلسطينية في الخريطة، لكنها رافضة لأهم الالتزامات “الإسرائيلية”، ولذلك فإنها ترحب بأن يكون الطريق ذا اتجاه واحد، وليس اتجاهين.

وهي تحاول التملص من العملية دون أن تسبب حرجا للرئيس بوش، فإن المسئولين “الإسرائيليين” لجأوا إلى حيلة خبيثة، خلاصتها أنهم يعلنون أنهم يؤيدون تماما كل ما قاله الرئيس بوش فيما وصف بأنه «رؤية»، التي أعلنها في خطاب 2002/6/24، وضمنها عدة مبادئ لحل القضية الفلسطينية، ولكنهم يتذرعون بأن «الخريطة» التي أعدتها «اللجنة الرباعية» لا تعبر بدقة عن الآراء التي أعلنها الرئيس الأمريكي ، وهذه الحجة ـ التي نقلها شارون لكولن باول ـ تضمنت غمزا، في الرئيس بوش، ومدحا في حليفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وهو ما عبر عنه المعلق “الإسرائيلي” عكيفا الدار (هآرتس 5/13) حين أشار إلى أن بوش لم ينتبه إلى أن أعضاء اللجنة الرباعية الدولية ـ ومنهم باول نفسه ـ باعوه خريطة طريق تؤدي إلى اتجاه مغاير للاتجاه الذي حدده هو. في هذا الصدد فإن المعلق “الإسرائيلي” ذكرَّ بما قاله في وقت سابق رئيس الكنيست “الإسرائيلي” لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية من أن «توني بلير أغرى بوش بمداهنته ونفاقه، ودفعه لتبني خريطة الطريق الرباعية»، أي أن بوش كان صادقا في المبادئ التي أعلنها، ومن ثم لا تثريب عليه، لكنه في النهاية سقط في شرك بلير.

بهذه الحيلة التي برأت بوش وهاجمت الخريطة في شخص بلير (وصفته الصحف “الإسرائيلية” بأنه عدو “لإسرائيل”)، وحين سئل شارون عن ذلك قال: لا أقول إنه عدو، ولكن لا شك أنه أعطى لنفسه حرية زائدة في إقرار مصير “إسرائيل”، ونحن لن نسمح له بذلك («يديعوت احرونوت» 4/16).
رد الفعل الأمريكي على الموقف “الإسرائيلي” كان كالتالي: في الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش يوم 5/9 وأعلن فيه «مبادرة» جديدة تعلقت بإقامة منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط، لوحظ انه تجاهل تماما خريطة «الطريق»، وركز على عودة “الإسرائيليين” والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات.

السفير الأمريكي لدى “إسرائيل” دانيال كيورتز قال في اجتماع مغلق لعدد من السياسيين “الإسرائيليين” «طالما أن الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” يوجهان الانتقادات والتحفظات للخطة، فإنها لم تعد مناسبة، وينبغي عدم المبالغة في إعطائها أهمية زائدة «الشرق الأوسط» 4/16).

في 4/15 قال ريتشارد بيرل عضو مجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، وأحد أهم العقول في الادارة الاميركية، في محاضرة ألقاها في معهد «أمريكان انتر برايز» ـ أحد منابر القادة الأمريكيين ـ أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتسرع في مكافأة العرب بسبب موضوع العراق، ومن ثم فعليها أن تتروى في موضوع «خريطة الطريق».

مارتن انديك السفير السابق لدى “إسرائيل”، كتب مقالة مهمة بعدد أول ابريل في مجلة «فورين افيرز»، دعا فيها إلى صرف النظر عن «خريطة الطريق» واستبدال مشروع آخر بها يضع فلسطين تحت الوصاية، بحيث تقوم الولايات المتحدة بإدارتها لتأهيل الفلسطينيين، حتى يكونوا قادرين خلال بضع سنوات على تسلم إدارة فلسطين المستقلة بأنفسهم.

إن “إسرائيل” تعرف جيداً أن الغلاة الذين تعززت مواقعهم في واشنطن لهم نفوذهم القادر على تحقيق الاستجابة الأمريكية المستمرة للتطلعات “الإسرائيلية”، وتعلم أن لها نفوذها القوي في الكونغرس، الذي يمكنها من الاطمئنان إلى أن مصالحها لن تمس ورغباتها ستحظى بالحفاوة والتأييد، وتدرك في الوقت ذاته أن الرئيس بوش متطلع للفوز لفترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستجري في أواخر العام القادم (نوفمبر)، وسوف يدفعه ذلك إلى مجاملة “الإسرائيليين” واليهود الذين يتطلع لكسب دعمهم المالي وأصواتهم، ولذلك كله فهي مطمئنة إلى سيطرتها على الموقف، و أنها ستظل صاحبة الكلمة الأخيرة في الموضوع الفلسطيني.

من أسف أن ذلك يحدث بينما ما زالت بعض العواصم العربية واقفة عند خريطة الطريق، والبعض يعتبرها طوق نجاة، وغاية المراد من رب العباد، لكننا نحمد الله على أن أهل المقاومة ومن لف لفهم لم ينخدعوا بالكذبة منذ اللحظة الأولى، وما يزالون قابضين على الجمر، ندعو لهم بالثبات والصبر على ظلم ذوي القربى.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات